لا يزال الحديث عن الصحوة الإسلامية، يأخذ مجاله الكبير في حركة الفكر المعاصر على مستوى النظرية والتطبيق، ليطرح تساؤلات كثيرة حول القضايا العامة التي أثارتها هذه الصحوة في عالم الإنسان، من حيث العناوين التي طرحتها في الساحة، ومن حيث المشاكل التي أثارتها، أو التحديات التي واجهتها، أو النتائج التي وصلت إليها.
فهل استطاعت هذه الصحوة أن تنقل الإنسان إلى عالم جديد تختلف معطياته الفكرية والسياسية والاقتصادية عن المرحلة التي سبقتها، فتتبلور له قضاياه في مسألة الحرية أو العدالة، وتمنحه الأصالة في حركته نحو التوازن في حركة وجوده.
وهل تمكنت من إثارة مسألة الظلم المنتشر في الأرض لتتحدث عن كيفية مواجهته وتحريك قضية العبودية لتثير الفكر عن نوعية السيطرة عليها، وعن مسألة الجهل وطبيعة حلها وموضوع التخلف، لتبحث عن إمكانات الخروج منه.. وهل كانت في مستوى التحديات التي يفرضها الفكر الآخر أو الواقع المضاد..؟؟
وهل وصلت إلى بعض النتائج الحاسمة في حركة الأهداف؟ وهل استطاعت أن تكون البديل عن كل الواقع المسيطر على العالم؟
قد نحتاج في مواجهة هذا النوع من علامات الاستفهام أن نتفهم طبيعة هذه «الصحوة الإسلامية» وحجمها في حركة الواقع لنحدد صورتها وأبعادها الفكرية من خلال ذلك على مستوى النتائج، فما هي طبيعتها، وما هو حجمها؟..
جاءت الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني رحمه الله وصحبه الأبرار، واستطاعت أن تتفاعل مع محيطها الواسع في الأمة في هدفها المرحلي، وهو إسقاط الحكم الامبراطوري الذي كان يمثل الواجهة العريضة للسيطرة الاستكبارية الأمريكية في إيران، ويتحرك من أجل إضعاف الروح الإسلامية لحساب الروح الكافرة المرتبطة بالتاريخ القديم المنفتح على المجوسية والزرداشتية وغيرها...
إننا نلاحظ أن الوضع الإسلامي كان يعيش حالةً من الركود في حركيته، فقد كان الفكر غارقاً في الكثير من الهوامش والتفاصيل التي تأكل حيويته، لأن المسألة كانت تتحرك في ذهنية التراث لا في ذهنية الحركة.. وكانت مسألة مواجهته لمشاكل الحياة على مستوى الواقع غارقةً في الضباب الذهني الذي فرضته الأفكار الجدلية التي لا تنفتح على آفاق النور في موقع، إلاَّ لتحاصرها الظلمة في موقعٍ آخر.. ما جعل البعض يطرح الإسلام في دائرة العباديات والأخلاقيات العامة والتشريعات الفردية بعيداً عن مسائل الحياة العامة في نطاق المسؤوليات السياسية والجهادية، كما جعل بعضاً آخر يطرح تجميد الإسلام في حركيته - مع اعترافه بشموليته - انتظاراً لآخر الزمان، لأن الظروف الحاضرة تمنع شرعيته، ويرى فريق ثالث أن مسألة الحديث عن الإسلام الشمولي قد تجاوزها الزمن، لأن المراحل الزمنية التي قطعها الإنسان ربطته بأوضاع جديدةٍ لم يواجهها الإسلام في مرحلة نشوئه وحركته السابقة، ما يفرض عليه أن يتخلى عن دوره للأفكار الجديدة التي تتسع لمشاكل الإنسان الجديدة، ليكون الإسلام مصدر إلهام في أفكاره وقيمه العامة، بدلاً من أن يكون مصدراً للعقيدة بتفاصيلها، أو للشريعة بشموليتها، ويقف إلى جانب ذلك فكرٌ إسلامي يعمل على الهروب من الغيب. ما أمكنه ذلك، ليتحرك في نطاق التوفيق بين ما هو الفكر الإسلامي وبين ما هو الفكر الغربي الذي فرض نفسه على الواقع السياسي في موازين القوة والضعف، لتكون المسألة المطروحة هي أن الإسلام يتفق مع المعطيات الحديثة للفكر الإنساني، وللتقدم العلمي، ما يجعل ذلك هو الميزان للقيمة الإسلامية في نظر الإنسان المسلم.. وهذا هو الاتجاه الذي قد لا يعوز أصحابه الإخلاص للإسلام، ولكنه يخضع للذهنية التي عاشت الانبهار بالحضارة الغربية، فأرادت للإسلام أن يأخذ بأسبابها في مجال التفسير للقرآن، والتوجيه للشريعة.. وقد انطلق - مع هذا الفكر التوفيقي - فكر حركيٌّ على أنقاض الفكر المتخلف الذي يُبعد الإسلام عن الحياة وفي مواجهة الصدمة الكبيرة التي انسحب فيها الإسلام من مواقع الحكم والتشريع من خلال الهجمة الشرسة على الإسلام في قواعده السياسية التي قادها الاستكبار العالمي الغربي القائم على الكفر والانحراف، لتقود المسلمين إلى الفكر المتحرك في النطاق الوطني أو القومي، بعيداً عن النطاق الإسلامي.
وهكذا بدأ المسلمون الواعون يخططون لحركة إسلامية سياسية تعمل على إعادة الإسلام إلى الحياة العامة في حركة الفكر والتشريع والجهاد..
وقد أفسحت هذه الحركة الإسلامية المجال لنشاط إسلاميّ سياسي وفكريٍّ في مختلف بلدان العالم الإسلامي، حتى تحوَّلت الحركة إلى حركات متعددة تختلف في التفاصيل الذهنية أو المفردات التشريعية، أو في النظرة السياسية.. ولكن ذلك كله لم يستطع أن يحرّك الواقع الإسلامي الخاضع للسيطرة الاستكبارية، ليأخذ بأسباب الحرية والاستقلال على أساس القاعدة الإسلامية الفكرية السياسية.. بل كان الأمر في ذلك مشدوداً إلى الأفكار الجديدة المطروحة في دائرة التفكير الغربي على مستوى الحركة السياسية.. فكنا نرى ثورة قومية هنا وحركة وطنية هناك، وحديثاً عن معارضة ماركسية في مجال آخر.. أما الحركة الإسلامية، فإنها تعيش في نطاق الصراع الثقافي، أكثر مما تعيش في ساحة الصراع السياسي، وإذا استطاعت أن تصل إلى بعض مواقع القوة، كان الإعلام الخاضع للغرب يعمل على أن يبعدها عن الوجهة، كما أن أجهزته المخابراتية كانت تعمل على إثارة الفوضى في داخل هذه المواقع لتضعفه من الداخل، وتبعده عن التأثير الحاسم. وفي هذا الجوّ القلق الذي كان مفروضاً، أصيبت الحركة الإسلامية ببعض الانكماش، فيما هي المسألة الثورية، وببعض الضعف، فيما هي المسألة السياسية.. بحيث أصبحت تمثل الدوائر المحدودة المحاصرة من قبل أجهزة الحكم العميل للغرب فيها، ومن قِبَل الذهنيات المتغربة التي درست في معاهد الغرب فيما ركزته من المفاهيم التي تفصل بين الدين والدولة، وتنعى على الإسلام تدخله في السياسة، ومن قِبَل العقليات المتخلفة المتحجرة التي تحصر الإسلام في دائرة العبادة وتبعده عن دائرة الحياة العامة.
ولادة الصحوة الإسلامية
ثم جاءت الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني رحمه الله وصحبه الأبرار، واستطاعت أن تتفاعل مع محيطها الواسع في الأمة في هدفها المرحلي، وهو إسقاط الحكم الامبراطوري الذي كان يمثل الواجهة العريضة للسيطرة الاستكبارية الأمريكية في إيران، ويتحرك من أجل إضعاف الروح الإسلامية لحساب الروح الكافرة المرتبطة بالتاريخ القديم المنفتح على المجوسية والزرداشتية وغيرها...
انطلقت الدوائر الصغيرة المتناثرة في بلدان العالم الإسلامي لتتسع وتنطلق وتتحرك من خلال هذه الروح الجديدة التي حوَّلت الإسلام إلى تيار جارف، وموج هادرٍ، بعيداً عن التنظيمات الحزبية الضيقة وعن الحركات السياسية المحدودة، بحيث انطلقت جماهير الأمة لتفرض على قياداتها الانفتاح عليها بشكل أوسع وأعمق، لأن حاجاتها قد كبرت في حجمها عمَّا كانت عليه.. وربما استطاعت الجماهير أن تسبق قياداتها في الموقف والموقع والحركة، حتى أصبحت المسألة هي أن تبادر القيادات للحاق بالجماهير بدلاً من العكس...
وكان سقوط هذا الحكم الذي يمثل القاعدة القوية للكفر والاستكبار، بفعل الإسلام الحركي المنطلق من موقع المرجعية الشرعية المنفتحة على الحياة في موقع المسؤولية..
انقلاب اسلامي
هو الصدمة القوية التي استطاعت أن تصنع الزلزال، لتثير علامات الاستفهام في العالم كله عن مدى القوة التي يملكها الإسلام في صنع الثورة، في روحيته التي تصنع الإنسان بطريقة فاعلة مؤثرة في كل كيانه، وفي حركيته التي تتحدى العقبات الصعبة التي يضعها الآخرون في الطريق، وفي قدرته على المواجهة والإثارة والاستمرار، ثم لتحرك المسلمين نحو الإحساس بقدرة الإسلام على صنع الثورة، وعلى رد التحدي، وإثارة التحدي بطريقة فاعلة حاسمة، وبقدرته على صنع الدولة من خلال الاكتفاء الذاتي في التشريع، على أساس خط الاجتهاد، الأمر الذي أعاد الثقة للمسلمين بإسلامهم في قدرته على قيادة الحياة باسمه.. وبدأ الحسّ السياسي يتبلور في الحسّ الإسلامي، وانطلق المسلمون يفكرون بأن الثورة قد تكون الطريق الأقرب لإقامة حكم الإسلام، ويتحدثون عن الإصلاح بطريقة سلبية في مقابل عملية التغيير الشامل الذي يأخذ عنوان الثورة على كل مواقع الاستكبار في مصالحه وأوضاعه المنتشرة في بلاد المسلمين.. وهكذا ولدت الصحوة الإسلامية التي نفضت النوم عن عيون المسلمين، فأصبحوا يحدّقون بالنور الذي يملأ آفاق الإسلام في فكره وثورته، كما أبعدت المسلمين عن الاستغراق في الغفلة المطبقة على عقولهم وقلوبهم، ودفعت بهم إلى الاندفاع نحو مواجهة التحديات بكل طاقاتهم التي تتحدى الأخطار، وتتحمل الجراح، وتختزن الآلام، وتعيش مشاكل الجهاد كله بصبر وإخلاص.. وبدأ المسلمون يفكرون بالسلبيات الكثيرة التي واجهت الواقع الإسلامي في مسألة الحرية والعدالة، لتكون خاضعة للتخطيط الفكري غير الإسلامي، ويتحدثون عن ضرورة الحركة الثورية على أساس المفاهيم الإسلامية، ليعيش المسلم وحدة الموقف بين ما هو الفكر والعمل، وبين ما هو النظرية والتطبيق، فلا يكون مسلماً في العبادة وكافراً في السياسة، ومنحرفاً في خط السير...
وكانت الثورة الإسلامية في إيران هي القاعدة الصلبة التي انطلقت منها روحية هذه الصحوة وحركيتها وفاعليتها وتأثيرها على الجوّ الإسلامي كله بشكل مباشرٍ أو غير مباشر..
وفي ضوء ذلك، ارتفعت الغشاوة عن وعيهم الفكري والروحي، فأصبحوا يملكون الحذر في ما يُطرح من أفكار، وفي ما تتحرك في أوساطهم من دعوات، وفي ما يثار في ساحاتهم من تهاويل، أو يخطط لهم من مشاريع.. ليفكروا في ذلك بطريقة واعية تناقش ذلك كله في نطاق الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية، لتأخذ بالأصالة في الانتماء والموقع والحركة والامتداد، بحيث لا يجدون في ما يأخذون به أيّ انحراف في فكر أو أي خلل في الموقف..
وانطلقت الدوائر الصغيرة المتناثرة في بلدان العالم الإسلامي لتتسع وتنطلق وتتحرك من خلال هذه الروح الجديدة التي حوَّلت الإسلام إلى تيار جارف، وموج هادرٍ، بعيداً عن التنظيمات الحزبية الضيقة وعن الحركات السياسية المحدودة، بحيث انطلقت جماهير الأمة لتفرض على قياداتها الانفتاح عليها بشكل أوسع وأعمق، لأن حاجاتها قد كبرت في حجمها عمَّا كانت عليه.. وربما استطاعت الجماهير أن تسبق قياداتها في الموقف والموقع والحركة، حتى أصبحت المسألة هي أن تبادر القيادات للحاق بالجماهير بدلاً من العكس...
وكانت الثورة الإسلامية في إيران هي القاعدة الصلبة التي انطلقت منها روحية هذه الصحوة وحركيتها وفاعليتها وتأثيرها على الجوّ الإسلامي كله بشكل مباشرٍ أو غير مباشر.. لا سيما بعد أن تحوّلت إلى دولةٍ لا تبتعد عن خط الثورة، وانطلقت لتأخذ موقعها الكبير في ساحات الصراع على مشارف التحدي.
اعداد: سيد مرتضي محمدي
source : www.tebyan.net