وهم من فرق المرجئة التی برزت فی نهایة العهد الأموی بـ ( ترمذ ) إحدى نواحی خراسان من إیران، وغلب علیها هذا الاسم نسبة إلى مؤسسها جهم بن صفوان، ویقال لهم مرجئة أهل خراسان، ویعدّون من الجبریة، وترمی معتقداتهم الى إرجاع المسلمین الى العقائد السائدة فی العصر الجاهلی.
عوامل الظهور :
ـ تربّیَ جهم بن صفوان مولى بنی راسب على ید الجعد بن درهم الذی أخذ أفکاره وآراءه من أبان ابن سمعان الذی تعلم من طالوت بن أخت لبید وتلمیذه وکان لبید یهودیا، فمصدر عقائد جهم ونظریاته تـنبع من أسس غیر سلیمة وبعیدة عن المبانی والأسس الإسلامیة إذ لم ینشأ فی ظل وإنما استقى نظریاته من الفلاسفة القدماء لدیانات قدیمة. ویظهر أن أفکار فرقته ابتدأت یهودیة وکانت تجری مثل هذه الأفکار والمناقشات فی الأوساط والمجتمعات الفارسیة.
ـ دعم حکام الأمویین وتأییدهم للآراء والعقائد التی تتلاءم ومبادئهم السیاسیة. ویُذکر انهم اشاعوا فکرة الجبر لتوطد دعائم حکمهم ولذا نجد ان القول بالجبر شاع فی بدایة العصر الأموی، وقد اعتبر من خصائص الفرقة الجهمیة، وذکر ابن حزم انهم قالوا : إن الإنسان مجبر على افعاله، وجعلوا افعال العباد اضطراریة طبیعیة کفعل النار للاحراق بطبعها وفعل الثلج التبرید بطبعه.
ـ انتقال مرکز الخلافة الأمویة إلى دمشق ساعد على کثرة الالتقاء والامتزاج بین العرب والأمم التی دخلت الإسلام حدیثا وهی تحمل موروثات دیاناتهم وعاداتهم القدیمة، انتشرت اقوال ومعتقدات جهم بن صفوان زعیم الجهمیة ومؤسسها، فی بیئة فارسیة وبث نحلته بینهم فوجدت لها مناخاً مناسباً للنمو.
ـ الجذور التاریخیة للأفکار الجهمیة تعود إلى مرحلة صدر الإسلام وقد أشار القرآن الکریم إلى ذلک بقوله تعالى : ( سیقول الذین أشرکوا لو شاء الله ما أشرکنا نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شیء کذلک کذب الذین من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا، قل هل عندکم من علم فتخرجوه لنا ان تتبعون إلا الظن وان أنتم إلا تخرصون ).
قال بعض الثائرین لعثمان أثناء حصاره حینما احتج علیهم ( نحن ما رمیناک ولکن الله رمى )، وتکررت المقولة فی خلافة الإمام أمیر المؤمنین علی ( علیه السلام ) حینما سئل عن مسیر الجیش لحرب صفین هل کان بقضاء الله ؟
النشأة والتطور :
ـ ابتدأت بذرة الفرفة الجهمیة الأولى فی الکوفة عندما أخذ مؤسسها الجهم بن صفوان من معلمه الجعد بن درهم أفکاره ومعتقداته، ثم انتقل الجهم بعقیدته إلى خراسان للتبشیر بفکرته وبث نحلته ودعا الناس إلى العمل بها.
ـ کان مؤسس الفرقة الجهمیة الجهم بن صفوان فی بدایة أمره على رأس الجبریة وأحد کبار الدعاة لها فی خراسان لتوطید الحکم الأموی، فالعامل السیاسی أضفى على هذه النحلة صبغة دینیة، والهدف من ورائها تثبیت أرکان الحکم الأموی. وعند خروج الحارث بن سریج على السلطة الأمویة التحق به جهم ووقف ضد بنی أمیة وکان فصیحا خطیبا یدعو الناس فیجذبهم بقوله واتبعه الکثیر من أهل خراسان وقد هزم الحارث فی حربه مع بنی أمیة وأسر جهم وقتل سنة ( 128 هـ ) ومن هنا نرى أن جهماً قتل لأمر سیاسی لا علاقة له بالدین.
ـ انقسمت الفرقة الجهمیة إلى اثنتی عشرة فرقة وأبرز هذه الفرق کما یذکر مؤلفو کتب الفرق هی:
المعطلة : زعموا ان کل ما یقع علیه وهم الإنسان فهو مخلوق، ومن ادعى ان الله یرى فهو کافر.
وأما المریسیة فقالوا : أکثر صفات الله مخلوقة.
والملتزمة جعلوا الباری سبحانه وتعالى فی کل مکان.
والواردیة قالوا : لا یدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم یخرج منها أبدا.
والزنادقة قالوا : لیس لأحد أن یثبت لنفسه ربا لان الاثبات لا یکون إلا بعد ادراک الحواس وما یدرک بالحواس فلیس بإله، وما لا یدرک لایثبت.
والحرقیة : زعموا أن الکافر تحرقه النار مرة واحدة ثم یبقى محترقا أبدا لا یجد حر النار.
والمخلوقیة : زعموا ان القرآن مخلوق.
والفانیة : زعموا ان الجنة والنار تفنیان، ومنهم من قال إنهما لم تخلقا.
والمغیریة : جحدوا الرسل فقالوا : انما هم حکام.
والواقفیة قالوا : لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غیر مخلوق.
والقبریة : ینکرون عذاب القبر والشفاعة.
واللفظیة قالوا : لفظنا بالقرآن مخلوق.
ـ ساند جهم بن صفوان التحرک الثوری فی خراسان ضد بنی أمیة بقیادة حارث بن سریج وکان من المتقدمین فی مناصرته.
ـ لاقت الفرقة الجهمیة معارضة فکریة وعقائدیة قویة إذ قاومها أهل العلم والرأی ورأوا فیها الخطر الکائن لافساد عقیدة المسلم، وقد تصدى للرد علیها فی العصور المختلفة کثیر من علماء الطوائف السنیة والشیعیة، یقول عبد القاهر البغدادی ـ بشأن الجهم وعقیدته ـ : وکفّره اصحابنا فی جمیع ضلالاته، وکفرته القدریة فی قوله : ان الله خالق أعمال العباد فاتـفقت أصناف الأمة على تکفیره فتـقوضت آراؤه وانقرضت فرقته واندمج الکثیر منها فی الفرق الأخرى.
الأفکار والمعتقدات :
طرحت الفرقة الجهمیة أفکاراً کثیرة فی مسائل شتى إلا أننا نستعرض أهمها وهی.
ـ إنه لا فعل لاحد على الحقیقة إلا الله تعالى، وان الخلق فیما ینسب إلیهم من الأفعال کالشجرة تحرکها الریح، إلا أن الله خلق فی الإنسان قوة کان الفعل بها، وخلق نیة إرادة الفعل واختیاره کما خلق فیه سروراً بذلک وشهوة، والإنسان مجبور لا اختیار له ولاقدرة، وان الله قدر علیه أعمالاً لا بد أن تصدر منه.
ـ إن الإیمان عقد بالقلب وان أعلن الإنسان الکفر بلسانه بلا تقیة، وعبد الأوثان أو لزم الیهودیة أو النصرانیة فی دار الإسلام، وعبد الصلیب، وأعلن التثلیث، ومات على ذلک فهو مؤمن کامل الإیمان عند الله عزوجل ولی لله تعالى ومن أهل الجنة.
ـ ان علم الله محدث هو احدثه فعلم به، وقد یجوز ان یکون الله عالماً بالاشیاء کلها قبل وجودها بعلم احدثه قبلها.
ـ إن الإمامة یستحقها کل من قام بها إذا کان عالماً بالکتاب والسنة، وانه لا تثبت الإمامة إلا باجماع الأمة کلها.
ـ القول بنفی الصفات عن الله سبحانه، فقد وردت فی القرآن آیات کثیرة تدل على ان لله صفات من سمع وبصر وکلام...... الخ، فنفى جهم ان یکون لله صفات غیر ذاته وقال ان ما ورد فی القرآن مثل سمیع وبصیر لیس على ظاهر القول بل مؤول لأن ظاهره یدل على التشبیه بالمخلوق وهو مستحیل على الله فیجب تأویل ذلک، وقال لایصح وصف الله بصفة یوصف بها خلقه لان ذلک یقتضی التشبیه اعتمادا على الآیة : { لیس کمثله شیء } لکنهم اجازوا وصفه بصفتین اثنتین هما الفعل والخلق، على اعتبار انه لایسوغ وصف العبد بهما، وقد اثبتوا وجود الذات الألهیة فی کل مکان لا فی مکان دون آخر وقالوا : بوحدة الذات الإلهیة والصفات علىما ذهبت إلیه القدریة.
ـ امتناع رؤیة الله على المؤمنین فی الآخرة، وتأویل الآیة : ( وجوه یومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ).
ـ ان الجنة والنار تفنیان بعد دخول أهلهما فیهما وتلذذ أهل الجنة بنعیمها وتألم أهل النار بجحیمها.
ـ القول بخلق القرآن وانه حادث.
ـ جوزوا الخروج على السلطان الجائر وحمل الجهم السلاح بنفسه وقاتل مع الحارث بن سریج، وقتلا عام ( 128 هـ ).
ـ قالوا : ان الله تبارک وتعالى إن غفر لواحد غفر لکل من هو على مثل حاله، وقالوا : ان الله تبارک وتعالى لا یدخل احداً النار لارتکابه الکبائر، وانه یعفو عما دون الکفر.
ـ ان معرفة الباری تعالى واجبة بالعقل قبل ورود الشرع.
أبرز الشخصیات :
ـ ذکر مؤلفو الفرق ( الفرقة الجهمیة ) واستعرضوا عقائدها واضالیلها ولم یتعرضوا بشیء لبـیان تراجم زعمائها ودعاتها وإنما اشاروا فقط إلى جهم بن صفوان الترمذی وذکروا عنه شیئا یسیرا تقمصوه من کتب التاریخ، وکذلک ذکر بعضهم الفرق الجهمیة من دون ان یتطرقوا لشیء من التعریف بحیاة مؤسسیها إلاّ اشارة هامشیة إلى مؤسس الفرقة المریسیة بشر المریسی، وأهملوا ذکر الآخرین من قادة الفرق الجهمیة، وأهم زعمائها هو : جهم بن صفوان مولى بنی راسب.
الانتشار ومواقع النفوذ :
ـ انتقل الجهم بن صفوان إلى ترمذ ـ احدى نواحی إیران ـ وبدأ الدعوة لمذهب فانتشرت عقائده فیها ثم وجدت لها أتباعاً ومریدین فی نهاوند ـ مدینة من مدن إیران.
أحداث ووقائع :
ـ أسر جهم بن صفوان صاحب الجهمیة فقال لسلم بن أحوز ان لی ولثاً ( أی عهدا ) من ابنک حارث، قال : ما کان ینبغی له أن یفعل ولو فعل ما آمنتک، ولو ملأت هذه الملاءة کواکب، وابرأک إلیَّ عیسى بن مریم ما نجوتَ منی، والله لو کنت فی بطنی لشققت بطنی حتى اقتلک، والله لا یقوم علینا مع الیمانیة أکثر مما قمت. وأمر عبد ربه بن سیسن فقتله، فقال الناس : قتل أبو محرز ـ وکان جهم یکنى ابا محرز.
ـ کان جهم یحمل السلاح ویقاتل السلطان، وخرج مع الحارث بن سریج على نصر بن سیار، وقتله والی بلخ والجوزجان، سلم بن أحوز المازنی فی آخر زمان بنی مروان سنة (128هـ ) مع یحیى بن زید ابن علی بن الحسین ( علیه السلام ) ووجه برأسیهما إلى مرو، إلى نصر بن سیار، فنصبا على باب مرو. فکان ابن أحوز یقول : ( قتلت خیر الناس وشر الناس ).
من ذاکرة التاریخ :
ـ الجعد بن درهم معلم جهم بن صفوان هو أول من قال بخلق القرآن فی أواخر الدولة الأمویة ثم طُلِبَ فهرب وقبض علیه خالد بن عبد الله القسری یوم الأضحى بالکوفة، وکان والیاً علیها وقال : إنی أرید الیوم أن أضحی بالجعد، فإنه یقول : ما کلم الله موسى تکلیماً، ولا اتخذ الله إبراهیم خلیلاً. هذا ما یخص معلم الجهم. وأما حال تلمیذه بشر المریسی ( ویروى انه من أصل یهودی ) فکان یقول بخلق القرآن أیام الرشید وظل یدعو إلى ذلک نحوا من أربعین سنة، ویؤلف فی ذلک الکتب وقد مات سنة ( 218 هـ ) وقد رووا ان الرشید قال یوما : بلغنی ان بشراً یقول القرآن مخلوق، والله ان ظفرت به لا قتلنه، فتوارى بشر عن الأنظار خوفاً من الرشید.
ـ نهض کثیر من العلماء لمقاومة الفرقة الجهمیة، ونشطوا للرد علیها نشاطاً ملحوظاً ولعل أهم ما حملهم على الرد مسألتان :
الأولى : مسالة الجبر لانها تدعو إلى التعطیل وترک العمل والرکون إلى القدر.
والثانیة : مسألة المغالاة فی تأویل الآیات التی تثبت لله صفات.
وأحیاناً یلقب المعتزلة بالجهمیة، لا لأنهم وافقوا الجهمیة فی القدرة ـ لان الجهمیة جبریة ـ ولکن لان المعتزلة وافقوا الجهمیة فی نفی الصفات عن الله وفی خلق القرآن، وقولهم : ان الله لا یُرى، وتبرأ المعتزلة منهم ونفوا هذه التسمیة عنهم، فهذا بشر بن المعتمر ـ أحد رؤساء المعتزلة ـ یتبرأ من الجهمیة فی أرجوزته إذ یقول :
نـنـفـیهم عنـا ولسنا منهم * ولا هم منـا ولا نرضـاهــم
إمامهم جـهـم ومـا لجهـم * وصحب عمرو ذی التقى والعلم
ویرید بعمرو، عمرو بن عبید الرئیس الثانی للمعتزلة بعد واصل بن عطاء.
فعدُّ المعتزلةِ الجهمیةَ ظلمٌ، ولم یذکر أحد منهم الجهم من رجالهم، وقد أرسل واصل بن عطاء حفص بن سالم إلى خراسان وأمره بلقائه ( الجهم ) ومناظرته فلقیه فی مسجد ( ترمذ ) حتى قطعه.
خلاصة البحث :
ـ الجهمیة فرقة من المرجئة ظهرت فی أواخر الحکم الأموی مؤسسها الجهم بن صفوان السمرقندی الترمذی ویقال لهم مرجئة أهل خراسان. ـ تربى زعیم الفرقة ( الجهم بن صفوان ) على ید الجعد بن درهم وأخذ أسس أفکاره وعقائده منه وکانت جذور أفکار الجعد وآرائه یهودیة أخذها من أبان بن سمعان.
ـ دعمت السلطة الأمویة الأفکار الجهمیة کونها تقول بالجبر تبریراً هیمنتها وتسلطها فقامت بترویج العقائد الجبریة، ومن هنا نرى ان الجبر شاع فی ظل الحکم الأموی.
ـ تفرعت من الفرقة الجهمیة فرق عدیدة انقسمت إلى اثنتی عشرة فرقة، کل فرقة اتخذت لنفسها مسلکاً فکریاً متمیزاً خاصا بها.
ـ کان من أبرز عقائد الجهمیة القول بنفی الصفات عن الله وانه لایجوز وصف الباری سبحانه بصفة یوصف بها خلقه، وان الإنسان لا یقدر على شیء ولا یوصف بالقدرة ولا الاستطاعة وان الجنة والنار یـفنیان وتنقطع حرکات أهلهما، ومن عرف الله ولم ینطق بالإیمان لم یکفر، وانفردوا بجواز الخروج على السلطان الجائر وقالوا بخلق القرآن، وزعموا ان علم الله حادث وغیر ذلک من الافکار.
ـ ظهر جهم بن صفوان زعیماً ومرشداً للفرقة الجهمیة وکان خطیباً فصیحاً یوجه اتباعه ویدعوهم إلى معتقداته وآرائه.
ـ وقف جهم بن صفوان إلى جانب الحارث بن سریج ضد بنی أمیة، وبعد معرکة مع نصر بن سیار وقع فی الأسر فقتله سلم بن أحوز المازنی سنة ( 128 هـ ).
ـ انتشرت افکار الجهمیة فی بلاد ( ترمذ ) من إیران، ولها اتباع فی مدینة نهاوند.
المصدر : تحقیق راسخون2014
source : .www.rasekhoon.net