عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

بيعة الامام علي عليه السلام بعد السقيفة

بيعة الامام علي عليه السلام بعد السقيفة

بعد أن أصبح متعذراً استرداد الحكم الذي سيطر عليه اصحاب السقيفة، كان لابد من ايديولوجية جديدة في العمل من أجل أن لا تضيع كل الأهداف، ومن أجل أن تضمن الحياة للرسالة المهدّدة. ومن ذاك كانت الخطة الجديدة تقتضي قدراً أكبر من الانفتاح، والتعامل مع قوى الحكم بروحيّة أكثر مرونة، لا على حساب الأهداف، وانّما في صالح الأهداف، وحيث تسوّغ الأهداف.
وعلى ذلك فقد بايع الامام علي عليه افضل الصلوات والسلام ، وبايع الخط الشيعي كله، يوم أصبحت القناعة كافية بأن الاستمرار على الرفض يهدّد مصير الخط، زيادة على انّه يعوقه عن تسجيل أي موقف ايجابي للرسالة.
وفيما يتعلق بهدف الوصول إلى الحكم كان الانفتاح ضرورياً أيضاً.لأن القوى الحاكمة أصبحت تملك الحاضر والمستقبل، وانها لقادرة على قطع الطريق أمام الخط الشيعي.
انّ مفاتيح الحكم ليست بيد الأمة، انّ القوى الحاكمة سيطرت حتّى على ذلك، وأصبح شأناً من شؤونها، وواحداً من صلاحياتها.
وبجرَّة قلم تستطيع أن تصرف الحكم عن الخطّ الشيعي كما صنع الخليفة الأول، وانّه ليستطيع بمثل ذلك أن يضع الحكم لمن يحذر.
وأحد لا يستطيع أن يعارض، ويشجب، ويرفض، والاّ فانّه صاحب فتنة، وداع إلى شق وحدة المسلمين، وما أسرع أن تشمله عملية التطهير!!
والخليفة بعد ذاك هو إمام المؤمنين وأميرهم وخليفة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، وقد بايعوه على الطاعة، فكيف يرفضون رأيه؟ وعقلية الشورى لم تجد لها نصيراً.
كما انّ طريقة الشورى لم تعرف لنفسها مصداقاً منذ مات رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم).
حتّى انّ أبابكر حين استخلف عمر، حاول بعض المسلمين أن يعترض أو يسأل عن سبب هذا الإختيار، فلم يسمع له أبو بكر بذلك.
وأنا لا أدري ماذا كان يقصد طه حسين يوم قال:
" لم يكن استخلاف أبي بكر لعمر إلاّ ترشيحاً له "(1).
وهل أعطي أحد من الأمة حقّ الرأي، والاعتراض، والاختيار؟
والخلاصة انّ عواطف الخليفة أصحبت هي الطريق الطبيعي والوحيد للوصول إلى الحكم. وبهذا وصل عمر، ووصل عثمان.
ومن هنا كان الخط الشيعي واقعاً في حراجة بالغة، هي أشبه بمأزق. فمن ناحية لابد من الاستجابة لنداء الامة.
ومن ناحية لابد من التعاطف مع الحكم.
ومن ناحية ثالثة لابد من الوقوف بوجه الحكم أيضاً، للحدّ من تعدّياته وهذا هو المأزق.
وعلى أي حال، فاستجابة لمجموع هذه الملاحظات، كانت الضرورة تحكم الخط الشيعي بأن يلتزم سياسية الانفتاح.
لكن طبيعة هذا الانفتاح وحدوده تخضع للأهداف، وللرسالة، وللشريعة: فهو انفتاح يحمل معنى التعاون، والارشاد، والتوجيه، كما يحمل معنى الضغط، والتصحيح، بالحجم المناسب.انفتاح مرادف لكلمة التقويم، بأي اسلوب كان التقويم، وأمكن التقويم.
حتّى كان علي هو القائل " نقوّمك بسيوفنا " يوم سأل الخليفة: " ماذا كنتم صانعين، لو صرفناكم مما تعرفون إلى ما تنكرون ". وفي الوقت نفسه كان هو القائل يوم أتاه عمر يسأله عن مسألة: " لو دعوتني لأتيتك " هذه الطبيعة هي التي فرضها الوضع السياسي والديني فى المرحلة الراهنة، ولقد بدأت القوى الحاكمة تطمئن شيئاً فشيئاً للخط الشيعي، وتتعامل معه بانفتاح مماثل.
لأنها بحاجة إليه من ناحية، ولأنه يملك رصيداً شعبياً كبيراً، ولو على مستوى التأييد.
وطبيعي أن يمرّ هذه الانفتاح بوضع تدريجي، حتّى شهدت أيام أبي بكربداياته الخفيفة. لكنها تعتبر بداية الطريق المبارك بالنسبة للتشيع الذي كان مهدّداً، ومحظوراً، ومطلوباً له الفناء.
وفي عهد عمر بلغت العلاقة بين الخليفة والخط الشيعي مستوى القمة، حتّى كان علياً هو المستشار الأول للخليفة، واستطاع أن يفرض نفسه فرضاً، ويضع الخليفة نفسه تحت شعاعه، حتّى كان يقوم ويقعد بمدح علي، والاطراء عليه، وصعد نجم علي.
واتضح للأمة دوره الخطير.
وسجّل للمسلمين عمق وجوده الرسالي، فهو الأمين على الرسالة، وهو الحصن الذي يفزعون إليه.
وكان شخص علي في كل نائبة، وفي كل معضلة.
فلا داعي للقلق، ولا داعي للطيرة وعلي (عليه السلام) في الوجود.
شاهدوا مصداق أقوال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، حينما حدثهم كثيراً عن علي، وأكّد لهم انّه الوحيد لهذه الرسالة، ولهذه الأمة.
ولا نرجع هنا للحديث عن عطاء علي، إنّما نريد الجانب السياسي.
وكان ابن عباس مستشاراً لعمر.
وكان عمار والياً لعمر.
وكان سلمان والياً لعمر.
وكان حذيفة والياً لعمر، يسأله عن المنافقين، ويسأله عن نفسه، فيما إذا كان يعرف فيه شيئاً من النفاق أولا، ويقول له: " أنت أخي وأنا أخوك ".
وفي الصف الأول وقف علي وشيعة علي.
حتّى انّ عمر ليدافع عنه أحياناً.
وفي رواية أخرى:" جاء أعرابيان يختصمان فقال عمر: يا أبا الحسن اقض بينهما، فقضى علي على أحدهما فقال المقضي عليه: يا أمير المؤمنين بهذا يقضى بيننا؟
فوثب إليه عمر فأخذ بتلابيبه ثم قال:
ويحك ما تدري من هذا. هذا مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن "(2).
في مرّة وقع رجل في علي بن ابن طالب بمحضر من عمر فقال له عمر: " أتعرف صاحب هذا القبر؟ هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لا تذكر علياً الاّ بخير فانك إن تنقصه آذيت صاحب هذا القبر "(3).
ومن يلاحظ الوضع السياسي للتشيع بمثل هذا الوقت يعرف كم كانت سياسية الإمام رائعة، وكم حققت للخطّ الشيعي، وللإسلام عموماً من خدمة.
إنّ علياً هذا هو نفس علي الذي كان مهدداً بالقتل يوم امتنع عن البيعة. وهو نفسه الذي قال لعمر: " اطلب حلباً لك شطره ".
وهو نفسه الذي أرادت حكومة أبي بكر عزله عن الأمة، وإطفاء نوره، والشيعة اليوم هم اولئك الشيعة الذين عملت حكومة أبي بكر على تنحيتهم وتخلية الساحة منهم.
لكن الايديولوجية الجديدة التي اتبعها الخطّ هي التي ضمنت له وجوده، ووفرّت له الاتصال بالأمة، والتسلق إلى الحكم، حتّى كان عمراً عازماً على تولية الإمام علي (عليه السلام) كما أظهر ذلك.
ولقد كان عازماً على أن يستخلفه بعده.
انظروا: كل الجذور النفسية كسّرها علي، وكل دواعي الانفصام تجاوزها علي، واقترب من الحكم، حتّى كان الخليفة يريد توليته، فقد قال ذات مرّة:
" لقد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي رجلا أمركم، أرجو أن يحملكم على الحقّ وأشار إلى علي "(4).وفي مرّة أخرى قال لرجل انصاري: من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟ فعدَّد الأنصاري رجالا من المهاجرين ولم يسمّ علياً، فقال عمر: فما لهم عن أبي الحسن؟ فو الله انّه لا جرم ان كان عليهم أن يقيمهم على طريقه من الحقّ "(5)وفي رواية أخرى انّ عمر سأل يوماً:
" من تستخلفون بعدي؟
فقال رجل من القوم: نستخلف علياً.
قال: انكم لعمري لا تستخلفونه، والذي نفسه بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحق وإن كرهتم ".
وفي ظل هذا الجو تحرّك الشيعة سرّاً وجهراً، تغلغلوا في الأمة، فتحوا الأبصار، وأزالوا الحجب.
وفي الخفاء وفي الجهر كانت دعوتهم لعلي مستمرّة. ربط الأمة به، وتعريفها بوجوده وموقعه، حتّى ورد في الرواية:
" بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله.. إذ أقبل رجل معتم فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) الاّ قال الرجل: قال رسول الله.
فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟
فكشف العمامة عن وجهه وقال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة، أبوذر الغفاري، سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بهاتين والاّ صمتا، ورأيته بهاتين والاّ عميتا، يقول:
علي قائد البررة، قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله "(6).
وهكذا.. ابتداءً وبدون سؤال يذكّر الناس بعلي، ويضع أمامهم الأرقام، فما ترى موقفه لو سئل عن علي، أو انجرّ الحديث إليه؟
وذات مرّة كان سلمان خارجاً مع المسلمين في غزو (بلنجر)، قال لأصحابه:
" أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟
فقالوا: نعم.
فقال:
إذا أدركتم شباب آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم، فأما أنا فانّي أستودعكم الله... "(7).ولقد نستطيع القول انّ نسبة كبيرة جداً من مناقب علي، وتصريحات الرسول فيه، وصلتنا عن طريق هؤلاء، يوم كانوا يعملون جادين في الدعوة إليه.
ولا يكاد المسلمون يواجهون مشكلة الاّ وكان وأحداً من هؤلاء الشيعة يذكّرهم بعلي، ثم ينهض ويدعو علياً.
وربما كان عملهم في السرّ أكثر منه في العلن، فقد لاحظ المستشرق (ماسينون) انّ سلمان الفارسي عقد حلفاً مع بني عبد قيس، واستطاع أن يضمّهم وحلفاءهم من الحمراء ـ الجنود الفرس السابقين ـ إلى آرائه الخاصة بأحقيّة علي "(8).
وهذا هو التفسير الوحيد لعزل عمر ايّاه، والمعروف انّه بلغته عنه وشاية، دون أن يذكر المؤرخون محتواها، لكن الشيء المؤكد انّ الوشاية كانت تتصل برأي سلمان في علي، ودعوته إليه.
وعمّار هو الآخر كان والياً لعمر على الكوفة، ثم عزله عمر لوشاية بلغته فيه. وهنا أيضاً لم يذكر المؤرخون هويّة تلك الوشاية، لكن شيئاً غير الدعوة لعلي لا يمكن أن يفسّر لنا تلك الوشاية، فمثل عمّار لا يُظنُّ به ما يدعو المسلمين للوشاية به عند عمر، وعمّار هو من نعرف.
وكان الزبير هو القائل:
" لو قد مات عمر بايعنا علياً ".
ومهما كانت درجة انفتاح الخليفة على الخط، فانّه غير مستعد لقبول تحرّك كاسح من هذا القبيل.
وحتّى لو كان يريد تولية علي بعده، فانّه غير مستعدّ لأن يفعل ذلك بضغط الشيعة، وبفرض منهم، عن طريق لفّ الأمة بعلي، وتوجيهها إليه، وارغام الخليفة على النزول عند رغبة الأمة.
كما انّه لا يوجد أي دليل على انّ الحركة إذا وجدت المجال مفتوحاً ستدعو لنفسها، واسترداد الحكم من عمر.
كانت هاتان مشكلتان، تدعوان الخليفة إلى التوجس وإعادة النظر.فالزحف الشيعي العنيف قد يبلغ إلى درجة يضطر عمر عندها لتولية علي بعده، وانّه يريد أن لا يلزم نفسه بشيء من هذا القبيل.
ولقد وقعت هذه الملاحظة في نظر عمر نفسه، حتّى انّه يوم نقلت له مقالة الزبير: " والله لو قد مات عمر بايعنا علياً " بدت عليه آثار الفزغ والقلق، حتّى لقد أراد أن يقول كلمته أمام الجميع، وبسرعة ودون تأخير، لكن عبد الرحمن هدَّأ منه.
وحينما جدّ الشيعة في العمل بدأ خصوم الخط بالاندحار.
وكلّما تسلّق علي درجة، هبط خصومه الحقيقيون درجة، ووضحت عندهم الحقيقة.
انّ الأمر صائر إلى علي لا محالة، وعلي هو محمد، وهو القرآن، وهو الرسالة، وانّهم خاصموا محمداً على الرسالة، وأسلموا يوم أسلموا ولمّا يدخل الايمان في قلوبهم، ولو جاء علي لكان لهم ساعة الصفر المميتة.
وماذا ينتظرون؟ والخليفة يمجّد بعلي، ويقرّبه، وينوي أن يستخلفه، والعلاقة بين الخليفة والخطّ الشيعي آخذة بالصعود.
وعلي يزداد شعبية، ووضوحاً، وحضوراً عند الأمة يوماً بعد يوم.
تساءلت القوى الانتهازية عن كل ذلك، وتساءل خصوم علي من قريش، وخرجوا بنتيجة: انّه لابد من العمل للإيقاع بين علي والخليفة. ولابدّ من ايقاف المدّ الشيعي عند حدّه.
وحينما عرضت على نفسها هذا الاقتراح وجدته ممكناً ميسوراً.
لأنّ الخليفة أساساً لم يكن مؤمناً بالخطّ الشيعي وان انفتح عليه أخيراً.
ولأنّ الخليفة نفسه له سابقة مع هذا الخطّ يمكن إثارتها.
ولأنّ علياً كثيراً ما يختلف، ويعترض، ويحاسب الخليفة، ممّا يسهل عملية الإيقاع، ولأنّ الخط الشيعي بدأ يتحرك في خارج الدائرة المسموح بها، مما يمكن استغلاله لإلفات الخليفة إلى خطورة ذلك، وضرورة الوقوف بوجهه.
وبالفعل تحرّكت القوى المضادّة للتشيّع، القوى التي تريد الإسلام لا كما أراده محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والقرآن، وإنّما كما تريده مصالحها وقيمها، والاّ فانّها حرب على الإسلام.هذه القوى التي عرفت في علي الحارس الأمين لمبادئ الإسلام تحركت بسرعة، ولياقة، وفنّ.
وبدأت تقترب من الخليفة، وتوسوس له، وتوجّسه من موقفه مع التشيّع، وشت بعمّار، ووشت بسلمان.
ثم جاءت متظاهرة بالإخلاص، والحرقة، والحب للخليفة.
جاءت تنقل له مقالة الزبير: " لو قد مات عمر بايعنا علياً " وتطلب أن يغار لنفسه، وخلافته.
قال له عبد الرحمن بن عوف: " هل لك في فلان؟! يقول لو قد مات عمر بايعنا علياً ".
واستشاط عمر غضباً، وقال:
" انّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمرهم... ".
" فقال عبد الرحمن:
يا أمير المؤمنين لا تفعل فانّ الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغاءهم فأمهل حتّى تقدم المدينة فانّها دار السنّة فتخلص بأهل الفقه، وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً، فيعي أهل الفقه مقالتك، ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: أما والله ان شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة، ثمّ ان عمر صعد المنبر في أوّل جمعة قدم المدينة فخطب فقال:
" انّه قد بلغني انّ فلاناً قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، فلا يغرنّ امرء أن يقول انّ بيعة أبي بكر فلتة، وانّها قد كانت كذلك الا انّ الله وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا من المسلمين بغير مشورة من المسلمين فانّه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ".
وبدأ الخليفة يتراجع.
وحينما يسئل عن علي، وقضية استخلافه يقول: " لو لا دعابة فيه "، وتدريجياً أخذ يبتعد عن الخط، ويصرف المستقبل عنه، وهنا جاءت الخطوة الثانية لقوى الانتهاز.
وكيفما كان فقد نجحت قوى الانتهاز في صرف الحكم عن علي، وتغيير وجهة نظر الخليفة فيه.
وقد يكون من دواعي تغيير وجهة نظر الخليفة الثاني في الإمام، وتوليته بعده، طبيعة فهمه للأحداث من ناحية، وتصوراته عن الإمام من ناحية ثانية.
فقد لاحظ الخليفة عمر انّ الإسلام بحديّته لا يمكن أن يواصل نجاحه في الأمة مع تزايد التقلبات الاجتماعية والاقتصادية التي تطرأ على المجتمع يوماً بعد يوم.
فقد أوحت بوادر التحلل، والانغماس في مفاهيم الدنيا وقشورها، التي شوهدت في المجتمع الإسلامي بعد التوسعات الضخمة، أوحت إلى الخليفة عمر بن الخطاب انّ الإسلام أصبح بمستوى يعجز عن ضبط الأمة، وتربيتها بالطريقة المطلوبة، كان يقول:
" انني سننت الإسلام سنّ البعير، يبدأ فيكون جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً، ثم سداسياً ثم بازلا، الا فهل ينتظر بالبازل الاّ النقصان، الا فإنّ الإسلام قد بزل ".
وكان يشهد بداية ظهور الطبقات المترفة الغنية، والتي تنفصل تدريجياً عن قيم ومفاهيم الإسلام، حتّى كان يقول آخر أيامه وهو ينظر إلى ثروة بيت المال:
" أجل والله ولكن لم يعط قومٌ هذا الاّ ألقي بينهم العداوة والبغضاء ".
وتعمق هذا المفهوم في نفس الخليفة.
الأُمة مبتعدة عن الإسلام لا محالة.
والإسلام في ضمور وانسحاب تدريجي.
وانّه يمثّل الحلقة الأخيرة من حلقات الحكم الإسلامي.
وأصبح الخليفة الثاني شاعراً بضرورة التنازل لضغط الواقع.
مواجهة التيار أصبحت غير ممكنة والوقوف بوجه موجة التحلّل عديم النفع ولابد من حكم يقدّر ظروف وطبيعة المرحلة.
يعني; لابدّ من حكم أقل حديّة، وأقل التزاماً ببنود الشريعة، وأكثر تسامحاً مع هذا الإنحراف.
في سفره إلى الشام، رأى معاوية يتقلب في وجوه السرف والبذخ والأبهة، ويستشهد بحكم كسرى وقيصر.
فقال له: أكسروية يا معاوية؟!
والخليفة يعرف علياً، ويعرف منهج علي في الحكم.كما كان يعرف عثمان، وميول عثمان، وطبيعة حكم عثمان.
انّ علياً لا يحكم بغير الرسالة، ولا يحيد عن طريقة القرآن والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم).
كان يقول لأصحابه:
" انكم لعمري لا تستخلفونه، والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحق وإن كرهتم ".
ولكن في فهم عمر انّ المرحلة قد تجاوزت هذا المنهج في الحكم، ولم يعد هو القادر على مواصلة التجربة بسلام.
من هنا كان يقول: " انكم لعمرى لا تستخلفوه... ".
أمّا عثمان فالخليفة يعرف ماضيه وحاضره، يعرف ظاهره وباطنه، انّ رواسب الماضي مستحكمة فيه، وعواطفه القبلية ما تزال حيّة ومهيمنة، وتعامله مع الرسالة ليس جديّاً.
كان يقول له:
" كأنّي بك قد قلدتك قريش هذا الأمر فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس ".
ثم انّ عمراً يعرف قريش في مزاجها، وفي عداءها لعلي.
انها لا ترضاه!
أمّا عثمان فهو منها، وإليها، ولا يعرف سواها.
كل تلك الأمور دعت الخليفة عمر للعدول عن استخلاف الإمام.
توجّسه من ناحية، وتحرك قوى الانتهاز من ناحية، وطبيعة فهمه للمرحلة من ناحية ثالثة.
ونحن هنا لا نريد أن نناقش هذا الفهم.
ففي رأينا أن تناقصات الحكم في عهد أبي بكر وعمر هي التي خلقت موجة التحلل والانفلات من قيم الدين.
فسياسة التفضيل في العطاء التي تبعها عمر هي التي خلقت الاستقراطية القرشية، وكان عمر نفسه قد شعر بهذا الخطأ حتّى كان يقول آخر أيامه: " لو بقيت لسوَّيت في العطاء ".
المهم الآن انّ الخليفة انصرف عن الخطّ الشيعي.
والمعلوم انّ عمراً جعل أمر الخلافة بعده إلى الشورى السداسيّة، التي اشترك فيها كل من "علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وطلحة، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص" بتعيين من عمر نفسه.والغريب انّ بعض الكتاب يرى عمر رشَّح علياً للخلافة، رغم الصيغة التي وضعها في الشورى السداسيّة، وكان يريد للأمة أن تختاره من بين هؤلاء الستة
ويستندون في ذلك إلى مقالة عمر في أبي عبيدة وسالم مولى حذيفة حيث قال: لو كان أبو عبيدة حياً لولّيته، ولو كان سالم حيّاً لولّيته ".
وهنا يقول الدكتور الوردي:
" ان عمراً فيما أظن كان يقصد بتبيانه فضيلة أبي عبيدة، وسالم أن يستدرج الحاضرين لذكر علي وفضائله....
ويخيّل اليّ انّ هذا القول من عمر كان بمثابة ترشيح غير مباشر لعلي بن أبي طالب "(9)، لكن لماذا لا يذكر علياً بالصراحة ويرشحه للخلافة بوضوح دون حاجة إلى الاستدراج والدوران؟ وإذا كان مستعداً لتولية أبي عبيدة وسالم فلماذا لا يولِّ علي بن أبي طالب دون أن يجعلها في ستة أحدهم علي؟
ولماذا كان بالأمس القريب يذكر علياً، ويعزم على استخلافه، وها هو اليوم ينساه، وإنّما يتوسل لذكره بذكر أبي عبيدة وسالم كما زعم الدكتور الوردي؟ ولو كان يريد ترشيح علي لجعل الشورى بصيغة عادلة ومتكافئة، دون أن يجعل كفة علي هي الراجحة، وينيط الكلمة الأخيرة برأي عبد الرحمن بن عوف المعروف ميله إلى عثمان.
حتّى انّ الإمام علي علّق على مجلس الشورى بالقول:
" والله لقد ذهب الأمر منّا.
فقال العباس: وكيف قلت ذلك يا ابن اخي؟
فقال: انّ سعداً لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن نظير عثمان، وصهره، فأحدهما لا يخالف صاحبه محالة، وإن كان الزبير وطلحة معي فلن انتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.
لقد كان واضحاً انّ الصيغة التي وضعها عمر لمجلس الشورى لم تكن في صالح علي أبداً، بل لم يكن موقع علي فيها موقعاً متكافئاً مع موقع عثمان.
ومن هنا لاحظ كثير من الكتّاب انّ الخليفة مهّد لعثمان بالصيغة التي وضعها في الشورى.ولعل هذا هو الذي يفسّر لنا تنبؤ عمر بولاية عثمان بعده، وعدم ولاية علي أمّا موقف الشيعة من هذه الشورى:
فقد اقترح العباس على الإمام أن لا يشترك فيها.
لكن علياً رفض هذا الإقتراح، لماذا؟
لأن أحداً من هؤلاء الستة ـ سوى علي ـ لا يستطيع أن يقف ضد جبهة عثمان. فسعدٌ وعبد الرحمن معه، وطلحة والزبير لئن لم يوافقاه فانهما سيختلفان بينهما، ولئن اتّفقا على احدهما فذلك لا ينفع بعدما كانا اثنين، وجبهة عثمان ثلاثة، وفيها عبد الرحمن.
وحينذاك فالأمر صائر إلى عثمان لا محالة.
ولا يوجد أي أمل في الرجوع إلى علي، إذ ستحسم المسألة بدونه وبكل بساطة. ومن سيعذر الامام؟
إنّ النقمة التي صبّت على عثمان ستصبّ على علي بالذات، لأنّه مهّد لعثمان يوم اعتزل الشورى، هكذا في فهم الناس، وهكذا هو الواقع لو اعتزل الإمام.
فالإمام إذن هو المسؤول، وهو الباب الذي دخل منه عثمان لمنصب الحكم، وكل الانحرافات، والجرائم، والتعدّيات، سيرى فيها علي، قبل أن يرى فيها عثمان نفسه، هكذا سيقول الناس.
وسيقول الناس بكلّ حرارة، لماذا يا علي؟
لماذا تركت الأمر لعثمان؟ وورطت الأمة بحكمه، وحكم الجهاز الأموي؟
لماذا تنصَّلت عن المسؤولية؟
لماذا لم تتناوش الحكم وأنت منه قريب؟ ومن سيعارضك لو دخلت مجلس الشورى؟
فأنت يا علي صنعت المأساة، وصنعت الإنحراف، وأعطيت للجهاز الأموي العثماني مفاتيح الأمة والرسالة.
ولا أحد يصدّق انّ عثمان سيحكم دخل علي مجلس الشورى أو لم يدخل بأي برهان؟ وبأي دليل؟ لا أحد يقتنع في غمرة النقمة، والحماس، والتأثر.
وهناك يخسر علي وجوده في الناس، يخسر خطّه في الأمة، ولا يكون هو رمز المعارضة الرساليّة الهادفة، كما أراد أن يكون.
ثم: ماذا يفسّر الناس موقف الإمام؟
سيقولون: انّ علياً لا يريد الحكم، أو يقولون: انّه لا يعرف مداخل الحكم، ولا يملك موهبة الرجل السياسي.وعلى كلا القولين يكون علي قد جرّ لنفسه خسارة، أيَّة خسارة! فالأمة تريد الرجل القائد ولا تريد الرجل الرهبان.
والأمة تريد الرجل السياسي لا الرجل البليد.
وعلي لو كان قائداً، وسياسياً لاشترك في مجلس الشورى! أمّا حيث اعتزل فهو رهبان لا رجل سياسة.
وسيسقط علي أيضاً.
على انّ الامام ـ وفي المقاييس الطبيعية ـ يجب أن يفكّر في النجاح لو دخل المجلس! ويأمل فيه ولو أملا ضعيفاً خافتاً. وهذا الأمل لا يجوز تضييعه، بعرف الرسالة، وعرف السياسة معاً.
وبهذا الأمل تحرّك الإمام وتحرّك الشيعة معاً.
أمّا الإمام فقد كان أخطر شيء عليه أن يجتمع عثمان وعبد الرحمن وسعد، وحينذاك سيكون الأمر لعثمان لأن عبد الرحمن معه، وكلمته هي الفصل في الصيغة التي جعلها عمر للشورى.
ثم هو آمن من جهة الزبير وطلحة، المجال مفتوح لكسبهما.
ومن هنا فقد سعى الإمام سريعاً لعزل سعد من جبهة عثمان. أتى إليه ومعه الحسن والحسين فقال له:
" يا أبا اسحاق: انّي لا أسألك أن تدع حقّ ابن عمك بحقي، أو تؤثرني عليه فتبايعني وتدعه، لكن إنْ دعاك إلى أن تكون له ولعثمان ثالثاً فأنكر ذلك.
فقال سعد: لك ما سألت ".
كم رائعة هذه المبادرة من الإمام؟!
وكم رائعاً الأسلوب الذي جرى عليه الإمام، حتّى ملك فكر سعد وعواطفه معاً، فقال: لك ما سألت!
وتجاوز الإمام هذه الخطوة.
فجاء إلى عبد الرحمن بن عوف نفسه، فأحلفه على أن لا يميل إلى هوىً، وأن يؤثر الحق، وأن يجتهد للأمة، وأن لا يحابي ذا قرابة.
وحلف له عبد الرحمن.
ولو صدق في هذا الحلف لكان لا يحيد عن علي.
لكنه لم يكن ليؤثر الحق على العاطفة، والرسالة على الهوى، وأخيراً مال إلى عثمان.
أمّا سعد: فقد أتاه عبد الرحمن قائلا: هلمّ فلنجتمع.
فقال سعد: إن كنت إنما تريد الأمر لعثمان فعليّ أحقّ بالأمر، وأحبّ اليّ من عثمان.
وشاءت الأقدار، بل شاءت صيغة الشورى التي وضعها عمر، أن لا يرجع طلحة من سفره.
ومن هنا خسر عليّ.
انّ عبد الله بن سرح نادى في الناس: " أيها الملأ إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينهم فبايعوا عثماناً.
فقال عمّار:
إن أردتم أن لا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا علياً...
ما أنت وهذا أيها المنافق؟
إنّ الله والناس يعلمون إنّك ما زلت تكيد للاسلام وتبغي له الشر ".
أمّا شيعة علي فقد نشطوا في ترجيح كفة الإمام أيّ نشاط.
لكنهم لا يملكون مهما بذلوا ومهما نشطوا أن يحبطوا تخطيطاً وضع لخدمة عثمان، وتمهيداً لحكم عثمان.
لكنهم تحرّكوا على أيّ حال بأمل الانتصار.
وكما تحرّك شيعة علي، تحرّك شيعة عثمان، وتحرّكت قوى الانتهاز كلّها اُنظروا:
أقبل المقداد والناس مجتمعون فقال:
" أيها الناس اسمعوا ما أقول: أنا المقداد بن عمرو، وإنّكم إن بايعتم علياً سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا ".
فقام عبد الله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي فقال:
أيها الناس إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم علياً سمعنا وعصينا.
فقال له المقداد: يا عدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ كتابه، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون؟!
فقال له عبد الله: يا ابن الحليف العسيف ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش ".
عجيب!! أمر قريش وحدها لا أمر الإسلام والمسلمين، فكأنّما الدولة دولة قريش.
المصادر :
بتصرف من تاریخ التشیع الفکری والسیاسی/السید صدر الین القبانجی
1- الشيخان: 48.
2- مناقب الخوارزمي: 98.
3- فضائل الخمسة: 227 نقلا عن مصادر أخرى.
4- ابن سبأ: 145.
5- فضائل الخمسة: 2 / 111.
6- فضائل الخمسة: 2.
7- سلمان الفارسي: 51.
8- شخصيات قلقة: 29.
9- وعاظ السلاطين: 199 ـ 200.


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قبول الخلافة
تأملات وعبر من حياة يوسف (ع) - ج 2
أقوال علماء السنة في المذهب الشيعي
الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها القسم الاول
الكمالات المحمدية تصنيف مبتكر في الإعجاز الخلقي
صور التقية في كتب العامة
غزوة بدر تكسر شوكة الكفر والشرك
ما المقصود بليلة الهرير؟
يوم عاشوراء في اللغة والتاريخ والحديث
الشيعة في ألبانيا

 
user comment