عربي
Thursday 14th of November 2024
0
نفر 0

نشاُة المذاهب

یعد تفرق الصحابة فی البلدان بعد وفاة الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) السبب المباشر فی بروز الفرق فی واقع المسلمین، فقد نقل کل صحابی إلى البلد الذی استقر فیه روایات وسنن عن الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) مختلفة عن الصحابی الآخر. وکان أن نشأت فى کل بلد فرقة على أساس هذه الروایات والسنن تتبنى عقائد ومفاهیم مختلفة عن فرق البلدان الآخرى.
نشاُة المذاهب
یعد تفرق الصحابة فی البلدان بعد وفاة الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) السبب المباشر فی بروز الفرق فی واقع المسلمین، فقد نقل کل صحابی إلى البلد الذی استقر فیه روایات وسنن عن الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) مختلفة عن الصحابی الآخر.
وکان أن نشأت فى کل بلد فرقة على أساس هذه الروایات والسنن تتبنى عقائد ومفاهیم مختلفة عن فرق البلدان الآخرى.
ولم یکن الواقع فی فترة القرن الأول ـ فترة حرکة الصحابة فی البلدان ـ قد تبلورت فی دائرته تلک المفاهیم العقائدیة التی نبعت من خلال علم الکلام والتی تکونت منها کتب العقائد فیما بعد.
من هنا فإن الفرق التی برزت فی تلک الفترة لم تکن ذات أطر عقائدیة محددة، فلم تکن هناک حاجة لتلک الأطر لقرب العهد بعصر الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم)، ولعدم وجود فرق مخالفة بارزة على الساحة تشکل تحدیاً للاتجاه السائد الاتجاه الأموی والتابعین الذین ساروا فی رکابه.
إلاّ أن الوضع قد اختلف فی العصر العباسی، وبعد ظهور حرکة الترجمات وبروز التیار الشیعی بقوة، ثم تیار المعتزلة والتیارات الکلامیة الأخرى التی شکلت تحدیاً کبیراً لفرق أهل السنة والحکام.
وجاء رد الفعل عنیفاً وشدیداً من قبل فرق أهل السنة السائدة، ونتج عن رد الفعل هذا وقوع خلافات وصدامات أدت إلى بروز فرق فی دائرتهم تبنت علم الکلام الذی نبذ من قبل الفرق القدیمة واستخدمته کسلاح فی مواجهة الفرق المخالفة(1).
ویمکن القول أن العصر العباسی هو عصر تأسیس وبلورة عقائد وأفکار فرق أهل السنة المختلفة، وهو عصر التعددیة فی دائرتهم أیضاً، فأغلب فرق أهل السنة برزت فی هذا العصر.
وإذا کان العصر الأموی قد حوى فرق البصریة والحنفیة والمالکیة والأوزاعیة، فإن العصر العباسی قد حوى فرق الشافعیة والحنابلة والظاهریة والأشاعرة والماتریدیة وکذلک الحنفیة والمالکیة والأوزاعیة التی عاصرت العباسیین أیضاً.
وهذه هی الفرق التی سوف نعرض لها فی هذا الباب بالإضافة إلى فرقة الحزمیة بالأندلس وفرقة ابن تیمیة فی الشام والتی برزت فی العصر المملوکی.
وهذه الفرق الخمسة عشر التی یحتویها هذا الباب هی الفرق الکبرى البارزة فی واقع أهل السنة التی سلطت علیها الأضواء قدیماً، وهی تنقسم إلى قسمین:
فرق الفقة والعقائد.
فرق الرواة.

البصریة:

اتخذ الحسن البصری فی مسجد البصرة حلقة له یدرّس فیه الوعظ والحکم والإرشاد وتلاوة القرآن والزهد ومکارم الأخلاق وذم الدنیا بعیداً عن السیاسة والقضایا الکلامیة والفلسفیة التی لم تکن قد فرضت نفسها على واقع المسلمین فی أوائل القرن الثانی الذی هو عصر البصری.
وقد استفزت سلبیة البصری وعدم ایجابیته فی مواجهة عدة قضایا کانت تشغل المسلمین فی ذلک الوقت تتعلق بشرعیة الحکم الأموی وما ارتکبه من جرائم فی حق آل البیت والمسلمین عموماً، استفزت أحد اتباعه، فسأله عن حکم الشرع فی مرتکب الکبیرة هل هو مؤمن أو کافر؟
وانفرد بالجواب قبل البصری واصل بن عطاء أحد اتباعه والمترددین على حلقته، وقال صاحب الکبیرة فی منزلة بین المنزلتین، أی بین الإیمان والکفر.
أما جواب البصری فقد اعتبر من أتى بکبیرة منافقاً، وهو جواب سلبی، إذ أن المقصود بصاحب الکبیرة فی تلک الفترة حکام بنی أمیة.
وتترکز أفکار البصری فیما یلی:
ـ الدعوة إلى الزهد والصبر على المکاره.
ـ مسالمة الحکام.
ـ نشر العلم بین المسلمین.
ویعد الحسن البصری من التابعین الذین عاصروا عدداً کبیراً من الصحابة غیر أن أفکاره وفرقته لم یتحقق لها الانتشار والبقاء إذ ذابت وتوزعت بین فرق أهل السنة التی برزت فیما بعد(2).

الأحناف:

تأسست هذه الفرقة على ید النعمان بن ثابت الملقب بأبی حنیفة الذی یعد من التابعین.
وتقوم أفکار هذه الفرقة على الکتاب والسنة والاجتهاد أو الرأی.
وما تمیزت به عن الفرق الأخرى هو ما یلی:
ـ حجیة القراءة الشاذة فی الاستدلال.
ـ جواز القراءة فی الصلاة بغیر العربیة.
ـ الشک فی حدیث الآحاد.
ـ جواز أخذ الأجرة على تعلیم القرآن وإقامة الآذان.
ـ صحة صلاة الجمعة فی أکثر من جامع واحد فی البلد الواحد.
ـ جواز الوضوء بالنبیذ.
ـ عدم جواز مرور الجنب فی المسجد.
ـ جواز دخول المشرکین المساجد.
ـ جواز إعطاء الیهود والنصارى زکاة الفطرة والکفارة.
ـ الإیمان لا یزید ولا ینقص.
ـ جواز وقوع طلاق المکره.
ـ جواز استخدام الحیل للوصول إلى المباح.
ـ الرضعة الواحدة ولو کانت قطرة توجب الحرمة.
ـ جواز قتل المسلم بالکافر.
ـ جواز تولی المرأة القضاء.
وهذه أمثلة من أفکار الفرقة الحنفیة التی اختلفت معها فرق أهل السنة بسببها، ومصادر هذه الفرقة تحوى الکثیر من الأمور التی لا یتسع المجال لذکرها هنا، غیر أن هذه الأفکار قد جذبت الکثیر من المسلمین نحو الأحناف.
إن فرقة الأحناف تعدّ من أوائل الفرق الکبرى التی ظهرت فی واقع أهل السنة، إذ لم تکن هناک فرقة تنافسها فی زمانها وقد ساعدها هذا الوضع على أن تکون من أکبر الفرق السنیة وأوسعها انتشاراً، إذ سادت کل بلاد المشرق تقریباً بدءاً من العراق وترکیا وحتى الصین، وذلک بتأثیر الدولة العثمانیة التی اعتنقت أفکار هذه الفرقة وتمذهبت بمذهبها لیصبح المذهب الرسمی السائد فی الشام ومصر أیضاً، وهما فی دائرة نفوذها واستمر تواجد الأحناف فیهما حتى الیوم.
ومن أشهر تصانیف أبی حنیفة فی مجال العقائد کتابه الفقه الأکبر، وهی رسالة یتعرض فیها لأصل التوحید والإیمان والقضاء والقدر وصفات الله وأفعال العباد والنبوة وعصمة الأنبیاء وکرامات الأولیاء والشفاعة والجنة والنار وعذاب القبر والخلفاء الأربعة: أبو بکر وعمر وعثمان وعلی وعلامات الساعة.
وهذه القضایا التی حوتها هذه الرسالة هی محور الخلاف بین فرق أهل السنة، وهی الأساس الذی بررت به إنشقاقها وتمیزها عن الفرقة الأم.
ومن أشهر أتباع فرقة الأحناف: زفر بن الهذیل التمیمی وسفیان الثوری وعبد الله بن یزید المقرى ومحمد بن الحسن الشیبانی ووکیع بن الجراح وعبد الله بن المبارک ویعقوب بن إبراهیم الأنصاری ویزید بن هارون وغیرهم کثیر.
زفر من الزهاد وثقه علماء الحدیث وهو من أصحاب الحدیث وکان یخلف أبا حنیفة فی مجلسه إذا غاب ویعد من أبرز الأحناف وأکثرهم فقهاً.
وسفیان الثوری کان یلقب بأمیر المؤمنین فی الحدیث، وُثق من قبل علماء الحدیث، جمع بین الفقه والحدیث والزهد والورع.
والمقری من رجال الحدیث المعتمدین، روى عنه ابن حنبل والبخاری وآخرون.
والشیبانی هو صاحب کتب الفرقة تولى القضاء أیام الرشید صنف الکثیر من الکتب.
ووکیع هو محدث العراق وأحد الأعلام، روى له أصحاب السنن وتتلمذ علیه الشافعی.
وابن المبارک من مشاهیر العباد جمع بین العلوم المختلفة وروى عنه الکثیر من الرواة.
والأنصاری هو القاضی أبو یوسف من أشهر الأحناف، ولی القضاء أیام المهدی والهادی وهارون الرشید.
ویزید بن هارون هو من الحفاظ روى عنه ابن حنبل وغیره.
انظر تراجم هؤلاء فی: تذکرة الحفاظ للذهبی، وتهذیب التهذیب لابن حجر، ومیزان الأعتدال للذهبی وسیر أعلام النبلاء له ایضاً، والفوائد البهیة فی تراجم الحنفیة.
وانظر ترجمة أبو حنیفة فی کتب التراجم والتاریخ.

الأوزاعیة

تنسب هذه الفرقة إلى عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعی، نسبة إلى محلة الأوزاع بدمشق(3).
وکان الأوزاعی قد ذاع صیته فی محیط الشام فی النصف الأول من القرن الثانی الهجری.
وفترة بروز الأوزاعی کانت فترة التابعین، وقد عاصر الکثیرین منهم، وحدّث عنهم، مثل عطاء بن رباح ومکحول والزهری ومحمد بن سیرین ونافع مولى ابن عمر وغیرهم.
وقد استطاع أن یکوّن لنفسه فرقة ومذهباً مستقلا ساد الشام لفترة من الزمن ثم اندثر(4).
ویمکن ترکیز أفکار ومعتقدات الأوزاعی فیما یلی:
ـ ان الله تعالى فوق عرشه.
ـ الإیمان بصفات الله التی وردت فی السنة.
ـ العلم ما جاء عن أصحاب الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) فقط.
ـ الاعتماد على النقل والروایة فی الفتیا.
ـ علامة الإیمان حب علی وعثمان.
ـ لزوم الجماعة ولزوم السنة.
ولم یترک الأوزاعی تصانیف أو کتب، وقیل ان کتبه احترقت فی حادثة الرجفة(5).
وکان الأوزاعی قد قال فی أبی حنیفة: إنّا لا ننقم على أبی حنیفة أنه رأى، کلنا نرى، ولکننا ننقم علیه أنه رأى الشیء عن النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)فخالفه(6).

المالکیة:

تنسب هذه الفرقة لمالک بن أنس، وکان موطنها مدینة الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم)التی برزت فیها فی حدود القرن الثانی الهجری.
وقد اشتهر مالک وذاع صیته، وجذبت فرقته المسلمین فى کل مکان، وسلطت علیها الأضواء حتى قیل أن الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) تنبأ وبشر به.
وما یمیز هذه الفرقة ترکیزها على الروایة وتبنیها عمل أهل المدینة کمصدر من مصادر الفقة والاجتهاد، واتخاذها هذا النهج کان محاولة للتحصن من الفرق الکلامیة والفکریة والثقافیة التی برزت فی عصر مالک.
من هنا یمکن القول أن أفکار هذه الفرقة التی تسلحت بها فی مواجهة الفرق الأخرى هی ما یلی:
ـ الإیمان یزید والتوقف فی القول بنقصانه.
ـ القرآن کلام الله لا مخلوق.
ـ مرتکب الکبیرة والذنوب عموماً مؤمن.
ـ أقوال الصحابة وفتاواهم من السنة.
ـ القول بطهارة الکلب.
ـ جواز قصر الصلاة فی سفر المعصیة.
ـ عدم جواز إقامة الجمعة إلاّ فی الجامع.
ـ من أکل أو شرب ناسیاً فی رمضان أفطر ویجب علیه القضاء.
ـ أنکحة الکفار باطلة.
ـ أقصى مدة للحمل خمس سنین.
وغیر هذه الأفکار کثیرة، وهی متناثرة فی کتب الفرقة المالکیة التی دونت فى حیاة مالک وهی من تصنیفه والتی دونت من قبل تلامیذه ورموز الفرقة من بعده(7).
وتنتشر الفرقة المالکیة فی بلاد الحجاز والخلیج ومصر وبلاد المغرب.

الشافعیة:

برز محمد بن إدریس الشافعی فی حیاة مالک رافعاً لواء التجدید والتوفیق بین فرقة الأحناف أصحاب الرأی وفرقة المالکیة أصحاب الحدیث، واستقطب کثیر من المسلمین إلى فرقته وخطف الأضواء من الفرق الأخرى.
وقد تجاوزت الأفکار التی طرحها الشافعی وفرقته حدود الفقة والعقیدة والسنة لتدخل فی الإمامة والسیاسة والأدب والفکر الإسلامی.
ومن أهم أفکار الشافعیة:
ـ نبذ علم الکلام.
ـ القرآن کلام الله قدیم غیر مخلوق.
ـ الأحادیث حجة بعد القرآن.
ـ الجمع بین فقه الرأی وفقه الحدیث.
ـ تقنین الفقة وأصوله.
ـ الإمامة فی قریش.
ـ جواز تخصیص القرآن بالسنة.
ـ الالتزام بالقیاس ورفض الاجتهاد بالرأی.
ـ القول بطهارة المنی.
ـ جواز دخول المشرکین المساجد إلاّ المسجد الحرام.
ـ جواز تقدیم العصر على الظهر فی الجمع بین الصلاتین.
ـ عدم جواز الصلاة على الشهید.
ـ وجوب الزکاة على الطفل.
ـ المرتد لا یبطل اعتکافه.
ـ جواز نکاح الرجل ابنته من الزنا.
ـ النکاح الفاسد یحلل الزوجة المطلقة ثلاثاً.
ـ جواز أن یطلق السلطان عن الزوج.
ـ یجوز أکل الذبیحة التی لم یسم علیها عمداً.
ـ الغناء لیس حراماً ولا یفسق فاعله ولا ترد شهادته.
ولقد قدر للفرقة الشافعیة أن تکون أکثر الفرق انتشاراً فی عالم المسلمین فی المشرق والمغرب فی بلاد المسلمین وغیر المسلمین مثل الهند وأوروبا.
ونظراً لهذا الوضع فقد واجه الشافعی وفرقته عداوات کثیرة من الفرق الأخرى ودبرت المؤامرات له ولفرقته(8).

الحنابلة:

قام بتأسیس هذه الفرقة أحمد بن حنبل الشیبانی فی بغداد فی النصف الأول من القرن الثالث الهجری وکانت اهتماماته تتجه نحو الحدیث وفتاوى الصحابة وآرائهم ولم یکن یمیل إلى الاجتهاد برأیه.
وتعد فرقة الحنابلة أول من زرع بذور الشقاق والتطرف والخصومة فی واقع المسلمین بسبب تعصبها الشدید وانغلاقها على الحدیث والمأثور فمن ثم کان الرأی والاجتهاد یمثّل استفزازاً کبیراً لها.
وقد اشتهرت فتن الحنابلة واعتداءاتهم على خصومهم من الفرق الأخرى واکتظت کتب التاریخ بحوادثهم.
وکان أحمد بن حنبل واحداً من تلامیذ الشافعی، وکان میله الشدید نحو الحدیث وتتبعه من رواته وحفظته قد أدى بالشافعی إلى أن یقر بتفوقه فی هذا المجال الذی أثمر فی النهایة عن کتابه المسند الذی جمع فیه الأحادیث التی رواها وتلقاها من مصادر طوال حیاته وهى تصل إلى حوالی أربعین ألف حدیث.
ویعد المسند هو المرجع الأول عند فرقة الحنابلة.
ـ نماذج من الأفکار الحنبلیة:
ـ الإیمان قول وعمل ویزید وینقص.
ـ مرتکب الکبیرة أمره مفوض إلى الله.
ـ محاربة الجدل ونبذ علم الکلام وأهله.
ـ الإیمان بصفات الله کما وردت فی القرآن والأحادیث.
ـ القرآن غیر مخلوق.
ـ رؤیة الله تعالى یوم القیامة.
ـ لا یجوز الخروج على الحاکم ولو کان ظالماً فاسقاً.
ـ عدالة جمیع الصحابة.
ـ الخیر والشر من قضاء الله وقدره.
ـ الخلافة فی قریش.
ـ الجهاد ماض قائم مع الإمام براً کان أو فاجراً وکذلک الجمعة والحج والعیدان.
ـ دفع الصدقات والفیء والخراج والغنائم إلى الأمراء عدلوا فیها أو جاروا.
ـ عدم جواز الصلاة خلف أهل البدع أو الصلاة على من مات منهم.
ـ کفر تارک الصلاة وعدم جواز الصلاة علیه ودفنه فی مقابر المسلمین.
ومثل هذه الأفکار وغیرها مما تکتظ به کتب الحنابلة قد أتت بنتائج عکسیة طوقت فرقة الحنابلة وجعلتها من أقل فرق أهل السنة شأناً وانتشاراً فی بقاع المسلمین، وإن کان بروز الفرقة الوهابیة وسیطرتها على جزیرة العرب قد جعل هذه الفرقة تسودها وتخترق بها بقاع أخرى کثیرة بفضل النفط.
وقد اختلف المؤرخون والفقهاء فی أمر الحنابلة وتصنیفهم هل هی فرقة حدیث أم فرقة فقه؟
والحق أنها فرقة حدیث وفقه وعقائد شاذة لا زالت تلقى بظلالها على واقع المسلمین وتسهم فی تأصیل الخلاف والتطرف.
ومن أشهر الحنابلة صالح بن أحمد بن حنبل وأخیه عبد الله، وکلاهما نقل فقه أبیهما وعقائده وأفکاره إلى الناس، وعبد الله هو الذی روى المسند وتممه عن أبیه وتوفی عام 290 هـ.
وأحمد بن الحجاج المروزی وهو الذی نقل کتاب الورع عن ابن حنبل وکان من خواصه، توفی عام 275 هـ.
وأحمد بن هارون أبو بکر الخلال وهو الذی قام بجمع فقه ابن حنبل وتوفی عام 311 هـ(9).

الأشاعرة:

تنسب هذه الفرقة إلى أبى الحسن الأشعری الذی کان من أتباع فرقة المعتزلة ثم انشق عنها وقام بطرح أفکاره الجدیدة التی قامت على أساسها فرقة الأشاعرة وهی أفکار تتعلق بالاعتقاد، وأما ما یتعلق بالفقة فقد التزم فیه بفرقة الشافعی.
وجاء الأشعری بأفکاره هذه من أجل التوفیق بین العقل والنقل، أی بین الفرق التی أسرفت فی الاعتماد على أحادیث وأقوال الصحابة والتابعین والفرق التی أسرفت فی استخدام العقل إلاّ أنه مال أکثر لأهل السنة.
ویمکن تحدید أفکار الأشعری التی تمیز بها فیما یلی:
ـ کلام الله قدیم بمعانیة حادث بألفاظه.
ـ الإیمان بصفات الله بلا تشبیه ولا تکییف.
ـ صفات الله حقیقة لا مجاز.
ـ الله سبحانه وتعالى فوق السموات على عرشه دون أرضه.
ـ المؤمنون یرون ربّهم یوم القیامة.
ـ الله یضل من یشاء ویهدی من یشاء ویفعل ما یشاء.
ـ إن الله قسم خلقه فرقتین: فرقة خلقهم للجنة وفرقة خلقهم للسعیر.
ـ الإیمان یزید وینقص.
ـ الکبیرة لا تخرج عن الإیمان.
ـ عذاب القبر حق.
ـ شفاعة النبی لأهل الکبائر من أمته.
ـ السمع والطاعة لأئمة المسلمین عن رضى أو غلبة جاروا أو عدلوا یغزوا معهم ویحجوا معهم ویدفعون لهم الصدقات.
ـ الکف عن ذکر الصحابة بسوء.
ـ ذم أهل البدع والتبری منهم.
ـ عدم جواز الخروج عن أقوال السلف فیما اجتمعوا علیه.
ـ العقل یمیّز بین الخیر والشر وفق أحکام الشرع.
ـ الإنسان یرید الفعل باختیاره والله ینفذه له.
ولقد کانت فرقة الأشاعرة أکثر حظاً من فرق أخرى کثیرة إذ تبنتها الدولة الأیوبیة ثم المملوکیة من بعدها وفرضتها على مصر والشام لتأخذ دفعة قویة نحو الانتشار والبقاء فی واقع المسلمین حتى یومنا هذا(10).
ومن أبرز أئمة هذه الفرقة:
القاضی أبو بکر الباقلانی (328 / 403هـ) وهو من کبار علماء الکلام،
وقام بتنقیح طرح الأشعری، له الکثیر من المصنفات منها: دقائق الکلام، إعجاز القرآن، الاستبصار، کشف أسرار الباطنیة، الملل والنحل.
وأبو حامد الغزالی (450 / 505هـ).
وأبو اسحاق الأسفرایینی المتوفى عام 418هـ، له کتاب کبیر فی علم الکلام أسماه الجامع فی أصول الدین والرد على الملحدین.
وأبو المعالی الجوینی (419 / 478هـ) له کتاب غیاث الأمم فی التیاث الظلم.
الفخر الرازی (544 / 606هـ) له أساس التقدیس فی علم الکلام، والبیان والبرهان فی الرد على أهل الزیغ والضلال بالإضافة إلى تفسیره الشهیر للقرآن.

الماتریدیة:

وهی فرقة تنسب لأبی منصور محمد الماتریدی السمرقندی، وقد برز بفرقته فی بلاد ما وراء النهر فی ظل حکم یدین بالولاء لأهل السنة وفی ظل واقع تسوده فرقة الأحناف، فمن ثم أخذ الماتریدی فی الترکیز على الجانب العقائدی تارکاً أمور الفقة لفرقة الأحناف التی کان ینتمی إلیها.
وقد دخل الماتریدی فی صدامات مع الفرق الأخرى من فرق أهل السنة وغیرهم، وصنف الکثیر من الکتب والردود.
ولم یبرز الماتریدی بأفکار جوهریة تمیّزه عن فرقة الأشاعرة أو الحنابلة فی مجال الإعتقاد إلاّ أن أفکاره أخذت قیمتها وسلطت علیها الأضواء لکونها برزت فی ظل واقع کان خالیاً ممن یزوّد عن اهل السنة ویبرز عقائدهم فی مواجهة الفرق المتربصة بهم فی منطقة الماتریدی.
إن هناک خلافات طفیفة بین الماتریدی والأشعری دفعت بالأشاعرة إلى الطعن فی الماتریدی وفرقته.
وهذا ما دفع ببعض المتأخرین إلى اعتبار الأشاعرة والماتریدیة هما جناحا أهل السنة، وإذا کان الأشعری قد برز للتوفیق بین أهل السنة (أهل الحدیث) وأهل العقل (المعتزلة)، فإن الماتریدی برز للتوفیق بین الأشاعرة والمعتزلة حیث أن الأشاعرة لم یقدّروا العقل حق قدره
والمعتزلة لم یقدّروا الوحی حق قدره.
من هنا فإن الأفکار التی برز بها الماتریدی تدور فی هذا المحیط، وهی تنحصر فیما یلی:
ـ العقل یستقبل بمعرفة الله لا معرفة الأحکام.
ـ صفات الله غیر ذاته.
ـ کلام الله قدیم غیر مؤلف من حروف ولا کلمات حادثة، وهی تدل على المعنى.
ـ رؤیة الله یوم القیامة اختص الله بکیفیتها وأحوالها.
ـ العقل یستطیع أن یدرک حسن بعض الأشیاء وقبحها.
ـ أفعال الله تعالى تکون على مقتضى الحکمة.
ـ أفعال العباد مخلوقة ولا عقاب ولا ثواب إلاّ وللعبد اختیار فیما یستحق علیه الثواب وما یستحق علیه العقاب.
ومن سوء حظ فرقة الماتریدیة أن الدول التی احتضنتها فی بلاد ما وراء النهر قد زالت مثل دولة السامانیون، وحلت محلها دول أخرى مما أثّر بالسلب على أفکار الفرقة وحصرها فی دائرة موطنها وحال دون انتشارها فی بقاع أخرى.
ومن أبرز رموز هذه الفرقة: أبو المعین النسفی (438 / 508هـ) له کتاب تبصره الأدلة، وهو المرجع الأساسی للفرقة، وله کتاب بحر الکلام.
ونجم الدین عمر النسفی (462 / 537هـ) کان صاحب نشاط واسع
وله الکثیر من الاتباع، وصنف الکثیر من الکتب التى تخدم خط الماتریدیة، منها:
العقائد النسفیة وهو یترجم عقائد الماتریدیة.
مجمع العلوم، والنجاح فی شرح کتاب أخبار الصحاح وهو فی شرح البخاری.

الظاهریة:

لم یسترح داود بن علی الأصبهانی لفکرة الاجماع والقیاس وسائر مصادر الفقة التی ابتدعها الشافعی الذی کان من أشد المتعصبین له والسائرین على نهجه فأعلن الخروج على فرقة الشافعیة محدداً المصادر الشرعیة فی النصوص من الکتاب والسنة فقط رافضاً الاجتهاد والتقلید معتبراً أن حق المسلمین فهم الدین والتحدث بلسانه ما داموا یفهمون اللغة العربیة.
من هنا أطلق على هذه الفرقة اسم الظاهریة لکونهم یأخذون بظاهر النصوص، وشنّت علیهم حرباً شعواء من فرقة الشافعیة والفرق الأخرى التی اتهمتهم بالجهل وحرّضت علیهم الحکام کی لا یمنحوهم مناصب القضاء.
إلاّ أنه رغم هذا کله استطاعت الفرقة الظاهریة أن تثبت أقدامها فی ساحة الفرق وتنتشر فی أوساط المسلمین وتصبح منافساً قویاً للفرق الأخرى فی عصرها.
وقد تمکنت الفرقة الظاهریة من الوصول إلى الأندلس حیث تلقفها هناک ابن حزم، وقوبلت الأفکار الظاهریة بمواجهة شدیدة من قبل الفرقة المالکیة التی کانت سائدة فی الأندلس آنذاک.
وقام ابن حزم بدور کبیر فی نشر الأفکار الظاهریة فی الأندلس ولاقى مقاومة شدیدة من فقهاء المالکیة واستمر على نهجه الظاهری حتى أصبح من رموز الفرقة الظاهریة، وصنف الکثیر من الکتب فی هذا المجال ومجالات أخرى أدبیة وفلسفیة وعقائدیة.
وکان من أمر خصومه أن سعوا لدى المعتضد حاکم أشبیلیة، فصادر کتب ابن حزم وأحرقها علانیة.
وما یمکن قوله حول فرقة الظاهریة أنها لم تستمر طویلا ولم تلق دعماً من أحد کما هو حال فرق أهل السنة السابق ذکرها فکتب علیها الاندثار لتصبح فی ذمة التاریخ کما هو حال المرجئة والجبریة والقدریة وغیرها من الفرق التی تخلّى عنها الحکام وأصحاب النفوذ.
إلاّ أن تبنی ابن حزم لفرقة الظاهریة قد ساعد على نشرها فی بلاد الأندلس حیث أن نشاطه ومصنفاته الکثیرة قد أحرج بها خصومه وفرض الظاهریة على ساحة الواقع.
خلاصة أفکار ابن حزم:
ـ لم یرتّب القرآن أحد إلاّ رسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم) کما هو عن الله تعالى(هذا القول یناقض أقوال فرق السنة الأخرى وما علیه الإجماع عند أهل السنة من أن رسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم)مات وترک القرآن غیر مجموع. وقول ابن حزم هذا تقول به الشیعة. انظر باب فضل القرآن فی البخاری. وانظر لنا دفاع عن القرآن ضد الفقهاء والمحدّثین.).
ـ زیادة القبور فرض.
ـ اللهو مباح.
ـ لا یجرى عمل فی الدین إلاّ بسنة(هذا القول یبیّن وجهة ابن حزم التی تأخذ بظاهر النص والتعصب للروایات وعدم الاجتهاد).
ـ لم یکن لرسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم) وصی قط، لا علی ولا غیره(هذا الکلام موجّه إلى الشیعة الذین یقولون بأن الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) أوصى لعلی بالإمامة من بعده. وهو موجه إلى أهل السنة أیضاً الذین یقولون بأن الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) أوصى لأبی بکر بالخلافة من بعده
ـ لا یکره تقبیل الید والرجل من السلطان.
ـ لعن الکافر قربة إلى الله، وکذلک السارق، ولا یحل لعن شارب الخمر، ولکن یدعى له بالتوبة.
ـ الجهاد أفضل الاعمال بعد الفرائض.
ـ لا یرد على أهل الذمة ـ السلام ـ إلاّ "وعلیک".
ـ المقتتلان لغرض الدنیا فی النار.
ـ الإسراء بالرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) بجسده وروحه.
ـ أهل التأویل وأهل الجهل لیسوا کفاراً. ( یرد ابن حزم هنا على فرق أهل السنة الأخرى التی تقول بکفر من خالفهم فی الاعتقاد وکفر تارک الصلاة وکفر المعتزلة والجهمیة والشیعة الذین یتبنّون نهج التأویل فی مواجهة صفات الله الواردة فی القرآن، وتبنى هذا النهج یعنی رفض الروایات الواردة فی کتب السنن حول صفات الله أو التشکیک فیها وتأویلها إذ أن هذه الروایات قادت فرق أهل السنة إلى القول بأن صفات الله حقیقة لا مجازاً کما یقول أهل التأویل.)
ـ القرآن لیس مخلوقاً.
ـ بقاء الجنة والنار.
ـ عذاب القبر حقیقة.
ابن تیمیة:
کان ابن تیمیة من اتباع الفرقة الحنبلیة، ثم برز ببعض الأفکار الشاذّة التی ألّبت علیه الفرق الأخرى ودفعت بالحنابلة إلى التبرأ منه.
وقد عاصر ابن تیمیة فترة الحکم المملوکی فی مصر والشام، وذلک فی النصف الثانی من القرن السادس الهجری إلى النصف الأول من القرن السابع.
وشغل ابن تیمیة وفرقته بخصومهم من الفرق الأخرى، واشتعلت الحرب بینهم وقام فقهاء الفرق الأخرى ـ خاصة رموز الفرق الصوفیة التی کان یرکز العداء علیها ابن تیمیة وفرقته ـ بتحریض حکام الممالیک علیه فقبض علیه وحوکم من قبل الفقهاء وحبس حتى مات فی الحبس.
وحاول تلمیذ ابن تیمیة ابن القیم الجوزیة ومعه ابن کثیر الدمشقی إحیاء أفکار ابن تیمیة وفرقته بعد موته فقبض علیهما.
أما أفکار ابن تیمیة التی أثارت الفرق الأخرى علیه وأدت إلى محاکمته وحبسه فهی:
ـ القول بالتجسیم.
ـ القول بنفی المجاز فی اللغة والدین.
ـ رفض المنطق والفلسفة وعلم الکلام.
ـ الطعن فی الخصوم وتشویههم.
ـ مقاومة الفرق الصوفیة والأشاعرة والمعتزلة والشیعة.
ـ تحریم شد الرحال إلى مسجد الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم).
ـ القول بفناء النار.
ولم یکتب لفرقة ابن تیمیة وأفکاره البقاء والاستمرار والانتشار لا فی حیاته ولا بعد موته حتى جاءت الفرقة الوهابیة، فبعثتها من جدید ولقّبت ابن تیمیة بلقب لم یحصل علیه فی عصره وهو لقب شیخ الإسلام.
وقد سار على نهج ابن تیمیة من بعده تلمیذه ابن القیم الجوزیة الذی قام بنظم عقائد ابن تیمیة فی نونیته.
وصنّف کثیر من المصنفات، إلاّ أنه فی آخر حیاته مال إلى الزهد والرقائق وسار على نهجه أیضاً ابن کثیر الدمشقی صاحب تفسیر القرآن العظیم وکتاب البدایة والنهایة فی التاریخ.
المصادر :
1- وفیات الأعیان ج1/609
2- طبقات ابن سعد ج7/156، وسیر أعلام النبلاء للذهبی ج4/563، وحلیة الأولیاء للأصفهانی ج2 / ترجمة رقم 169.
3- أعلام النبلاء للذهبی ج7 ترجمة رقم 48 ط بیروت/ تهذیب التهذیب لابن حجر ج6 ترجمة رقم 484 ط الهند.
4- تاریخ الإسلام للذهبی حوادث عام 141: 160هـ، تراجم الطبقة: 16/ ط بیروت.
5- هی زلزلة عظیمة وقعت بالشام والقدس خاصة عام 130هـ.
6- تاریخ الإسلام للذهبی المرجع السابق ص492.
7- طبقات الفقهاء وسیرة مالک فی کتب التاریخ والتراجم./ کان الشافعی من تلامیذ مالک
8- کتاب توالی التأسیس لابن حجر. وانظر طبقات الفقهاء. وطبقات الشافعیة للسبکی.
9- المناقب لابن الجوزی.
10- اعتبرت الأشاعرة الجناح الأیمن لأهل السنة بینما اعتبرت فرقة الماتریدیة الجناح الأیسر وهی تدرّس فی المدارس حتى الیوم. ویذکر أن صلاح الدین فرض الأشاعرة على الشام ومصر بالقوة واعتبر الخارج عن معتقداتها فی دائرة الزائغ المتزندق وعقوبته الموت، وهذا الحکم کان موجهاً لاتباع الفرق والاتجاهات الأخرى.

source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أين دفن النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) في بيت ...
زينب الكبري
الإمام الصادق (ع) رائد العلم ومكتشف النظريات
كيف ينظر الإسلام إلى المرأة ؟
نشاُة المذاهب
موقف بني إسرائيل من نبي الإسلام
دولة الإمام المهدي هي دولة آل محمد، وستكون آخر ...
زيارة السيد عبد العظيم الحسني علیه السلام
إبراهيم ونصرة المختار
تاريخ المصحف العلوي عبر العصور

 
user comment