ما أکدّت الشریعة نفیه (الطیرة) فإنّها اکتسحت ببیانها الأوفى ما اعتاده الجاهلیون مما یردع العامل عن قصده ولا یتاح له الحصول على غایاته وأوضحت مضار هاتیک العرقلة أمام سیر الأمة فالمسلم المستنیر بالتعالیم الربوبیة لا یکترث بالأقران والأعضب والبارح .( 1) وإلى هذه التافهات من عادات الجاهلیة یشیر الکُمیت الأسدی بقوله: ولا أنا ممن یزجر الطیر همه***أصاح غراب أم تعرّض ثعلب ولا السانحات البارحات عشیّة***أمرّ سلیم القرن أم مرّ أعضب وهذه العقیدة الراسخة فی نفسه استفادها من تعالیم أئمّته من آل الرسول (علیهم
ما أکدّت الشریعة نفیه (الطیرة) فإنّها اکتسحت ببیانها الأوفى ما اعتاده الجاهلیون مما یردع العامل عن قصده ولا یتاح له الحصول على غایاته وأوضحت مضار هاتیک العرقلة أمام سیر الأمة فالمسلم المستنیر بالتعالیم الربوبیة لا یکترث بالأقران والأعضب والبارح .( 1)
وإلى هذه التافهات من عادات الجاهلیة یشیر الکُمیت الأسدی بقوله:
ولا أنا ممن یزجر الطیر همه***أصاح غراب أم تعرّض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشیّة***أمرّ سلیم القرن أم مرّ أعضب
وهذه العقیدة الراسخة فی نفسه استفادها من تعالیم أئمّته من آل الرسول (علیهم السلام) الدعاة إلى شرع جدّهم الذی لم یزل یهتف غیر مرّة بأن الطیرة مرفوعة عن هذه الأمة وإنّها من الشرک وما منّا من یتطیّر (2)ومن استقسم أو تکهّن أو تطیّر طیرة تردّه عن سفره لم ینظر إلى الدرجات العلى یوم القیامة وإن من أرجعته الطیرة من حاجة فقد أشرک فإذا تطیّرت فامض.( 3)
وکتب بعض البغدادیین إلى أبی الحسن (علیه السلام) یسأله عن الخروج یوم الأربعاء فقال من خرج یوم الأربعاء خلاف على أهل الطیرة وقی من کل آفة وقضى الله حاجته .( 4)
ولما سمعت أم کلثوم أباها أمیر المؤمنین یقول: صوائح تتبعها نوائح قالت یا أبة تتطیّر قال (علیه السلام) یا بنیَّة ما منّا أهل البیت من یتطیّر ولا یتطیّر به ولکن قول جرى على لسانی .( 5)
ولم یحکِ الله التطیّر إلا عن أعداء الرُّسل المائلین عن صراط الشریعة المنحرفین عن التعالیم المقدّسة فإنّهم قالوا لرُسلهم: (إنّا تطیّرنا بکم لئن لم تنتهوا لنرجمنّکم ولیمسنّکم منّا عذاب ألیم قالوا طائرکم معکم أئن ذکرتم بل أنتم قوم مسرفون) وفی الحکایة عن قوم صالح (قالوا أطیرنا بک وبمن معک قال طائرکم عند الله) وفی الحکایة عن قوم فرعون (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا هذه لنا وإن تصبهم سیّئة اطّیّروا بموسى ومن معه ألا إنّما طائرهم عند الله) وفی الحکایة عن أعداء رسول الله (وإن تصبهم حسنة یقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سیّئة یقولوا هذه من عندک قل کلّ من عند الله.
وقد أوضح النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) لأمّته فساد الطیرة لیعلموا أن الله تعالى لم یجعلها سبباً لما یخافونه لتطمئنّ قلوبهم وتسکن نفوسهم إلى وحدانیة الباری عزّ شأنه فیترسّلون فی أعمالهم ولا یحذرون من وخامة العاقبة فلا ینبغی للإنسان التوقّف فی أعماله متّکلاً على هذه الأمور التی لا یقام لها وزن فی جنب الإرادة الإلهیة.
ثم من لطف الشارع بالأمة جعل لهم أسباباً یکون قیامهم بها منجاة من وخامة ما یتطیّرون منه فأرشدهم إلى أن التوکّل على الله یذهب ما یخاف من الطیرة (6)والصدقة تدفع الأضرار الموهومةوالدعاء عند السفر منجاة من الشرک کما قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) عند خروجه إلى النهروان:
اللهمّ لا طیر إلا طیرک ولا ضیر إلا ضیرک ولا خیر إلا خیرک ولا إله غیرک (7)أو کما قالالامام موسى بن جعفر (علیه السلام): اعتصمت بک یا ربّ من شرّ ما أجد فی نفسی فاعصمنی من ذلک) .( 8)
وکما صدر من الشارع نفی الطیرة أخبر عن حسن الفأل بالأسماء الحسنة والسرّ فیه أن التفاؤل یوجب النشاط فی العمل والمضیّ فی المقصد وهو الذی یریده المولى سبحانه من العباد.
فالتطیّر بما أنّه تشاؤم من المرئی أو المسموع یکون قاطعاً للعبد عن مقام (إیّاک نستعین) وفاتحاً على نفسه باب الخوف بغیر الله ومن هنا أطلق علیه الشرک وتبرّأ منه النبیّ وأهل بیته فقالوا ما منّا من یتطیّر.
وأمّا الفأل فحیث إنّه من الأشیاء السارّة للقلوب المؤیّدة للآمال الفاتحة باب الرجاء المسکنة للخوفة الرابطة للجأش الباعثة على الاستعانة بالله والتوکّل علیه المفضیة بصاحبها إلى الطاعة والتوحید حرّض علیه النبیّ وأحبّه فقال (صلى الله علیه وآله وسلم): لا طیرة وخیرها الفأل، وفی لفظ آخر: ویعجبنی الفأل الصالح .( 9)
وفی حدیث بریدة کان النبیّ لا یتطیّر وإنّما یحبّ الفأل استقبله فی سبعین من أسلم فقال لی ما اسمک قلت بریدة فسرّ وجهه وقال برد أمرنا وصلح وممن قلت من أسلم قال سلمنا ثم ممّن قلت من بنی سهم قال خرج سهمنا).( 10)
ولیس فی حدیث اللقحة التی أمر بحلبها فقام رجلان لیحلباها وکان اسم أحدهما مرّة والآخر حرب فأمرهما بالجلوس حتى إذا قام ثالث اسمه یعیش أمره بالحلب .( 11)
ما یشهد للتطیّر فإنه من المحال على النبیّ أن ینهى عن شیء ثم یرتکبه بمثل حرب ومرة وجمرة وأمثالها فاتبع قوله الفعل تعلیماً للمسلمین بالمضی على أمره مطمئنّین غیر هیّابین.
وممّا یؤکده ما فی بعض الأحادیث من زیادة قول عمر أتکلم یا رسول الله أم أصمت فقال (صلى الله علیه وآله وسلم) بل أصمت وأنا أخبرک بما أردت ظننت یا عمر أنها طیرة ولیست بذلک فإنّه لا طیرة إلا طیرة ولا خیر إلا خیر ولکن أحب الفأل الحسن.
والنکتة فی نهی النبیّ عن التسمیة بالأسماء القبیحة حتى غیّر بعض الأسماء إلى ما هو احسن کتغییر الحباب بن المنذر إلى عبد الرحمن وشهاب إلى هشام وحرب إلى مسلم وأبی مُرّة إلى أبی حلوة وبنی مغویة إلى بنی مرشدة .( 12)
هو إرشاد الأمة إلى أن البقاء على مذاهب سلفهم من التسمیة بتلک الأسماء ربّما یؤدّی إلى حزن بعضهم من بعض عند المصاحبة والملاقات لکون الطیرة من الغرائز الکامنة فی النفوس فقد یعبّر الإنسان تعبیر السوء من اشتقاق الاسم فیفارق صدیقه وأخاه فی السفر والمعاملات والشرکات فتنحلّ عُرى الاجتماع وتفکّک الوحدة والتضامن فکان من لطف الشارع على الأمّة ورأفته بهم أن عرّفهم بأن لا یقیموا على حال یتنفّر منها لغیر عذر ولا فائدة تعود فی الدین والدنیا فإنّه جاء حاملاً لواء الوحدة والاجتماع والتراحم وإدخال المسرّات على المؤمنین.
ولذا کان یأمر بالغسل والطیب یوم الجمعة ویمنع آکل الثوم من إدخال المسجد لما فیه من الاستکراه الموجب للتنفر والفرقة الرافعة للحنان والعطف.
وأمّا عدوله (صلى الله علیه وآله وسلم) عن الجبلین فی طریقه إلى (بدر) وکان أهل أحدهما بنو النار والآخر بنو محرق فلیس للتطیّر لأنّه کان على حال أحوج فیها إلى الاجتماع والتضامن من التفرّق وغرائز الناس على حالها من الانقباض عن الأسماء القبیحة فأراد النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) مماشاتهم فی هذا الحال کی لا یتفرق جیشه تطیراً من اسم الجبلین وأهلهما.
هذا على فرض صحّة الحدیث وإلاّ فالمجال واسع فی حساب أُولئک الرجال من حیث الاعتماد على مرویاتهم.
وسؤال الحسین (علیه السلام) عن اسم الأرض ولما أخبر بأنّها کربلاء قال کرب وبلاء لم یکن من التطیّر فی شیء فإن المتطیّر لم یعلم ما یرد علیه وإنما یستکشف ذلک من تلک الأشیاء المعروفة عند العرب أنّها سبب لورود الشرّ وسیّد الشهداء کان على یقین مما ینزل به فی أرض الطفّ من قضاء الله تعالى فهو عالم بالکرب الذی یحلّ به وبأهل بیته.
کما أنّه (علیه السلام) لم یکن جاهلاً باسم الأرض کیف والإمام عندنا معاشر الإمامیة عالم بما یجری فی الکون من حوادث وملاحم ویعرف ما أودع الله فی الأشیاء من أسرار ومزایا أقداراً من مبدع السموات والأرضیین جلّت عظمته فإنّه سبحانه أودع فی الأئمة الطاهرین قوّة قدسیة نوریة بواسطتها کانوا یتمکّنون من استکشاف الأشیاء ویقفون على أنساب الناس وما تکنّه الصدور وما یدّخرون ویعرفون لغات الحیوانات وإذا جاز فی سلیمان (علیه السلام) أن یعرف منطق الطیر کما قال تعالى (وعلّمناه منطق الطیر) ففی من تکوّن من النبیّ الذی هو أکمل الکائنات أولى وأجدر وهذه القوة عبّر عنها فی الآثار بعمود نور یرفع للإمام (علیه السلام) عند الولاة یرى به أعمال العباد وما کان ویکون.
فسؤال الامام الحسن (علیه السلام) عن اسم الأرض التی منعوا من اجتیازها (13)أو أن أوقف الجواد فلم ینبعثکما أوقف ناقة النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) عند الحدیبیة فلم تنبعث حتى هبط جبرائیل یأمره بالنزول فی هذا الموضع والصلح مع قریش) .( 14)
لأجل أن یعترف أصحابه بتلک الأرض التی هی محلّ التضحیة الموعودین بها بأخبار النبیّ والوصی (صلى الله علیهما) لتطمئنّ القلوب وتمتاز الرجال وتثبت العزائم وتصدق المفاداة.
وهذا باب من الأسئلة معروف عند علماء البلاغة یعرف بتجاهل العارف أو سوق المعلوم مساق المجهول وإذا کان فاطر الأشیاء الذی لا یغادر علمه صغیراً ولا کبیراً یقول لموسى (علیه السلام): (وما تلک بیمینک یا موسى) ویقول سبحانه لعیسى (علیه السلام) (أأنت قلت للناس اتخذونی وأُمی إلهین) لضرب من المصلحة فالإمام المنصوب من قبله أمیناً على شرعه ودلیلاً لعباده لا تخفى علیه المصالح.
وهذا کسؤال النبیّ عن اسم الجبلین واسم الرجلین اللذین قاما لحلب اللقحة ألم یکن النبیّ الأعظم المتکوّن من النور الأقدس عالماً بذلک؟ وإنّما النکتة ما أشرنا إلیها.
لقد ورد عن الشارع أحادیث ربّما یستظهر منها غیر المتأمّل فی أسرارهم إثبات الطیرة مثل ما ورد أن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) قال: لا عدوى ولا طیرة وإنّما الشؤم فی ثلاثة: المرأة والفرس والدار .( 15)
وهذا فی الحقیقة إخبار عمّا تعلّقت به إرادة المولى جلّ شأنه بعدم السعادة فی هذه الأشیاء لمن اقترن بها وصاحبها نظیر خلق المسلک وغیره من الأرواح الطیّبة فبعض الأشخاص یتلذّذ بها وبعض یلحقه الضرر منها کما أودع تعالى شأنه فی بعض الأحجار خواص من خیر أو شرّ تلحق من یحملها.
ومن هذا القبیل المرأة والفرس والدار فإن الله تعالى قضى بسعادة من قارنها کما قضى بنحوسه جریاً لناموس المصالح والمفاسد فی الأشیاء فأین هذا من الطیرة التی یحکم فیها بنحوس الشیء وإن لم یجعله الله کذلک.
والنبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) حیث لم یرد المصارحة بهذه الأسرار لبعد العقول عنها أجمل البیان ثم نصب قرینة على المراد باقتران هذه الثلاثة بنفی الطیرة فی کلام واحد وإلاّ فلا یعقل منه (صلى الله علیه وآله وسلم) أن ینفی الطیرة ثم یفرضها فی کلام واحد فیقول: لا طیرة وإنمّا الشؤم فی ثلاثة الخ.
على أنّه ورد فی أحادیث آل الرسول ما یفسّر ذلک الشؤم المخبر عنه ففی حدیث الامام الصادق علیه السلام( شؤم المرأة کثرة مهرها وعقوق زوجها وأما الدابة فمنعها ظهرها وجماحها وأما الدار فضیق ساحتها وشرّ جیرانها وکثرة عیوبها ومن برکة المرأة خفّة مؤنتها ویسر ولادتها (. (16)
وفی وصیّة النبیّ لأمیر المؤمنین: العیش فی ثلاثة دار قوراء وجاریة حسناء وفرس قباء) .( 17)
ونفی العدوى فی هذا الحدیث لا ینافی ما ورد أن الرجل یصیب إبله الجرب فیوردها على إبل صحیحة فقال النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم: لا توردن ذا عاهة على مصحّ.( 18)
فإن الغرض من النهی التحرّز عن إیذاء المؤمن بإدخال الإبل الجرب على الصحیحة لاعتقاده أن ذلک مؤثر فی العدوى فیتسبّب منه التنفّر من هذا الفاعل والمذمّة له وقد جاءت الشریعة بالتعاضد والإِلفة بین المسلمین فقوله (لا توردن ذا عاهة) لیس العدوى إذ قد یکون فی الحیوان الوارد علیه المریض مناعة تضاد میکروب الجرب فلا یصاب بذلک الداء ومن هنا قال الشریف المرتضى: إنا نجد کثیراً ممن یخالط الجربى فلا یجرب ویخالط الصحیح ذا عاهة فلا یصیبه من دائه شیء فنهی النبیّ لم یکن الملازمة الواقعیة فی التأثیر.
کما أن أمره (صلى الله علیه وآله وسلم) بالفرار عن المجذوم فی قوله: فرّ من المجذوم فرارک من الأسد لا دلالة فیه على العدوى بحیث تکون مقاربة المجذوم علّة تامة للتأثّر لا مکان وجود المناعة الرافعة للانفعال بل الغرض من الأمر بالفرار الإیعاز إلى استقذاره ونتن ریحه والتنفّر منه وربمّا یسبّب ذلک تعییره والازدراء علیه فینکسر ذلک المبتلی بقضاء الله والمولى الحکیم لا یرید من العباد إلاّ التراحم والعطف فیما بینهم.
وامتناع النبی من إدخال المجذوم علیه للبیعة (19)لا دلالة فیه على العدوى وإلاّ فقد ورد الحدیث أنّه أخذ بید مجذوم ووضعها فی القصعة وقال کل ثقة بالله وتوکلاً علیه .( 20)
کما أن السجّاد (علیه السلام) السائر على ضوء جدّه وأبیه لم یمتنع من الأکل مع المجذومین ففی الحدیث أنّه علیه السلام مرّ على مجذومین یأکلون فدعوه إلى الأکل معهم فقال (علیه السلام):( لولا أنّی صائم لفعلت فلمّا صار إلى منزله أمر بطعام فصنع ثم دعاهم فأکلوا وأکل معهم) .( 21)
فلو کانت مقاربة المجذومین علّة تامّة للعدوى لما فعل الإمام (علیه السلام) ولکنّه بیّن للواقفین على فعله معهم ممن حضر ومن الأجیال المتتابعة أن الاتصال بذوی العاهات قد لا یؤثر فی انفعال الأجسام الصحیحة لوجود القوة المانعة منه أو للتوکّل على الله والثقة بأنّه سبحانه مورد البلاء حسب المقتضیات ..
المصادر :
1- فی تاج العروس ج2 ص123 /ج1 ص387 الأعضب مکسور القرن والأقران صحیحه
نهیة ابن الأثیر ج3 ص58 وشرح النهج الحدیدی ج4 ص430.2-
3- مفتاح دار السعادة ج2 ص247
4- من لا یحضره الفقیه للصدوق ص168
5- المستدرک للنوری ج2 ص27
6- الوسائل ج2 ص180 عین الدولة
7- أمالی الصدوق ص339
8- من لا یحضره الفقیه ص168 وشرح النهج الحدیدی ج4 ص431
9- البخاری ج4 ص14 ومسلم ج2 ص260
10- مسند أحمد ج5 ص347
11- موطأ مالک ج3 ص140 مصر
12- مفتاح دار السعادة ج2 ص262
13- کامل ابن الأثیر ج4 ص21
14- ابن الأثیر ج2 ص76
15- صحیح مسلم ج2 ص231
16- معانی الأخبار للصدوق ص49
17- الخصال للصدوق ج1 ص62
18- أمالی السید المرتضى ج4 ص111 ومختلف الحدیث لابن قتیبة ص123 وسفینة البحار ج1 ص148 عن أمالی الصدوق والهیئة والإسلام للشهرستانی ج1 ص27 بغداد وصحیح البخاری ج4 ص8 کتاب الطبّ ومفتاح دار السعادة ج2 ص287
19- مختلف الحدیث ص123
20- مفتاح دار السعادة ج2 ص287
21- البحار للمجلسی ج11 ص117 عن الکافی
وإلى هذه التافهات من عادات الجاهلیة یشیر الکُمیت الأسدی بقوله:
ولا أنا ممن یزجر الطیر همه***أصاح غراب أم تعرّض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشیّة***أمرّ سلیم القرن أم مرّ أعضب
وهذه العقیدة الراسخة فی نفسه استفادها من تعالیم أئمّته من آل الرسول (علیهم السلام) الدعاة إلى شرع جدّهم الذی لم یزل یهتف غیر مرّة بأن الطیرة مرفوعة عن هذه الأمة وإنّها من الشرک وما منّا من یتطیّر (2)ومن استقسم أو تکهّن أو تطیّر طیرة تردّه عن سفره لم ینظر إلى الدرجات العلى یوم القیامة وإن من أرجعته الطیرة من حاجة فقد أشرک فإذا تطیّرت فامض.( 3)
وکتب بعض البغدادیین إلى أبی الحسن (علیه السلام) یسأله عن الخروج یوم الأربعاء فقال من خرج یوم الأربعاء خلاف على أهل الطیرة وقی من کل آفة وقضى الله حاجته .( 4)
ولما سمعت أم کلثوم أباها أمیر المؤمنین یقول: صوائح تتبعها نوائح قالت یا أبة تتطیّر قال (علیه السلام) یا بنیَّة ما منّا أهل البیت من یتطیّر ولا یتطیّر به ولکن قول جرى على لسانی .( 5)
ولم یحکِ الله التطیّر إلا عن أعداء الرُّسل المائلین عن صراط الشریعة المنحرفین عن التعالیم المقدّسة فإنّهم قالوا لرُسلهم: (إنّا تطیّرنا بکم لئن لم تنتهوا لنرجمنّکم ولیمسنّکم منّا عذاب ألیم قالوا طائرکم معکم أئن ذکرتم بل أنتم قوم مسرفون) وفی الحکایة عن قوم صالح (قالوا أطیرنا بک وبمن معک قال طائرکم عند الله) وفی الحکایة عن قوم فرعون (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا هذه لنا وإن تصبهم سیّئة اطّیّروا بموسى ومن معه ألا إنّما طائرهم عند الله) وفی الحکایة عن أعداء رسول الله (وإن تصبهم حسنة یقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سیّئة یقولوا هذه من عندک قل کلّ من عند الله.
وقد أوضح النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) لأمّته فساد الطیرة لیعلموا أن الله تعالى لم یجعلها سبباً لما یخافونه لتطمئنّ قلوبهم وتسکن نفوسهم إلى وحدانیة الباری عزّ شأنه فیترسّلون فی أعمالهم ولا یحذرون من وخامة العاقبة فلا ینبغی للإنسان التوقّف فی أعماله متّکلاً على هذه الأمور التی لا یقام لها وزن فی جنب الإرادة الإلهیة.
ثم من لطف الشارع بالأمة جعل لهم أسباباً یکون قیامهم بها منجاة من وخامة ما یتطیّرون منه فأرشدهم إلى أن التوکّل على الله یذهب ما یخاف من الطیرة (6)والصدقة تدفع الأضرار الموهومةوالدعاء عند السفر منجاة من الشرک کما قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) عند خروجه إلى النهروان:
اللهمّ لا طیر إلا طیرک ولا ضیر إلا ضیرک ولا خیر إلا خیرک ولا إله غیرک (7)أو کما قالالامام موسى بن جعفر (علیه السلام): اعتصمت بک یا ربّ من شرّ ما أجد فی نفسی فاعصمنی من ذلک) .( 8)
وکما صدر من الشارع نفی الطیرة أخبر عن حسن الفأل بالأسماء الحسنة والسرّ فیه أن التفاؤل یوجب النشاط فی العمل والمضیّ فی المقصد وهو الذی یریده المولى سبحانه من العباد.
فالتطیّر بما أنّه تشاؤم من المرئی أو المسموع یکون قاطعاً للعبد عن مقام (إیّاک نستعین) وفاتحاً على نفسه باب الخوف بغیر الله ومن هنا أطلق علیه الشرک وتبرّأ منه النبیّ وأهل بیته فقالوا ما منّا من یتطیّر.
وأمّا الفأل فحیث إنّه من الأشیاء السارّة للقلوب المؤیّدة للآمال الفاتحة باب الرجاء المسکنة للخوفة الرابطة للجأش الباعثة على الاستعانة بالله والتوکّل علیه المفضیة بصاحبها إلى الطاعة والتوحید حرّض علیه النبیّ وأحبّه فقال (صلى الله علیه وآله وسلم): لا طیرة وخیرها الفأل، وفی لفظ آخر: ویعجبنی الفأل الصالح .( 9)
وفی حدیث بریدة کان النبیّ لا یتطیّر وإنّما یحبّ الفأل استقبله فی سبعین من أسلم فقال لی ما اسمک قلت بریدة فسرّ وجهه وقال برد أمرنا وصلح وممن قلت من أسلم قال سلمنا ثم ممّن قلت من بنی سهم قال خرج سهمنا).( 10)
ولیس فی حدیث اللقحة التی أمر بحلبها فقام رجلان لیحلباها وکان اسم أحدهما مرّة والآخر حرب فأمرهما بالجلوس حتى إذا قام ثالث اسمه یعیش أمره بالحلب .( 11)
ما یشهد للتطیّر فإنه من المحال على النبیّ أن ینهى عن شیء ثم یرتکبه بمثل حرب ومرة وجمرة وأمثالها فاتبع قوله الفعل تعلیماً للمسلمین بالمضی على أمره مطمئنّین غیر هیّابین.
وممّا یؤکده ما فی بعض الأحادیث من زیادة قول عمر أتکلم یا رسول الله أم أصمت فقال (صلى الله علیه وآله وسلم) بل أصمت وأنا أخبرک بما أردت ظننت یا عمر أنها طیرة ولیست بذلک فإنّه لا طیرة إلا طیرة ولا خیر إلا خیر ولکن أحب الفأل الحسن.
والنکتة فی نهی النبیّ عن التسمیة بالأسماء القبیحة حتى غیّر بعض الأسماء إلى ما هو احسن کتغییر الحباب بن المنذر إلى عبد الرحمن وشهاب إلى هشام وحرب إلى مسلم وأبی مُرّة إلى أبی حلوة وبنی مغویة إلى بنی مرشدة .( 12)
هو إرشاد الأمة إلى أن البقاء على مذاهب سلفهم من التسمیة بتلک الأسماء ربّما یؤدّی إلى حزن بعضهم من بعض عند المصاحبة والملاقات لکون الطیرة من الغرائز الکامنة فی النفوس فقد یعبّر الإنسان تعبیر السوء من اشتقاق الاسم فیفارق صدیقه وأخاه فی السفر والمعاملات والشرکات فتنحلّ عُرى الاجتماع وتفکّک الوحدة والتضامن فکان من لطف الشارع على الأمّة ورأفته بهم أن عرّفهم بأن لا یقیموا على حال یتنفّر منها لغیر عذر ولا فائدة تعود فی الدین والدنیا فإنّه جاء حاملاً لواء الوحدة والاجتماع والتراحم وإدخال المسرّات على المؤمنین.
ولذا کان یأمر بالغسل والطیب یوم الجمعة ویمنع آکل الثوم من إدخال المسجد لما فیه من الاستکراه الموجب للتنفر والفرقة الرافعة للحنان والعطف.
وأمّا عدوله (صلى الله علیه وآله وسلم) عن الجبلین فی طریقه إلى (بدر) وکان أهل أحدهما بنو النار والآخر بنو محرق فلیس للتطیّر لأنّه کان على حال أحوج فیها إلى الاجتماع والتضامن من التفرّق وغرائز الناس على حالها من الانقباض عن الأسماء القبیحة فأراد النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) مماشاتهم فی هذا الحال کی لا یتفرق جیشه تطیراً من اسم الجبلین وأهلهما.
هذا على فرض صحّة الحدیث وإلاّ فالمجال واسع فی حساب أُولئک الرجال من حیث الاعتماد على مرویاتهم.
وسؤال الحسین (علیه السلام) عن اسم الأرض ولما أخبر بأنّها کربلاء قال کرب وبلاء لم یکن من التطیّر فی شیء فإن المتطیّر لم یعلم ما یرد علیه وإنما یستکشف ذلک من تلک الأشیاء المعروفة عند العرب أنّها سبب لورود الشرّ وسیّد الشهداء کان على یقین مما ینزل به فی أرض الطفّ من قضاء الله تعالى فهو عالم بالکرب الذی یحلّ به وبأهل بیته.
کما أنّه (علیه السلام) لم یکن جاهلاً باسم الأرض کیف والإمام عندنا معاشر الإمامیة عالم بما یجری فی الکون من حوادث وملاحم ویعرف ما أودع الله فی الأشیاء من أسرار ومزایا أقداراً من مبدع السموات والأرضیین جلّت عظمته فإنّه سبحانه أودع فی الأئمة الطاهرین قوّة قدسیة نوریة بواسطتها کانوا یتمکّنون من استکشاف الأشیاء ویقفون على أنساب الناس وما تکنّه الصدور وما یدّخرون ویعرفون لغات الحیوانات وإذا جاز فی سلیمان (علیه السلام) أن یعرف منطق الطیر کما قال تعالى (وعلّمناه منطق الطیر) ففی من تکوّن من النبیّ الذی هو أکمل الکائنات أولى وأجدر وهذه القوة عبّر عنها فی الآثار بعمود نور یرفع للإمام (علیه السلام) عند الولاة یرى به أعمال العباد وما کان ویکون.
فسؤال الامام الحسن (علیه السلام) عن اسم الأرض التی منعوا من اجتیازها (13)أو أن أوقف الجواد فلم ینبعثکما أوقف ناقة النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) عند الحدیبیة فلم تنبعث حتى هبط جبرائیل یأمره بالنزول فی هذا الموضع والصلح مع قریش) .( 14)
لأجل أن یعترف أصحابه بتلک الأرض التی هی محلّ التضحیة الموعودین بها بأخبار النبیّ والوصی (صلى الله علیهما) لتطمئنّ القلوب وتمتاز الرجال وتثبت العزائم وتصدق المفاداة.
وهذا باب من الأسئلة معروف عند علماء البلاغة یعرف بتجاهل العارف أو سوق المعلوم مساق المجهول وإذا کان فاطر الأشیاء الذی لا یغادر علمه صغیراً ولا کبیراً یقول لموسى (علیه السلام): (وما تلک بیمینک یا موسى) ویقول سبحانه لعیسى (علیه السلام) (أأنت قلت للناس اتخذونی وأُمی إلهین) لضرب من المصلحة فالإمام المنصوب من قبله أمیناً على شرعه ودلیلاً لعباده لا تخفى علیه المصالح.
وهذا کسؤال النبیّ عن اسم الجبلین واسم الرجلین اللذین قاما لحلب اللقحة ألم یکن النبیّ الأعظم المتکوّن من النور الأقدس عالماً بذلک؟ وإنّما النکتة ما أشرنا إلیها.
لقد ورد عن الشارع أحادیث ربّما یستظهر منها غیر المتأمّل فی أسرارهم إثبات الطیرة مثل ما ورد أن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) قال: لا عدوى ولا طیرة وإنّما الشؤم فی ثلاثة: المرأة والفرس والدار .( 15)
وهذا فی الحقیقة إخبار عمّا تعلّقت به إرادة المولى جلّ شأنه بعدم السعادة فی هذه الأشیاء لمن اقترن بها وصاحبها نظیر خلق المسلک وغیره من الأرواح الطیّبة فبعض الأشخاص یتلذّذ بها وبعض یلحقه الضرر منها کما أودع تعالى شأنه فی بعض الأحجار خواص من خیر أو شرّ تلحق من یحملها.
ومن هذا القبیل المرأة والفرس والدار فإن الله تعالى قضى بسعادة من قارنها کما قضى بنحوسه جریاً لناموس المصالح والمفاسد فی الأشیاء فأین هذا من الطیرة التی یحکم فیها بنحوس الشیء وإن لم یجعله الله کذلک.
والنبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) حیث لم یرد المصارحة بهذه الأسرار لبعد العقول عنها أجمل البیان ثم نصب قرینة على المراد باقتران هذه الثلاثة بنفی الطیرة فی کلام واحد وإلاّ فلا یعقل منه (صلى الله علیه وآله وسلم) أن ینفی الطیرة ثم یفرضها فی کلام واحد فیقول: لا طیرة وإنمّا الشؤم فی ثلاثة الخ.
على أنّه ورد فی أحادیث آل الرسول ما یفسّر ذلک الشؤم المخبر عنه ففی حدیث الامام الصادق علیه السلام( شؤم المرأة کثرة مهرها وعقوق زوجها وأما الدابة فمنعها ظهرها وجماحها وأما الدار فضیق ساحتها وشرّ جیرانها وکثرة عیوبها ومن برکة المرأة خفّة مؤنتها ویسر ولادتها (. (16)
وفی وصیّة النبیّ لأمیر المؤمنین: العیش فی ثلاثة دار قوراء وجاریة حسناء وفرس قباء) .( 17)
ونفی العدوى فی هذا الحدیث لا ینافی ما ورد أن الرجل یصیب إبله الجرب فیوردها على إبل صحیحة فقال النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم: لا توردن ذا عاهة على مصحّ.( 18)
فإن الغرض من النهی التحرّز عن إیذاء المؤمن بإدخال الإبل الجرب على الصحیحة لاعتقاده أن ذلک مؤثر فی العدوى فیتسبّب منه التنفّر من هذا الفاعل والمذمّة له وقد جاءت الشریعة بالتعاضد والإِلفة بین المسلمین فقوله (لا توردن ذا عاهة) لیس العدوى إذ قد یکون فی الحیوان الوارد علیه المریض مناعة تضاد میکروب الجرب فلا یصاب بذلک الداء ومن هنا قال الشریف المرتضى: إنا نجد کثیراً ممن یخالط الجربى فلا یجرب ویخالط الصحیح ذا عاهة فلا یصیبه من دائه شیء فنهی النبیّ لم یکن الملازمة الواقعیة فی التأثیر.
کما أن أمره (صلى الله علیه وآله وسلم) بالفرار عن المجذوم فی قوله: فرّ من المجذوم فرارک من الأسد لا دلالة فیه على العدوى بحیث تکون مقاربة المجذوم علّة تامة للتأثّر لا مکان وجود المناعة الرافعة للانفعال بل الغرض من الأمر بالفرار الإیعاز إلى استقذاره ونتن ریحه والتنفّر منه وربمّا یسبّب ذلک تعییره والازدراء علیه فینکسر ذلک المبتلی بقضاء الله والمولى الحکیم لا یرید من العباد إلاّ التراحم والعطف فیما بینهم.
وامتناع النبی من إدخال المجذوم علیه للبیعة (19)لا دلالة فیه على العدوى وإلاّ فقد ورد الحدیث أنّه أخذ بید مجذوم ووضعها فی القصعة وقال کل ثقة بالله وتوکلاً علیه .( 20)
کما أن السجّاد (علیه السلام) السائر على ضوء جدّه وأبیه لم یمتنع من الأکل مع المجذومین ففی الحدیث أنّه علیه السلام مرّ على مجذومین یأکلون فدعوه إلى الأکل معهم فقال (علیه السلام):( لولا أنّی صائم لفعلت فلمّا صار إلى منزله أمر بطعام فصنع ثم دعاهم فأکلوا وأکل معهم) .( 21)
فلو کانت مقاربة المجذومین علّة تامّة للعدوى لما فعل الإمام (علیه السلام) ولکنّه بیّن للواقفین على فعله معهم ممن حضر ومن الأجیال المتتابعة أن الاتصال بذوی العاهات قد لا یؤثر فی انفعال الأجسام الصحیحة لوجود القوة المانعة منه أو للتوکّل على الله والثقة بأنّه سبحانه مورد البلاء حسب المقتضیات ..
المصادر :
1- فی تاج العروس ج2 ص123 /ج1 ص387 الأعضب مکسور القرن والأقران صحیحه
نهیة ابن الأثیر ج3 ص58 وشرح النهج الحدیدی ج4 ص430.2-
3- مفتاح دار السعادة ج2 ص247
4- من لا یحضره الفقیه للصدوق ص168
5- المستدرک للنوری ج2 ص27
6- الوسائل ج2 ص180 عین الدولة
7- أمالی الصدوق ص339
8- من لا یحضره الفقیه ص168 وشرح النهج الحدیدی ج4 ص431
9- البخاری ج4 ص14 ومسلم ج2 ص260
10- مسند أحمد ج5 ص347
11- موطأ مالک ج3 ص140 مصر
12- مفتاح دار السعادة ج2 ص262
13- کامل ابن الأثیر ج4 ص21
14- ابن الأثیر ج2 ص76
15- صحیح مسلم ج2 ص231
16- معانی الأخبار للصدوق ص49
17- الخصال للصدوق ج1 ص62
18- أمالی السید المرتضى ج4 ص111 ومختلف الحدیث لابن قتیبة ص123 وسفینة البحار ج1 ص148 عن أمالی الصدوق والهیئة والإسلام للشهرستانی ج1 ص27 بغداد وصحیح البخاری ج4 ص8 کتاب الطبّ ومفتاح دار السعادة ج2 ص287
19- مختلف الحدیث ص123
20- مفتاح دار السعادة ج2 ص287
21- البحار للمجلسی ج11 ص117 عن الکافی
source : rasekhoon