الجامعة هي مكان تجمع الطلاب لتناول العلم بشتى أصنافه وأنواعه. وجامعة أهل البيت كانت تجمع بين الحين والآخر المئات والآلاف من مختلف العلوم وشتى الأقطار لدراسة الفقه والحديث واللغة والتفسير والفلسفة. وقد أسسها الإمام محمد الباقر حتى نمت وتكاملت في عهد ولده جعفر الصادق حيث باتت تضم آلاف العلماء في مختلف المواضيع. فتدفق إليها الطلاب
الجامعة هي مكان تجمع الطلاب لتناول العلم بشتى أصنافه وأنواعه. وجامعة أهل البيت كانت تجمع بين الحين والآخر المئات والآلاف من مختلف العلوم وشتى الأقطار لدراسة الفقه والحديث واللغة والتفسير والفلسفة. وقد أسسها الإمام محمد الباقر حتى نمت وتكاملت في عهد ولده جعفر الصادق حيث باتت تضم آلاف العلماء في مختلف المواضيع. فتدفق إليها الطلاب من الحجاز والكوفة والبصرة وواسط وتخرج منها كبار العلماء والمحدثين والرواة. وقد أحصيت مؤلفات المتخرجين من تلك الجامعة فبلغت ستة آلاف كتاب منها أربعمائة كانت تعرف بالأصول على لسان محدثي الشيعة، ولعل أكثر محتويات الكتب الأربعة: الكافي ومن لا يحضره الفقيه والوافي والاستبصار مأخوذة منها(1)
وما نلفت إليه أن المهمة التي قام بها الإمامان الباقر والصادق في قيام جامعة أهل البيت هامة جداً وتعني كل فرد من أئمة الشيعة (عليهم السّلام) لكن الظروف التي تهيأت للإمامين المذكورين لم تتهيأ لغيرهما من الأئمة الآخرين (عليهم السّلام) ذلك أن الفترة الزمنية التي قضاها الإمام الباقر قد رافقتها بوادر نقمة عارمة من مختلف الأقطار على سياسة الأمويين فالجميع أحسوا بسوء صنيعهم وأرادوا التخلص منهم وبصورة خاصة ظلمهم للعلويين الذي كان سلاحاً قوياً بيد خصومهم الطامعين بالحكم. وهذا ما دعاهم ليكونوا أكثر اعتدالاً مما كانوا عليه بالأمس ولما جاء عهد الإمام الصادق كانت الدولة الأموية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتعاني أشد المرارة من الهزائم التي تلحق بها من خصومها العباسيين الذين قوضوا أركانها وتسلموا الحكم بمساعدة العلويين والفرس.
في ظل هذه الظروف الخاصة انطلق الإمامان الباقر والصادق (عليهم السّلام) لأداء رسالتهما. وقد تم لهما ذلك بين عهدين: عهد غمرته الكوارث ودوخته الهزائم، وعهد ظهرت فيه تباشير النصر وزهو السيطرة على الحكم. فقامت الحكومة الجديدة على أكتاف العلويين وبمساندة الفرس. هذه الظروف هيأت للإمامين فرصة ذهبية لم تتهيأ لغيرهما من أئمة أهل البيت.
لكن يا للأسف! لما استتب الأمر للعباسيين وتسلموا زمام الحكم تستروا بظل أهل البيت وشيعتهم ثم ظهروا على حقيقتهم فغدروا بأنصارهم ومثلوا أبشع الأدوار وأقبح المؤامرات التي فعلها الأمويون حتى قال أحد الشعراء:
يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار
إن المشاكل التي كانت تحيط بالأمويين والأخطار المحدقة بهم من كل جانب سمحت لجامعة أهل البيت أن تنمو وتتوسع حتى أصبحت تضم أكثر من أربعة ألاف طالب، لكن ذلك حدث بعد أن مضى على المسلمين أكثر من قرن لا عهد لهم بفقه يختص بأهل البيت حتى أن الرواة كانوا لا يتجرأون أن يجهروا بحديث لهم سوى ما كان يروى عن طريق الكتابة في الغالب. ذلك أن الأمويين في عز سلطانهم كانوا ينكلون بهم وبكل من يتهم بالولاء لهم، جادين في القضاء على كل آثارهم.وما نلفت إليه أنه لو أتيح للأئمة بعد الإمام علي (عليه السّلام) أن ينصرفوا إلى الناحية التي اتجه لها الإمامان الباقر والصادق لكان فقه أهل البيت هو الفقه السائد والمعمول به عند عامة المسلمين. ذلك أن فقه الإمام علي بن أبي طالب هو الينبوع الأصيل والغزير وقد كان صاحب الرأي الأول والأخير في الفقه والقضاء بلا منازع ولكن خصومه عملوا بكل ما عندهم من وسائل لطمس آثاره وآثار أبنائه من بعده وكل من ينسب إليهم رأياً أو يروي عنهم حديثاً.
لقد شاء الله لجامعة أهل البيت أن تعيش آمنة مطمئنة ولو لفترة يسيرة من الزمن، تلك الفترة التي لا تعد شيئاً ملحوظاً بالنسبة لما تركته من الآثار في شرق البلاد وغربها، فترة لا تتجاوز ثلث قرن من الزمن تقريباً.
كما شاء الله سبحانه وتعالى لمذهب أهل البيت وفقههم، فقه الإمام علي بن أبي طالب، الذي أخذه عن الرسول مباشرة بلا واسطة، أن ينسبا إلى حفيدة الإمام جعفر الصادق الذي اشترك مع أبيه في تأسيس تلك الجامعة المباركة ثم استقل بها بعد وفاته (عليهما السّلام). وهذا لا يعني أن له رأياً في أصول المذهب أو فقهه يختلف فيهما عن آبائه وأحفاده، بل إنهم جميعاً (صلوات الله عليهم) يعملون بتعاليم القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
الولاء لأهل البيت:
أكد الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ضرورة الولاء لأهل البيت والمودة لهم، واعتبر ذلك عنصراً مهماً من عناصر الإسلام.قال (عليه السّلام) لأبي حمزة الثمالي: (أي البقاع أفضل)؟
فحار أبو حمزة في الجواب فقال: (الله ورسوله أعلم).
فأجابه (عليه السّلام): (إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلاً عمَّر ما عمَّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك الموضع، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً)(2)
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه (عليهم السّلام) في أن ولاية الأئمة ضرورة إسلامية يسأل عنها المسلم في يوم حشره ونشره، ويحاسب عليها كما يحاسب على سائر الواجبات الإسلامية، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها شرط في صحة العمل، لا في قبوله، كشرائط الصحة في الواجبات.
جاء في أحكام القرآن للجصاص:
قال سعيد بن جبير: سألت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن القربى في الآية الكريمة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(3). هي قرابتنا أهل البيت(4). فالله سبحانه وتعالى قربهم منه لأنه يعلم أين يضع رسالته، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) في حديث آخر ما يظفر به محبو أهل البيت من الأجر الجزيل في دار الآخرة ودار الدنيا، فقد وفد عليه جماعة من الشيعة عائدين إياه قالوا له: (كيف أصبحت يا بن رسول الله)؟فأجابهم الإمام بلطف: (في عافية، والله المحمود على ذلك. وكيف أصبحتم أنتم جميعاً فانبروا قائلين: (أصبحنا والله لك محبين..).
فبشرهم بما يظفرون به من الجزاء الأوفى عند الله قائلاً: (من أحبنا لله أدخله الله ظلاً ظليلاً، يوم لا ظل إلا ظله ومن أحبنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنا الجنة، ومن أحبنا لغرض دنياه آتاه الله رزقه من حيث لا يحتسب..)(5)
قسم الإمام (عليه السّلام) المحبة إلى ثلاثة أقسام عند محبي أهل البيت:
أ - من أحب أهل البيت لله..
المحبة الحقيقة النبيلة تكون لله وليس لأمر آخر، وأهل البيت المجاهدون في سبيل الله، الذين ضحوا بكل ما عندهم من قوة من أجل رفع كلمة الله ومن أجل نشر رسالة الله من واجب المؤمنين أن يحبوهم محبة خالصة ومحبة نبيلة وأصيلة، وهذا واجب لا ريب فيه. هؤلاء يدخلهم الله تبارك وتعالى ظلاً ظليلاً يوم لا ظل إلا ظله.ب - ومن أحبهم مكافأة لهم.
كيف نحب أهل البيت مكافأة لهم؟ لقد قدموا لنا وللناس جميعاً خدمات جلى في جميع مجالات الحياة فبنشرهم الرسالة الإسلامية وجهادهم من أجل إعلاء كلمة الله أخرجوا الناس من الظلمة إلى النور، من ظلامة الجاهلية وظلم الجاهلين إلى نور الهداية والحياة الإنسانية الحرة الكريمة. فعلى المؤمنين أن يقدموا لهم مكافأة عرفاناً بجميلهم وذلك بإحياء ذكرهم. جاء في الحديث الشريف: أحيوا ذكرنا رحم الله من أحيا ذكرنا. إن إحياء ذكرهم إحياء الحق وتذكير الناس بالجهاد في سبيل الله، وتلقينهم دروساً في التضحية والعطاء والعمل الصالح في حياتهم الدنيا والآخرة. هؤلاء يكافئهم الله بالجنة.ج - ومن أحبهم لغرض دنياه..
حتى الذي يحبهم من أجل مصالحه الشخصية وتحقيق أغراض دنيوية يرزقه الله من حيث لا يحتسب.نخلص من هذا أن محبة أهل البيت واجب شرعي لكل مؤمن ومؤمنة لأنهم نبراس هداية ونور الإسلام والسلام.
سيادة أهل البيت على الناس:
سأل أحدهم الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقال له: بماذا فضلتم على الناس جميعاً وسدتموهم؟فأجاب (عليه السّلام): إعلم أن الناس جميعاً لا يخلون من أحد ثلاثة:
أما رجل أسلم على أيدينا فهو مولى لنا يرجع إلينا ولاؤه فنحن سادته.
وأما رجل قاتلناه، فقتلناه فمضى إلى النار وبقي ماله مغنماً لنا.
وأما رجل أخذنا منه جزيته وهو صاغر، ولا رابع فأي فضل لم نجزه وشرف لم نحصله)؟(6)
ما نلاحظه أن الإمام (عليه السّلام) إنما ساق حديثه هذا إلى شخص لا يعترف بفضل أهل البيت (عليهم السّلام)، ولا يقر بسيادتهم المطلقة على هذه الأمة.
وحسبهم فخراً أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وفرض مودتهم على جميع المؤمنين، وقربهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمحكم التنزيل وجعلهم سفينة النجاة وأمن العباد.
روى (عليه السّلام) عن آبائه عن جده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن رسول الله قال لأصحابه: (إن الله قد فرض عليكم طاعتي، ونهاكم عن معصيتي، وفرض عليكم طاعة علي بعدي، ونهاكم عن معصيته وهو وصيي، ووارثي، وهو مني، وأنا مني، حبه إيمان، وبغضه كفر..)(7)
فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يفرض طاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على أصحابه، وإنما الله فرضها على جميع المسلمين. ولا ريب أن السبب في ذلك عظيم اتصال أمير المؤمنين بالله تعالى ومواهبه المتعددة وعبقريته إذ ليس في المسلمين من يدانيه في مآثره وفضائله. قال الجاحظ:
(لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتى ذكرت النجدة والذب عن الإسلام، ومتى ذكر الفقه في الدين، ومتى ذكر الزهد في الدنيا ومتى ذكر الإعطاء في الماعون، كان مذكوراً في هذه الخصال كلها، إلا علي رضي الله عنه)(8)
المصادر:
1- سيرة الأئمة الإثني عشر،ص202
2- الإمام زين العابدين، ص202
3- سورة الشورى: الآية42
4- أحكام القرآن، ج3، ص475
5- الفصول المهمة، ص192
6- غرر الآثار ودور الآثار للديلمي، ص80. راجع زين العابدين للقرشي، ص99
7- ينابيع المودة، الباب41
8- ثمار القلوب للثعالبي، ص67
source : rasekhoon