(فلوْلا إذا بلغتِ الحُلْقُوم * وأنْتُم حِينئِذ تنْظُرُون * ونحْنُ أقْربُ إليْهِ مِنْكُم ولكِنْ لا تُبْصِرُون)(1).
يتحدّث القرآن عن فترة الاحتضار، وحركة الروح للخروج من البدن إلى العالم الآخر، فإنّ الروح تبدأ بالإنسحاب من أطراف الجسد حتى تبلغ التراقي أو الحلقوم، لتخرج أخيرا من أسر الجسد وتنطلق في رحلة عالم البرزخ، روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "أشدُّ ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى، فإما إلى الجنّة، وإمّا إلى النّار"(2).
الاحتضار السهل والعسير
وللمحتضر حالتان، فإمّا أن يكون احتضاره يسيرا، وإمّا عسيرا، وهذا يعتمد على حالة المحتضر الدينيّة وعلاقته بالله، فالنوع اليسير من الاحتضار، لصلحاء المؤمنين، والعسير، للعصاة والكافرين.
فأمّا المؤمن فينطبق عليه قوله سبحانه وتعالى: "يا أيّتُها النّفْسُ الْمُطْمئِنّةُ * ارْجِعِي إِلى ربِّكِ راضِية مرْضِيّة"(3).
وعن الإمام أبي جعفرٍ الباقِر عليه السلام: "إنّ آية المؤمن إذا حضره الموت أن يبيضّ وجهه أشدّ من بياض لونه، ويرشح جبينه، ويسيل من عينيه كهيئة الدموع، فيكون ذلك آية خروج روحه، وإنّ الكافر تخرج روحه سلاّ من شدقه كزبد البعير..."(4).
أمّا المجرمون فينطبق عليهم قوله تعالى: "ولو ترى إذ الظّالِمُون في غمراتِ الموْتِ والملائِكةُ باسِطُو أيْدِيهِم أخْرِجُوا أنفُسكُم اليوْم تُجْزون عذاب الهُوْنِ..."(5).
ويقول سبحانه وتعالى: "فكيْف إِذا توفّتْهُمُ الْملائِكةُ يضْرِبُون وُجُوههُمْ و أدْبارهُمْ"(6).
وهي لحظات سمّاها القرآن بغمرات الموت التي تغشى الظالمين، وهم يشاهدون في تلك اللحظات ملائكة العذاب ينتظرون خروج الروح.
ماذا ينكشف بعد الموت؟
بموت الإنسان وحالما تخرج الروح من البدن تنكشف للإنسان أمور منها:
أ- منزلته من الجنة أو النار:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لمحمّد بن أبي بكر لما ولاه مصر: "ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم أيّ المنزلتين يصِل، إلى الجنة أم إلى النار، أعدوٌ هو لله أم وليّ، فإن كان وليّا لله فُتِحت له أبواب الجنة، وشرعت له طرقها، ورأى ما أعدّ الله له فيها، ففرغ من كلِّ شغل، ووضع عنه كلُّ ثقل، وإن كان عدوّا لله فُتِحت له أبواب النار، وشرعت له طرقها، ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها، فاستقبل كلّ مكروه، وترك كلّ سرور، كلُّ هذا يكون عند الموت، وعنده يكون اليقين"(7).
ب- تجسّد المال والولد والعمل:
فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ العبد إذا كان في آخر يومٍ من الدنيا، وأول يومٍ من الآخرة، مثُل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله ويقول: والله إنِّي كنتُ عليك حريصا شحيحا، فما لي عندك؟ فيقول: خُذ منّي كفنك. قال: فيلتفت إلى ولده، فيقول: والله إنِّي كنت لكم محبّا، وإنِّي كنت عليكم محاميا، فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك ونواريك فيها. فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إنّك كنت عليّ لثقيلا، وإنّي كنت فيك لزاهدا، فماذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم نشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربِّك"(8).
ج- معاينة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام:
قال الشيخ المفيد: "هذا باب قد أجمع عليه أهل الإمامة، وتواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمة" وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال للحارث الهمْداني رحمه الله:
يا حار همْدان من يمُت يرني *** من مؤمنٍ أو منافقٍ قبلا
يعرفني طرفُــهُ وأعرِفُــهُ *** بِعينِهِ واسمِـهِ وما فعلا (9)
ما هي سكرات الموت؟
يقول الله تعالى: "وجاءتْ سكْرةُ الْموْتِ بِالْحقِّ ذلِك ما كُنت مِنْهُ تحِيدُ"(10).
وهذه العقبة صعبة جدا وإنّ شدائدها وصعوباتها تحيط بالمحتضر من جميع الجهات..
فمن جهة تواجهه شدة المرض، وشدة الوجع، واعتقال اللسان، وذهاب القوة من الجسم..
يروى عن أمير المؤمنين عليهم السلام أنّه قال واصفا تلك الحالة:
"فغيْرُ موْصُوفٍ ما نزل بِهِمْ، اجْتمعتْ عليْهِمْ سكْرةُ الْموْتِ و حسْرةُ الْفوْتِ، ففترتْ لها أطْرافُهُمْ، وتغيّرتْ لها ألْوانُهُمْ، ثُمّ ازْداد الْموْتُ فِيهِمْ وُلُوجا، فحِيل بيْن أحدِهِمْ و بيْن منْطِقِهِ، و إنّهُ لبيْن أهْلِهِ ينْظُرُ بِبصرِهِ و يسْمعُ بِأُذُنِهِ، و علي صِحّةٍ مِنْ عقْلِهِ و بقاءٍ مِنْ لُبِّهِ...
فلمْ يزلْ الْموْتُ يُبالِغُ فِي جسدِهِ حتّى خالط لِسانُهُ سمْعهُ، فصار بيْن أهْلِهِ لا ينْطِقُ بِلِسانِهِ، و لا يسْمعُ بِسمْعِهِ، يُردِّدُ طرْفهُ بِالنّظرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يرى حركاتِ ألْسِنتِهِمْ و لا يسْمعُ رجْع كلامِهِمْ.
ثُمّ ازْداد الْموْتُ الْتِياطا بِهِ، فقُبِض بصرُهُ كما قُبِض سمْعُهُ، و خرجتِ الرُّوحُ مِنْ جسدِهِ، فصار جِيفة بيْن أهْلِهِ، قدْ أوْحشُوا مِنْ جانِبِهِ، و تباعدُوا مِنْ قُرْبِهِ، لا يُسْعِدُ باكِيا و لا يُجِيبُ داعِيا"(11).
ومن جهة أخرى يواجه بكاء الأهل والعيال ووداعِهِم له، وغمّ مفارقته لماله ومنزله وأملاكِه ومدّخراته وأشيائِه النفسية، التي صرف عمره العزيز من أجل تحصيلها، فبقدر تعلُّق الإنسان بدنياه يكون فراقه لها صعبا عليه، ويصعِّب عليه سكرات الموت، وبقدر زهده في مالها وما فيها من متاع وأهل وملذات، تكون السّكرات أمرا سهلا ويسيرا بالنسبة إليه.
ما يهوِّن سكرات الموت:
1- صلة الرحم:
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
"من أحبّ أن يخفِّف الله عزّ وجلّ عنه سكرات الموت فليكن لقرابته وصولا، وبوالديه بارّا، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت ولم يصبه في حياته فقرٌ أبدا"(12)
2- برّ الوالدين:
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر شابا عند وفاته فقال له: قل: "لا إله إلاّ الله".
قال: فاعتقل لسانه مرارا.
فقال لامرأةٍ عند رأسه: هل لهذا أمّ؟
قالت: نعم أنا أمُّه.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفساخِطةٌ أنت عليه؟
قالت: نعم ما كلّمتُهُ مُنذُ ستّة حجج.
قال صلى الله عليه وآله وسلم لها: إرضي عنه.
قالت: رضي الله عنه يا رسول الله برضاك عنه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل: "لا إله إلاّ الله".
فقالها. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترى؟
قال: أرى رجلا أسود الوجه قبيح المنظر وسخ الثياب منتن الريح قد وليني الساعة، وأخذ بكظميّ.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم قل: يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير إقبل مِنّي اليسير واعف عنِّي الكثير إنّك الغفور الرحيم.
فقالها الشاب. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انظر ماذا ترى؟
قال: أرى رجلا أبيض اللون حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب قد وليني، وأرى الأسود قد تولى عنّي.
فقال له: اعد، فأعاد. فقال له: ما ترى ؟
قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني.
ثمّ طفي على تلك الحال13.
3- كسوة المؤمن:
عن الإمام الصادق عليه السلام:
"من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقّا على الله أن يكسوه من ثياب الجنّة، وأن يهوّن عليه سكرات الموت وأن يوسع عليه في قبره"(14)
4- قراءة سورة الزلزلة:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تملُّوا مِن قراءة "إذا زلزلت الأرض زلزالها" فإنه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه الله عزّ وجلّ بزلزلة أبدا، ولم يمت بها، ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتّى يموت، وإذا مات نزل عليه ملكٌ كريم من عند ربِّه فيقعد عند رأسه فيقول: يا ملك الموت أرفق بوليّ الله فإنّه كان كثيرا يذكرني ويذكر تلاوة هذه السورة، وتقول له السورة مثل ذلك ويقول ملك الموت: قد أمرني ربي أن أسمع له وأطيع ولا أخرج روحه حتى يأمرني بذلك فإذا أمرني أخرجت روحه، ولا يزال ملك الموت عنده حتى تأمره بقبض روحه وإذا كشف له الغطاء فيرى منازله في الجنة فيخرج روحه من ألين ما يكون من العلاج، ثم يشيِّع روحه إلى الجنّة سبعون ألف ملكٍ يبتدرون بها إلى الجنّة"(15).
العديلةُ عند الموت
وهي تعني العدول من الحقّ إلى الباطل في وقت الموت، وذلك أن يحضر الشيطان عند المحتضر، ويوسوس له حتّى يوقعه في الشك، فيخرجه من نعمة الإيمان، إلى جحيم الشرك أو الكفر، في لحظة أحوج ما يكون فيها الإنسان للتوفيق في الثبات والرحيل إلى ذاك العالم بقلب مملوء بالصلاح والهدى.
أعمال تبعد العديلة
1- المواظبة على أوقات الصلوات الفريضة:
ففي الحديث أنّ ملك الموت قال:
".... إنه ليس في شرقها ولا في غربها أهل بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلاّ وأنا أتصفحهم في كلِّ يوم خمس مرّات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما يتصفحهم في مواقيت الصلاة، فإن كان ممّن يواظب عليها عند مواقيتها لقنّه شهادة أن لا إله إلاّ الله محمّدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحّى عنه ملكُ الموت إبليس (16).
2- آية ربنا لا تزغ قلوبنا:
(ربّنا لا تُزِغْ قُلُوبنا بعْد إِذْ هديْتنا وهبْ لنا مِن لّدُنك رحْمة إِنّك أنت الْوهّابُ)(17).
3- المواظبة على تسبيح الزهراء عليه السلام
4- التختم بخاتم عقيق
وبالخصوص اذا كتب عليه (محمّد نبيُّ الله وعليٌّ وليُّ الله).
5- قراءة سورة (المؤمنون)
في كلِّ نهار جمعة، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة" و "إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة كان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين"(18).
خلاصة
تبدأ الروح بالانسحاب من أطراف الجسد حتى تبلغ التراقي أو الحلقوم، لتخرج أخيرا من أسر الجسد وتنطلق في رحلة عالم البرزخ.
للمحتضر حالتان، فإمّا أن يكون احتضاره يسيرا، وإمّا عسيرا، وهذا يعتمد على حالة المحتضر الدينية وعلاقته بالله، فالنوع اليسير من الاحتضار لصلحاء المؤمنين، والعسير للعصاة والكافرين.
بموت الإنسان وحالما تخرج الروح من البدن تنكشف للإنسان أمور منها:
أ- منزلته من الجنة أو النار
ب- تجسّد المال والولد والعمل:
ج- معاينة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام:
سكرات الموت عقبة صعبة جدا وإنّ شدائدها وصعوباتها تحيط بالمحتضر من جميع الجهات..
فمن جهة تواجهه شدة المرض، وشدة الوجع، واعتقال اللسان، وذهاب القوة من الجسم..
العديلة هي العدول من الحقّ إلى الباطل في وقت الموت، وذلك أن يحضر الشيطان عند المحتضر، ويوسوس له حتّى يوقعه في الشك، فيخرجه من نعمة الإيمان، إلى جحيم الشرك أو الكفر، في لحظة أحوج ما يكون فيها الإنسان للتوفيق في الثبات والرحيل إلى ذاك العالم بقلب مملوء بالصلاح والهدى.
للتخفيف من سكرات الموت، وإبعاد شبح العديلة وردت الكثير من الأعمال والأدعية على الإنسان المؤمن أن يواظب عليها.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لمحمّد بن أبي بكر لما ولّاه مصر: "ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم أيّ المنزلتين يصِل، إلى الجنة أم إلى النار، أعدوٌ هو لله أم وليّ، فإن كان وليّا لله فُتِحت له أبواب الجنة، وشرعت له طرقها، ورأى ما أعدّ الله له فيها، ففرغ من كلِّ شغل،ووضع عنه كلُّ ثقل، وإن كان عدوّا لله فُتِحت له أبواب النار، وشرعت له طرقها، ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها، فاستقبل كلّ مكروه، وترك كلّ سرور، كلُّ هذا يكون عند الموت، وعنده يكون اليقين".
أشعار الحكمة
سرِّح بطرفك أيُّها الإنسان *** في الذاهبين كأنّهم ما كانوا
أين الألى بنوا القصور وشيدوا***بنيانها وعن الِبنا قد بانوا
قد أحكموا أركانها وأساسها*** فكأنّما لم تحكم الأركان
وعن النمارق بالتراب استبدلوا*** وعن الحرير لباسها الأكفان
لا يقدرون على التزاور بينهم *** فكأنّهم شتى وهم جيران
قد أبدلوا بطن الثرى عن ظهرها****ومن الصفيح غدا لهم أجنان
بين الفتى غضُّ الشبيبة مدنف ****إذ بات تأكل لحمه الديدان
المصادر :
1- الواقعة: 83 – 85
2- الصدوق – الخصال - منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة- 119/108
3- الفجر: 27 ـ 28
4- الصدوقالطبعة الثانية 1404 هـ. - ج1: 81/366
5- الأنعام: 93
6- محمّد: 27
7- المفيد –الأمالي - دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان 263 ـ 264
8- الصدوق(381هـ.) من لا يحضره الفقيه - جامعة المدرسين – الطبعة الثانية 1404 هـ. - ج 1: 82 ـ 83/373
9- المفيد – محمد بن محمد بن النعمان - أوائل المقالات- 73 ـ 74
10- ق: الآية 19
11- نهج البلاغة من الخطبة 107
12- الأمالي - ص 318 الكظم - كقفل ومحركة - الحلق ومخرج النفس، يقال: أخذ بكظمه: أي مخرج نفسه. والمراد أنه أكربه.
13- الأمالي - دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع – قم - ج 1، ص 62 ـ 63، ح 4
14- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 2، ص 204
15- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 2 ص 626
16- م . ن. ج 3، ص 136
17- آل عمران: 8
18- الصدوق – ثواب الأعمال - ص
source : rasekhoon