هناك العديد من الشواهد التاريخية الدالّة على أنّ المجتمع في عهد الإمام السجّاد سلام الله عليه ضيّع الحقوق و ابتعد عن الضوابط الإسلامية الدقيقة المنادية إلى حفظ الحقوق المختلفة. و نحن إذا أردنا استعراض مثل هذه الشواهد لطال بنا المقام، إلاّ أنّه يكفي القارئ العزيز أن يلاحظ كتب المقاتل ليشاهد مدى تجاسر القوم على حقوق آل الرسول يوم عاشوراء. من هنا فإنّه (عليه السلام) أخذ يخطّ المنهاج التربوي الحقوقي لذلك المجتمع، ولكلّ المجتمعات على مرّ الأزمان موضحاً مدى اهتمام الإسلام الحنيف بحفظ الحقوق و صيانته. نذكر فيما يلي بعض الحقوق التي أشار إليها سلام الله عليه في «رسالة الحقوق»:
1) حقّ الله؛ حيث قال عليه السلام: «فأمّا حقّ الله الأكبر فإنّك تعبده ولا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل الله على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة و يحفظ لك ما تحبّ منهما».
2) حقّ القادة: «فأمّا حقّ سائسك فأن تعلم أنّك جُعلت له فتنة، و أنّه ابتُلي فيك، بما جعله الله له عليك من السلطان، و أن تخلص له في النصيحة، و أن لا تماحكه وقد بسط يده عليك، فتكون سبب هلاك نفسك و هلاكه، و تذلّل و تلطّف لإعطائه من الرضى ما يكفّه عنك ولا يضرّ بدينك، وتستعين عليه في ذلك بالله».
3) حقّ المالك: «و أمّا حقّ سائسك بالملك فنحوٌ من سائسك، إلاّ أنّ هذا يملك ما لا يملكه ذاك، تلزمك طاعته في ما دقّ وجلّ منك إلاّ أن تخرجك من وجوب حقّ الله، و يحول بينك وبين حقّه، و حقوق الخلق، فإذا قضيته رجعت إلى حقّه، فتشاغلت به، ولا قوّة إلاّ بالله».
4) حقّ المملوك: «و أمّا حقّ رعيّتك بملك اليمين فأن تعلم أنّه خلقُ ربِّك، ولحمك و دمك، و أنّك تملكه لا أنت صنعته دون الله ولا خلقت له سمعاً ولا بصراً ولا أجريت له رزقاً، ولكنّ الله كفاك ذلك بمن سخّره لك وائتمنك عليه و استودعك إياه لتحفظه فيه و تسير فيه بسيرته فتطعمه ممّا تأكل، وتلبسه ممّا تلبس، ولا تكلّفه ما لا يطيق، فإن كرهته خرجت إلى الله منه واستبدلت به، ولم تعذّب خلق الله».
5) حقّ من أساء القضاء: «و أمّا حقّ مَن ساءك القضاء على يديه بقول أو فعل، فإن كان تعمّدها كان العفو أَولى بك، لما فيه له من القمع و حسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق، فإنّ الله يقول: وَلمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (سورة الشّورى: الآية 41)». إلى غير ذلك من الحقوق المهمّة التي يجدها القارئ العزيز في رسالة الحقوق العظيمة التي بقيت على طيلة التاريخ مرجعاً عامّاً لكلّ مَن أراد الاطّلاع على اهتمام الإسلام الحنيف بقضية الحقوق.
أخلاقيات العبودية
كما أن هناك جانباً آخر أكّده الإمام زين العابدين سلام الله عليه، و بقي طيلة حياته المباركة يدعو الشعوب عبر التاريخ إلى إتقان أخلاقياته و تحصيل آدابه، ألا و هو جانب العبودية لله تعالى والتأدّب بالآداب المطلوبة أمام ملك الملوك و ربّ الأرباب عزَّوجلّ.
وفي واقع الأمر فإن كثيراً من التراث الشيعي صبّ في بوتقة الدعاء والأذكار التي تظهر فيها معالم العبودية و عظمة الخالق، وقد وصلت كثير من هذه الدرر إلينا من سيد الساجدين و زين العابدين عليه أفضل الصلاة والسلام الذي عكف على غرس آداب الدعاء وأخلاقياته في نفوس الشعوب و علَّم البشرية كافة كيف تخاطب سيدها و مولاها و باريها، و بأيّ كلمات و بأيّة صياغة.
من جانب آخر كان الإمام سلام الله عليه يدعو إلى عدم الاتكال على الأمور المزيفة التي لا تغني ولا تسمن من جوع كالاعتماد على النسب و غيره، بل كان يحثهم دائماً أن يربّوا أنفسهم بالاتكال على الأعمال الصالحة و أن يجعلوها مناطاً عاماً في كل أمور حياتهم. فلقد روي أن فاطمة بنت الإمام أمير المۆمنين سلام الله عليه أتت إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، فقالت له: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنّ لنا عليكم حقوقاً ومن حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحداً يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكّروه الله، و تدعوه إلى البقيا على نفسه، و هذا علي بن الحسين بقيّة أبيه الحسين قد انخرم أنفه و نقبت جبهته و ركبتاه وراحتاه وأذاب نفسه في العبادة. فأتى جابر إلى بابه و استأذن، فلمّا دخل عليه وجده في محرابه قد أنضته ـ أي أهزلته ـ العبادة، فنهض عليُّ سلام الله عليه فسأله جابر عن حاله سۆالاً حفيّاً، ثم أجلسه بجنبه، ثم أقبل جابر يقول: يا بن رسول الله أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبّكم، و خلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟! فقال له علي بن الحسين سلام الله عليه: يا صاحب رسول الله: أما علمت أن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد له، و تعبّد ـ بأبي هو و أُمي ـ حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخرّ؟ قال: أفلا أكون عبداً شكور. فلما نظر إليه جابر. وليس يغني فيه قول، قال: يا ابن رسول الله البقيا على نفسك؛ فإنك من أُسرة بهم يُستدفع البلاء، و بهم تُستكشف اللأواء، وبهم تستمسك السماء. فقال: يا جابر لا أزال على منهاج أبويَّ مۆتسياً بهما حتى ألقاهم. فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: ما رُۆي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين، إلاّ يوسف بن يعقوب، و والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف. (بحار الأنوار: ج 46 ص 78 ـ 79).
و هكذا كان للإمام السجاد سلام الله عليه اليد الطولى في تربية العالم إلى يوم القيامة على الدعاء والمناجاة والتوسّل بالله عزَّ وجلّ. ولعلّ خير شاهد على ذلك الصحيفة السجادية ـ زبور آل محمد ـ ذلك الكنز الضخم الذي قدّمه الإمام للعباد. ففي مختلف المجالات و على مرّ الأزمنة يجد الإنسان أنه يستطيع مناجاة الله عزَّ وجلّ بعبارات قدسية تأخذ بمجامع القلوب و تحيي النفوس و تترك آثارها الروحانية على نفوس العباد.
ففي هذه الصحيفة المباركة يجد الإنسان بعض الأدعية ذات المضامين الأخلاقية العظيمة مثل دعاء مكارم الأخلاق، و غيره، وهناك طائفة أخرى في تهذيب النفس مثل المناجاة التي كان الإمام سلام الله عليه يناجي بها ربه عزَّوجلّ فضلاً عن بقية الأدعية في بقية المناسبات مثل أدعيته سلام الله عليه يوم العيد و يوم عرفة و غيرها من المناسبات.
كما أن بعض الأدعية للإمام سلام الله عليه تذكّر الإنسان بنعم الله تعالى وفضائله التي لا تحصى عليه فضلاً عن الأدعية التي تربط المرء وجدانياً بعالم الآخرة و أهوال القبر وحالات ما بعد الممات حيث يقول الإمام سلام الله عليه في دعائه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي: «فما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسۆال منكر و نكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يمني و أخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة و ذلة».
والإمام من خلال هذه الأدعية القدسية جعل المجتمع في دورة روحانية تربطه بالله تعالى طيلة عمره وفي كل الأوقات؛ الأمر الذي جعل كثيراً من أولياء الله تعالى يتخرّجون من هذه المدرسة الإلهية.
اعداد: سيد مرتضى محمدي .
source : sibtayn