عربي
Monday 22nd of July 2024
0
نفر 0

الشيعة بين الجَبر و الاختيار

شغلت هذه المسألة المهمة التفكير الإسلامي والباحثين الإسلاميين ، من مفسرين ومتكلمين وفلاسفة ، وأمثالهم من رجال العلم والمعرفة ، وكان نتيجة ذلك أن نشأت نظريات ومذاهب لتفسير السلوك الإنساني ، والإجابة على سؤالٍ هو : هل الإنسان مُخيَّر في عمله للخير والشر ، والطاعة والمعصية ، أم هو مُجبَر على ذلك ؟ نحاول في السطور القادمة إيضاح مفهومَي الجبر والاختيار وتفسيرهما ، وذلك لنعرف : هل الإنسان مجبر على الوقوع في الضلال ؟ ، أو سلوك سبيل الهداية ؟ ، أم هو مُخيَّر ؟ وكيف يتم تفسير الاختيار ؟ أم أن الأمر مفوّ
الشيعة بين الجَبر و الاختيار

شغلت هذه المسألة المهمة التفكير الإسلامي والباحثين الإسلاميين ، من مفسرين ومتكلمين وفلاسفة ، وأمثالهم من رجال العلم والمعرفة ، وكان نتيجة ذلك أن نشأت نظريات ومذاهب لتفسير السلوك الإنساني ، والإجابة على سؤالٍ هو : هل الإنسان مُخيَّر في عمله للخير والشر ، والطاعة والمعصية ، أم هو مُجبَر على ذلك ؟

نحاول في السطور القادمة إيضاح مفهومَي الجبر والاختيار وتفسيرهما ، وذلك لنعرف : هل الإنسان مجبر على الوقوع في الضلال ؟ ، أو سلوك سبيل الهداية ؟ ، أم هو مُخيَّر ؟ وكيف يتم تفسير الاختيار ؟ أم أن الأمر مفوَّض إليه ؟ ، وليس لله القدرة على منعه عن فعل الشر ؟ ، أو إجباره على فعل الخير ؟

لقد تشتت الآراء ، وكثرت النظريات والتفاسير المطروحة لتوضيح وبيان هذه القضية الخطيرة ، فنشأت ثلاثة آراء أساسية لتفسير السلوك والفعل الإنساني ، نذكرها بشيء من التفصيل :
الرأي الأول :

الجَبر : ويفسِّر هذا الاتجاه السلوكَ الإنساني تفسيراً جبرياً ، ويرى أن الإنسان مُجبر على فعله ، فإنه لا يملك الإرادة ، ولا يستطيع أن يرفض أي فعل ، فهو عبارة عن المحل الذي تجري فيه مشيئة الله وإرادته ، كما يجري الماء في النهر وهو لا يملك الرفض أو القبول الذاتي .

فالإنسان حينما يفعل الخير ويسلك سبيل الهدى ، أو يفعل الشر ويسلك سبيل الضلالة ، إنما يَجِدُ نفسه مجبراً على ذلك ، فلا يستطيع الرفض أو القبول كما يشاء .
الرأي الثاني :

التفويض : ويرى القائل بهذا الرأي أن السلوك الإنساني مفوَّض للإنسان نفسه ، وهو وحده يستطيع أن يقرر ما يشاء ، وليس لله القدرة على منعه ، أو إرغامه على فعل شيء .
النقد على كِلاَ الرأيين :

والملاحظ على هذين الرأيين أنهما رأيان عاجزان عن التفسير العقائدي السليم ، وغير متطابقين مع المفهوم التوحيدي الأصيل .

فأما الرأي القائل بجَبْر الإنسان على أفعاله ، فإنه يتعارض ويتناقض مع عدل الله سبحانه ، وأما الرأي القائل بتفويض الأفعال للإنسان ، يتعارض ويتناقض مع الإيمان بقدرة الله سبحانه ، وَهَيْمَنَتِهِ على خلقه .

فكلا الرأيين قد وقعا في الخطأ والابتعاد عن الفهم التوحيدي الخالص ، فالله سبحانه مُنزَّه عن الفحشاء ، ومنزَّه عن القبيح ، ولا يمكن أن يصادر إرادة الإنسان ، ثم يحاسبه ويعاقبه .

كما أنه هو المالك وهو على كل شيء قدير ، فلا يجري شيء في الوجود وهو خارج عن قدرته وعلمه ومشيئته ، ومن مشيئته أن يضل النفس المختاره للضلال ، ويهلكها باختيارها ، وأن يعين الإنسان الراغب في الهُدى ، ويزيده هُدىً ، فهو سبحانه وتعالى منزَّه عن الفحشاء ، والفعل القبيح ، والظلم ، ولا يمكن أن يجري في ملكه الا ما يشاء ، وقد شاء أن يعطي الإنسان الاختيار ، ويحمله مسؤولية اختياره هذا .
الرأي الثالث والصحيح :

الأمرُ بَين الأمرين : والقائل بهذا الرأي الذي تدعو إليه مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) يؤمن بأنه ليس هناك جَبْر ولا تَفويض ، وتُفسَّر سلوكُ الإنسان وأفعاله في القرآن والسُّنة الشريفة تفسيراً دقيقاً .

فالذي يستقرئ القرآن الكريم ، والسُّنة النبوية المطهَّرة ، ويستوعب المفاهيم والأفكار التوحيدية ، ويعرف صفات الله ، وما يصح أن يوصف به ، وما لا يصح أن يُنسب إليه ، عندئذٍ يستكشف من خلال ذلك علاقة الخلق بخالق الوجود ، وآثار الله في خلقه ، كما يستطيع أن يُشخِّص العلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان ، ومعنى القدرة على الاختيار .

وهذا الاتجاه هو الاتجاه الذي أَثبتَهُ أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) وبيَّنوه ووضَّحوه للأمَّة ، فقد ذكر الإمام الرضا ( عليه السلام ) الجَبر والتفويض ، فقال : ( ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا يختلفون فيه ، ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ) ؟ قلنا : إن رأيت ذلك .

فقال ( عليه السلام ) : ( إن الله تعالى لم يُطَع بإكراه ، ولم يُعصَ بِغَلَبَة ، ولم يُهمِل العبادَ في مُلكه ، هو المالك لما مَلَّكَهُم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتَمَر العباد بطاعته ، لم يكن الله عنها صادراً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصية ، فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يَحُل ففعلوا ، فليس هو الذي أدخلهم فيه ) .

ثم قال ( عليه السلام ) : ( من يضبط حدود هذا الكلام ، فقد خصم من خالفه ) .

وفي إيضاحات وأقوال أخرى للإمام الرضا ( عليه السلام ) نقرأ التفسير والإيضاح الكافي للمعاني الغامضة في نصوص القرآن الحكيم التي تعرَّضت لمثل هذا الموضوع ، فقد فسَّر الإمام ( عليه السلام ) آيتين تعرَّضَتَا لموضوع الجَبر والاختيار بِصِيَغٍ وعبارات أخرى ، فاستقصَى غوامضها .

فحينما سُئل ( عليه السلام ) عن معنى قوله تعالى : ( وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) البقرة : 17 ، فقال ( عليه السلام ) : ( إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُوصف بالترك كَما يُوصِّفُ خلقَه ، ولكنَّه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال ، مَنَعَهُم المعاوَنة واللُّطف ، وخَلَّى بينهم وبين اختيارهم ) .

وسُئل ( عليه السلام ) عن معنى قوله تعالى : ( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) البقرة : 7 ، فقال ( عليه السلام ) : ( الخَتْم ) هو : الطبع على قلوب الكفَّار عقوبة على كفرهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : ( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكِفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) النساء : 155 .

وورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( لا جَبْرَ ولا تَفويض وَلكنْ مَنزِلةً بينهما ) ، وهكذا يَتَّضح موضوع الجبر والاختيار ، والهدى والضلال ، من خلال عرض القرآن والسُّنة المطهَّرة لهذه المفاهيم العقائدية الخطيرة ، وقد شرح لنا أحد العلماء مفهوم الجبر والاختيار وعلاقة الإرادة الإنسانية بإرادة الله سبحانه .

فمثَّل هذه العلاقة باليد المشلولة التي تفترض حركتها عند مرور التيار الكهربائي بها من قبل أحد الأطباء المعالجين ، ولنفترض أن هذا الطبيب قام بتوجيه التيار الكهربائي إلى يد المريض المشلولة ، وسرى فيها التيار ، واستطاع المريض أن يحركها بفعل التيار الذي سرى فيها ، والطبيب لم يزل يواصل العملية والإمداد بالتيار الكهربائي .

ولنفترض أن المريض قد استطاع أن يحرك يده باختياره ويضرب بها أحد الحاضرين ، فهل يتحمَّل الطبيب المسؤولية وهو لا يزال يمدُّه بالتيار الكهربائي ، والذي يمكِّنُه من تحريك اليد المشلولة ؟ أم أنّ الطبيب بريء من هذا الفعل ، ويتحمَّله المريض نفسه ؟

لا شك أن المريض هو الذي يتحمل المسؤولية ، وإن كان هو بغير الطبيب مشلولاً ، لا يستطيع الحركة ولا الفعل ، إلا أن‎ الطبيب لم يفرض عليه الفعل ، ولم يختره له ، بل المريض هو الذي اختار الفعل .

وهكذا الأمر بالنسبة لعلاقة إرادة الإنسان بإرادة الله سبحانه ، فليس للإنسان إرادة مواجهة لإرادة الله تبارك وتعالى ، ولاقادرة على التمرُّد عليها ، ولا مستقلة كل الاستقلال عنها ، بل أُعطِيَت هذه القدرة من قِبَل الله سبحانه .

فالإنسان وإن كان يتحرك بقدرة الله ، إلا أنه هو الذي اختار الفعل ، كما اختار المريض – في المثال – الفعل ، مع العلم أنه يتحرك بتمكين الطبيب الذي أَمَدَّهُ بالقدرة على التحرك وإيقاع الفعل ، وهكذا يتُمُّ تفسير أفعال وسلوك الإنسان على أساس واضح وسليم .


source : tebyan
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشفاعة عند الشيعة الإمامية
الموت أفضل من الحياة
صدق دعوى الأنبياء
القرآن يتجلى في تكوين المياه العذبة
لذة العبادة والمناجاة وتاثيرها في التكامل
ثبوت الصفة لله
في اعماقنا مثال لمحكمة القيامة
مصير الشمس على ضوء القرآن
لغة القرآن إعراب سورة الكوثر
ملابسات الشهادة الثالثة

 
user comment