من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"سيّدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحّيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني مُعرِضاً عنك فقليتني أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تُحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني. فإن عفوت يا ربّ فطال ما عفوت عن المذنبين قبلي، لأنّ كرمك أي ربّ يجلُّ عن مكافأة المقصّرين وأنا عائذ بفضلك، هارب منك إليك، متنجّز ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظناً".
روي عن الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليه السلام أنّه كان يدعو الله عزّ وجلّ، قائلاً: "ربّ إنّك.. أمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين وقد أنخنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا ولا تُخيّبنا"(1).
نتعلّم من هذا الدعاء أنّ الله تعالى قد أمرنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا وأن لا نطرده، لما في ذلك من ألم وكسر لخاطر السائل، مع أنّه قد يذهب إلى غيرنا طالباً حاجته فتلبّى وربّما لا تُلبّى فيُردّ خائباً.
إذا كانت هذه التعاليم الإلهيّة بين الناس، فكيف هو حال العبد المطرود من أمام باب الرحمة الإلهية، وحرمانه من النعم العظام؟! "سيّدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحّيتني…".
وإذا كان أحدنا قد تنقّل من باب إلى باب آخر من بيوت الناس طالباً حاجته، فإلى من اللجوء إذا طُردنا من أمام باب العطايا الإلهيّة؟! ومن نرجو؟ ومن نسأل؟
ألم نقرأ المناجاة المنظومة المنسوبة لأمير المؤمنين عليه السلام:
إلهي لئن خيّبتني أو طردتني*** فمن ذا الّذي أرجو ومن ذا أشفع؟!(2)
من أسباب البعد عن الله تعالى
لا بُدّ أن نُدرك جيّداً أن هنالك العديد من الأعمال الّتي يرتكبها الإنسان فتؤدّي به إلى الطرد من رحمة الله تعالى، والابتعاد عن الله سبحانه، والإقصاء عن ساحة قدسه ولطفه، الأمر الّذي تترتّب عليه
عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة. منها ما ورد في دعاء أبي حمزة الثماليّ:
1- الاستخفاف بحقّ الله والإعراض عنه:
"سيّدي.. لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني معرضاً عنك فقليتني..".
يؤكّد الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المقطع على عظمة مراعاة الحقوق الإلهيّة، والتنبيه على عدم الاستخفاف بها أو الإعراض عن ذكره سبحانه. هذا بالرغم من عجز العبد عن الوفاء
بالحقوق الإلهيّة وشكر نعمه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ حقوق الله جلّ ثناؤه أعظم من أن يقوم بها العباد، وإنّ نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أمسوا وأصبحوا تائبين"(3).
ويقول الإمام عليّ عليه السلام: "لكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يُطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه"(4).
ولذا لا بُدّ للإنسان أن يكون من الذاكرين لله سبحانه والمطيعين له، لما في ذلك من القرب من الله عزّ وجلّ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين"(5).
وروي أنّ الله أوحى إلى داود عليه السلام: "يا داود، إنّه ليس عبد من عبادي يُطيعني فيما آمره إلا أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني"(6).
وها نحن نقرأ في مناجاة الذاكرين للإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جُمعت العقول المتباينة، فلا تطمئنّ القلوب إلا بذكرك.."(7).
2- الكذب على الله:
"سيّدي.. لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني".
حتماً إنّ من يتّصف بصفة الكذب هو مرفوض ومطرود من ساحة الرحمة الإلهيّة، قال العزيز الجبّار: ﴿إِنّ الله لا يهْدِي منْ هُو كاذِبٌ كفّارٌ﴾(8) و﴿إِنّ الله لا يهْدِي منْ هُو مُسْرِفٌ كذّابٌ﴾(9).
وأوقح الكذّابين من يكذب على الله تعالى: ﴿ولا تقُولُواْ لِما تصِفُ ألْسِنتُكُمُ الْكذِب هـذا حلالٌ وهـذا حرامٌ لِّتفْترُواْ على اللهِ الْكذِب إِنّ الّذِين يفْترُون على اللهِ الْكذِب لا يُفْلِحُون﴾(10)، و:﴿فمنْ أظْلمُ مِمّنِ افْترى على اللهِ كذِبًا لِيُضِلّ النّاس بِغيْرِ عِلْمٍ﴾(11)، ﴿ويقُولُون هُو مِنْ عِندِ اللهِ وما هُو مِنْ عِندِ اللهِ ويقُولُون على اللهِ الْكذِب وهُمْ يعْلمُون﴾(12).
ومن ثمار الكذب كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "ثمرة الكذب المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة". وإنّ الكذب يُسوِّد الوجه كما قال تعالى: ﴿ويوْم الْقِيامةِ ترى الّذِين كذبُواْ على اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْودّةٌ أليْس فِي جهنّم مثْوًى لِّلْمُتكبِّرِين﴾(13)، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الكذب يُسوّد الوجه"(14).
هذا بالإضافة إلى أنّ الكذب يؤدّي إلى الحرمان من النِّعم والابتلاء بالفقر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الكذب يُنقص الرِّزق"(15) ، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"(16).
ونحن نعيش اليوم- للأسف الشديد- أكثر الأزمان الّتي عُرف فيها اعتياد الكذب والغشّ والنفاق بين الناس، بل اختلط فيه الحقّ بالباطل، وأصبح العمل بالحقّ باطلاً والعمل بالباطل حقّاً، وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يُحدِّثنا عن هكذا زمان مظلم بالباطل، حينما يقول: "إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله"(17).
3- عدم شكر الله على نعمه:
"سيّدي.. لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني".
إنّ نِعم الله تعالى وجزيل عطائه على الإنسان كثيرة لا تُحصى ولا تُعدّ، بل لا تنقطع ولا تنضب، حتى عن الكافر والناكر لوجود الله وجميل صنعه عليه. ينعم الله على المؤمن والكافر بنعمة النظر والسمع وتنّفس الهواء وغيرها على حدٍّ سواء.
ولكن هل سألنا أنفسنا نحن المؤمنين بالله وبعظيم نعمه علينا، إن كنّا من الشاكرين لله تعالى على هذه النِّعم الجزيلة والعظيمة؟
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "في كلّ نفس من أنفاسك شكر لازم لك، بل ألف وأكثر"(18)، وعنه عليه السلام: "ما من عبد إلا ولله عليه حجّة، إمّا في ذنب اقترفه، وإمّا في نعمة قصّر عن شكرها"(19).
وقال عليه السلام: "أوّل ما يجب عليكم لله سبحانه، شكر أياديه وابتغاء مراضيه"(20).
بالتالي لكي تدوم نِعم المولى عزّ وجلّ علينا لا بُدّ أن نقابل نعمه بالشكر والحمد، قال الإمام عليّ عليه السلام: "أحسن الناس حالاً في النِّعم من استدام حاضرها بالشكر، وارتجع فائتها بالصبر"(21)، وعنه عليه السلام: "إذا وصلت إليكم أطراف النِّعم فلا تُنفِّروا أقصاها بِقلّة الشكر"(22).
4- الابتعاد عن مجالس العلماء وحضور مجالس البطّالين:
"سيّدي.. لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني".
لقد حثّ الإسلام العظيم - بشكل عامّ - على حضور المجالس الّتي يُذكر الله تعالى فيها وعدم الابتعاد عنها، لأنّها تُشكّل روضة من رياض الجنّة كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ارتعوا في رياض الجنّة، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذكر"(23).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما قعد عدّة من أهل الأرض يذكرون الله إلّا قعد معهم عدّة من الملائكة"(24).
ولكنّ السؤال المهمّ في هذا الصدد: من نُجالس؟ ومن هؤلاء الّذين نُجالسهم فيُذكِّرون بالله تعالى وبنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قالوا - الحواريّون لعيسى عليه السلام -: يا روح الله فمن نُجالس إذاً؟
قال عليه السلام: من يُذكِّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويُرغِّبكم في الآخرة عمله"(25).
وفي وصية لقمان عليه السلام لابنه: "يا بُنيّ! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنّ الله عزّ وجلّ يُحيي القلوب بنور الحكمة كما يُحيي الأرض بوابل السماء"(26).
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "جالس العلماء يزدد علمك، ويحسن أدبك، وتزكُ نفسك"(27).
نستنتج من وصايا أهل البيت عليه السلام لنا، أنّ أهمّ مجالس الذكر وأعظمها هي مجالس العلماء الّذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النظر إلى وجه العالم عبادة"(28).
ولكن أيّ عبادة هي تلك؟!
يُجيبنا الإمام الصادق عليه السلام قائلاً، لمّا سُئِل عن قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "النظر في وجوه العلماء عبادة -: هو العالم الّذي إذا نظرت إليه ذكّرك الآخرة، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة"(29).
في المقابل نهى الإسلام بشدّة عن حضور مجالس البطّالين وأهل السوء، قال تعالى: ﴿وقدْ نزّل عليْكُمْ فِي الْكِتابِ أنْ إِذا سمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكفرُ بِها ويُسْتهْزأُ بِها فلا تقْعُدُواْ معهُمْ حتّى يخُوضُواْ فِي حدِيثٍ غيْرِهِ﴾(30).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصى الله فيه، ولا يقدر على تغييره"(31)، وقال الإمام عليّ عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة"(32).
وعنه عليه السلام: "مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان، ومحضرة للشيطان"(33). وعنه عليه السلام: "لا يأمن مجالسو الأشرار غوائل البلاء"(34).
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك ومصاحبة أهل الفسوق، فإنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم"(35).
ونُلاحظ أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثماليّ قد ذكر مسألة (الغفلة عن ذكر الله)، وهي من المسائل الخطرة الّتي قد يُبتلى بها الإنسان والّتي تُفقده الرحمة الإلهية، ففي حديث المعراج: "يا أحمد! إجعل همّك همّاً واحداً، فأجعل لسانك لساناً واحداً، واجعل بدنك حيّاً لا تغفل أبداً، من غفل عنّي لا أبالي بأيّ واد هلك"(36).
ويقول الإمام عليّ عليه السلام: "فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشقوة!"(37).
بالتالي يجب علينا أن لا نعيش طول الأمل والاغترار بالحياة، فالله تعالى يُمهِل ولا يُهمِل، عنه عليه السلام: "إيّاك والغفلة والاغترار بالمُهلة، فإنّ الغفلة تُفسد الأعمال"(38).
والمطلوب منّا أن نعيش حالة اليقظة على الدوام، ومحاسبة النفس ومراقبتها، فعن عليّ عليه السلام قال: "من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر"(39).
5- ارتكاب الذنوب والآثام:
"سيّدي.. لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني".
إنّ من أبرز أسباب البُعد عن الله تعالى ارتكاب الذنوب والآثام، وتجرُّؤ العبد على هذا في حضرة المولى عزّ وجلّ.
ولذا لا بُدّ أن نعرف دور الذنوب وأثرها الخطير في فساد القلب والفطرة السليمة الّتي فطر الله تعالى عباده عليها، قال تعالى: ﴿كلّا بلْ ران على قُلُوبِهِم مّا كانُوا يكْسِبُون﴾(40).
وورد عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله"(41).
فلا بدّ أن نعمل جاهدين للحفاظ على صفحة قلوبنا لكي تبقى بيضاء، وأن لا نترك لبقع الذنوب السوداء أن تغلب عليها، وإذا ابتُلينا بذلك علينا أن نغسلها بماء التوبة النصوح الصادقة، فقد قال الإمام الباقر عليه السلام: "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يُغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)( 42)".
إضافة إلى ذلك فإنّ ارتكاب الذنوب والآثام يؤدّي إلى عدم استجابة الدعاء، ويُشكِّل مانعاً بيننا وبين الله تعالى، فعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لا تستبطئ إجابة دعائك وقد سددت طريقه بالذنوب"(43).
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيُذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان منّي"(44).
فلنحذر إذاً من غضب الله سبحانه، وأن لا نتمادى في ارتكاب المعاصي، فقد ورد في الزبور: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تسألني فأمنعك لعلمي بما ينفعك، ثمّ تُلحّ عليّ بالمسألة فأُعطيك ما سألت فتستعين به على معصيتي، فأهِمّ بِهتْك سِتْرِك، فتدعوني فأستر عليك، فكم من جميل أصنع معك، وكم قبيح تصنع معي؟ يوشك أن أغضب عليك غضبة لا أرضى بعدها أبداً"(45).
ولكي نبدأ بداية صحيحة علينا ترك الذنوب أولاً، لتُفتح لنا بذلك أبواب التوبة والرحمة، قال الإمام عليّ عليه السلام: "ترك الذنب أهون من طلب التوبة"(46).
الدعاء والمناجاة
"سيّدي.. لعلّك لم تُحِبّ أن تسمع دعائي فباعدتني".
لقد أمرنا المولى عزّ وجلّ أن نُناجيه وندعوه: "ادعوني استجب لكم"، لما في ذلك من لذّة المناجاة وعشق العاشقين، بل وحبّ الله الرؤوف الحميد لسماع أصواتنا ومناجاتنا في الليل والنهار.
في المقابل يُبغض الله الجبّار القويّ سماع أصوات المنافقين والكافرين، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله تعالى: وعزّتي وجلالي وعظمتي وبهائي، إنّي لأحمي ولييّ أن أعطيه في دار الدنيا شيئاً يُشغله عن ذكري حتّى يدعوني فأسمع صوته، وإنّي لأُعطي الكافر مُنيته حتّى لا يدعوني فأسمع صوته بُغضاً له"(47).
ولهذا لنكن من الّذين يُحبّ الله تعالى سماع صوتهم ومناجاتهم، لا من الّذين يُبغض أصواتهم، قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ العبد ليدعو فيقول الله عزّ وجلّ للملكين: قد استجبت له ولكن احبسوه بحاجته، فإنّي أُحبّ أن أسمع صوته، وإنّ العبد ليدعو فيقول الله تبارك وتعالى: عجّلوا له حاجته فإنّي أُبغِض صوته"(48).
الاستحياء من الله تعالى
إنّ من أبرز علامات المؤمن الاستحياء من الله تعالى في السرّ والعلن، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "استحي من الله استحياءك من صالحي جيرانك، فإنّ فيها زيادة اليقين"(49)، وقال الإمام الكاظم عليه السلام: "استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم"(50).
بل أفضل الحياء هو من الله تعالى كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "أفضل الحياء استحياؤك من الله"(51).
فالله تعالى قريب منّا في كلّ زمان ومكان، فلا نعتقد بأننا في الخفاء وفي مأمن من مراقبة الله سبحانه وقدرته علينا، قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "خف الله تعالى لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك(52)".
ولذا لا يخلو الاستحياء من الله تبارك من أثر، قال عليه السلام: "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا"(53).
ومن هنا كان لا بدّ أن نعطي الحياء من الله جلّ جلاله حقّه، وهذا ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: "استحيوا من الله حقّ الحياء، فقيل: يا رسول الله ومن يستحيي من الله حقّ الحياء؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من استحيى من الله حق الحياء:فليكتب أجله بين عينيه، وليزهد في الدنيا وزينتها، ويحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ولا ينس المقابر والبِلى"(54)
كيف ننال العفو الإلهي؟
"سيّدي.. فإن عفوت يا ربّ فطال ما عفوت عن المذنبين قبلي، لأنّ كرمك أي ربّ يجلُّ عن مكافأة المقصِّرين وأنا عائذ بفضلك، هارب منك إليك، متنجِّز ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظناً".
إنّ اعترافنا بذنوبنا والإقرار بها في حضرة الباري عزّ وجلّ، يخطو بنا خطوة نحو نيل عفو الله تعالى والفوز برضوانه، فعن الباقر عليه السلام: "والله ما ينجو من الذنب إلاّ من أقرّ به"(55).
وكان من دعاء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المرويّ عن كميل بن زياد: "وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي، مُعتذِراً نادماً، مُنكسِراً مُستقيلاً، مُستغفِراً مُنيباً، مُقرّاً مُذعِناً مُعترِفاً.."(56).
هذا ولا بدّ أن يقترن الإقرار والاعتراف بالذنوب بشروط أخرى أيضاً، كالندم على ما مضى، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "كفى بالندم توبة"(57).
والإمام زين العابدين عليه السلام أعطانا نموذجاً في مناجاة التائبين: "إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإنّي وعزّتك من النادمين.."(58).
كما إنّه يجب علينا أن لا نكتفي بذلك، بل يجب أن نجبر الأعمال السيّئة التي ارتُكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلاً. والله الغفور الرحيم قد أبقى أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة أمام المذنبين
العاصين، وهو القائل عزّ وجلّ: ﴿وهُو الّذِي يقْبلُ التّوْبة عنْ عِبادِهِ ويعْفُو عنِ السّيِّئاتِ ويعْلمُ ما تفْعلُون﴾(59)، والقائل: ﴿فمن تاب مِن بعْدِ ظُلْمِهِ وأصْلح فإِنّ الله يتُوبُ عليْهِ إِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ﴾(60).
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "من تنزّه عن حُرمات الله سارع إليه عفو الله"(61).
وعنه عليه السلام: "ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبُّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلُّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتّحاً إلى فضله، وأسباباً ذلّلاً لعفوه"(62).
فإنّ من أسماء الله الحسنى(العفوّ) وهو القائل في محكم كتابه العزيز: ﴿إِنّ الله كان عفُوًّا غفُورًا﴾(63). وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يدعو بذلك: "اللّهمّ احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك"(64).
وفي مناجاته عليه السلام: "إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي"(65).
قال الشاعر:
إلهي لا تُعذّبني فإنّي *** مُقِرٌّ بالّذي قد كان منّي
فما لي حيلة إلا رجائي*** وعفوك إن عفوت وحسن ظنّي
الهروب من الله والى الله
"وأنا(يا سيِّدِي) عائِذٌ بِفضْلِك، هارِبٌ مِنْك إِليْك.."..
إنّ الهروب من الله تعالى ليس هروباً من ذاته عزّ وجلّ، بل الهروب من غضبه وعذابه خوفاً منه، ذلك العذاب الّذي يترتّب على فعل العبد نفسه.. ولهذا فإنّ القرآن الكريم يجعل الخوف من مقام الربّ، هو السبب المحرِّك لتهذيب النفس، كما في قوله تعالى: ﴿وأمّا منْ خاف مقام ربِّهِ ونهى النّفْس عنِ الْهوى﴾. فمقام الربّ، هو ذلك المكان الّذي يُخاف منه هيبةً ووجلاً.. والإنسان إذا كان صادقاً في الخوف من غضب الله تعالى، فلا بُدّ أن يتحرّك، ولا بُدّ أن يرحل ويمشي ويسير، ولكن إلى من يلتجئ؟.. وبمن يلوذ؟.. لا شكّ أنّ الجواب: إنّ العبد لا ملجأ له من الله تعالى إلا إليه، فهو القائل تعالى: ﴿ففِرُّوا إِلى الله﴾. فهو يُفرّ منه، إليه.. يُفرّ منه بوصف المنتقميّة والغضب، ويُهرب إليه بوصف الرحمانية والرحيمية.. فإذاً، الإنسان الّذي يعيش هذه الحقيقة من الخوف، هو في حركة مستمرّة دون انقطاع من الله وإلى الله تعالى.
المفاهيم الأساس
إنّ القرب من الله تعالى والوصول إلى رضوانه هو الهدف الأسمى من خلق الإنسان.
هناك العديد من الأمور الّتي يرتكبها الإنسان تؤدّي به إلى البعد عن الله تعالى، مثلاً: الكذب على الله تعالى، وعدم شكر النِّعم، وارتكاب الذنوب والمعاصي وغيرها.
لا بُدّ للمؤمن أن يضع نصب عينيه المعادلة التالية: "الهروب من معصية الله وعذابه، وفي الوقت ذاته الهروب إلى طاعة الله ورحمته".
لذيذ المناجاة
النبيّ موسى عليه السلام مع الطائر الذي يذكر الله:
في الرواية أنّ موسى عليه السلام قال يوماً: يا ربّ أُريد أن أرى خالص خلقك الّذي لا يُشغل بغيرك، فقال تعالى له: أخرج إلى ساحل البحر الفلانيّ، فخرج موسى إلى البحر فرأى طيراً على غصن شجرة مائل إلى البحر مشغولاً بذكر الربّ، فسأله موسى عن حاله.
فقال الطير: منذ خلقني الله كنت هنا مشغولاً بذكره، أذكره كلّ يوم كيت وكيت ذكراً ينشعب من كلّ ذكر ألف ذكر، وقوّتي هنا من لذّة ذكره تعالى.
فقال له موسى: افتمنّيت من الدنيا شيئاً قطّ.
قال: لا يا موسى ولكن في قلبي منية واحدة.
قال موسى: ما هي؟
قال الطير: أن أشرب من ماء هذا البحر قطرة.
فتعجّب موسى من قوله، وقال: أيّها الطير ليس بين منقارك وبين الماء مسافة لِم لم تضربه على الماء؟
قال الطير: أخاف أن تمنعني لذّته لذة ذكر ربّي، وأن يُشغلني عن ذكره تعالى هذه اللحظة.
فضرب موسى يده على رأسه تعجّباً.(66)
المصادر :
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج46، ص 104.
2- مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمي، ص175.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 77.
4- م. ن، ج 27، ص 252.
5- م. ن، ج 90، ص 323.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 90، ص 276.
7- م. ن، ج91، ص 151.
8- الزمر:3.
9- غافر:28.
10- النحل:116.
11- الأنعام:144.
12- آل عمران:78.
13- الزمر:60.
14- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص 2677.
15- م. ن، ج3، ص 2678.
16- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 69، ص 261.
17- م. ن، ح 34، ص 233.
18- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 68، ص 52.
19- أمالي الطوسي، ص 211.
20- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1484.
21- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 124.
22- شرح نهج البلاغة، لابن أبي حديد، ج18، ص 115.
23- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج90، ص 163.
24- م. ن، ج93، ص 163.
25- تحف العقول، للحراني، ص 44.
26- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج1، ص 204.
27- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 223.
28- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج1، ص 195.
29- تنبيه الخواطر، ج1، ص 84.
30- النساء:140.
31- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 375.
32- م. ن، ج2، ص 378.
33- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 403.
34- م. ن، ج1، ص 404.
35- م. ن، ج2، ص 1586.
36- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 29.
37- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 42، ص 207.
38- ميزان الحكمة، للريشهري، ج3، ص 2287.
39- نهج البلاغة، ج4، ص 47.
40- المطففين:14.
41- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 269.
42- المطففین :14
43- حلية الأولياء، لأبي نعيم، ج 10، ص 54.
44- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 272.
45- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 43.
46- نهج البلاغة، ج4، ص 42.
47- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج90، ص 371.
48- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 489.
49- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 200.
50- تحف العقول، للحراني، ص 394.
51- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 719.
52- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 142.
53- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 719.
54- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 6، ص 131.
55- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 426.
56- مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمي، ص 151.
57- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 426.
58- مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمي، ص 254.
59- الشورى:25.
60- سورةالمائدة:39.
61- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 90.
62- م. ن، ج6، ص 115.
63- النساء:43.
64- نهج البلاغة، ج2، ص 222.
65- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 41، ص 12.
66- لآلئ الأخبار
source : rasekhoon