قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)يوما لأصحابه أيكم يحب أن يصح و لا يسقم قالوا كلنا يا رسول الله فقال أ تحبون أن تكونوا كالحمير الضالة ألا تحبون أن تكونوا أصحاب الكفارات و الذي نفسي بيده إن الرجل لتكون له درجة في الجنة ما يبلغها بشيء من عمله و لكن بالصبر على البلاء و عظيم الجزاء لعظيم البلاء و إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه بعظيم البلاء فإن رضي فله الرضا و إن سخط فله السخط و قال (عليه السلام)لو يعلم المؤمن حاله في السقم ما أحب أن يفارق السقم أبدا و قال (عليه السلام)يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم قرضت بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء .
و قال موسى (عليه السلام)يا رب لا مرض يضنيني و لا صحة تنسيني و لكن بين ذلك أمرض تارة فأشكرك و أصح تارة فأشكرك .
و روي أن أبا الدرداء مرض فعادوه فقالوا أي شيء تشتكي فقال ذنوبي قالوا فأي شيء تشتهي فقال المغفرة من ربي فقالوا أ لا ندعو لك طبيبا فقال الطبيب أمرضني قالوا فاسأله عن سبب ذلك فقال قد سألته فقال إني أفعل ما أريده و مرض رجل فقيل له أ لا تتداوى فقال إن عادا و ثمود و أصحاب الرس و قرونا بين ذلك كثيرا كانت لهم أطباء و أدوية فلا الناعت بقي و لا المنعوت له و لو كانت الأدوية تمنع الداء لما مات طبيب و لا ملك .
ثواب عيادة المريض
عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)الحمى رائد الموت و سجن الله في أرضه و حرها من جهنم و هي حظ كل مؤمن من النار و نعم الوجع الحمى تعطى كل عضو حقه من البلاء و لا خير فيمن لا يبتلى و إن المؤمن إذا حم حمة واحدة تناثرت عنه الذنوب كورق الشجر فإن أن على فراش فأنينه تسبيح و صياحه تهليل و تقلبه في فراشه كمن يضرب بسيفه في سبيل الله فإن أقبل يعبد الله في مرضه كان مغفور له و طوبى له و حمى ليلة كفارة سنة لأن ألمها يبقى في الجسد سنة فهي كفارة لما قبلها و لما بعدها و من اشتكى ليلة فقبلها بقبولها و أدى شكرها كانت له كفارة ستين سنة لقبولها و منة لصبره عليها و المرض للمؤمن تطهير و رحمة و للكافرين عذاب و لعنة و لا يزال المرض بالمؤمن حتى لا يبقى عليه ذنب و صداع ليلة تحط كل خطيئة إلا الكبائر .
و قال (صلی الله عليه وآله وسلم)للمريض في مرضه أربع خصال يرفع عنه القلم و يأمر الله الملك أن يكتب له نوال ما كان يعمله في صحته و تساقطت ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر و من عاد مريضا لم يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه و يوحي الله تعالى إلى ملك الشمال لا تكتب على عبدي ما دام في وثاقي شيئا و إلى ملك اليمين أن اجعل أنينه حسنات و أن المرض ينقي الجسد من الذنوب كما ينقي الكير خبث الحديد و إذا مرض الصغير كان مرضه كفارة لوالديه .
و روي فيما ناجى به موسى ربه إذ قال يا رب أعلمني ما في عيادة المريض من الأجر فقال سبحانه أوكل به ملكا يعوده في قبره إلى محشره قال يا رب فما لمن غسله قال أغسله من ذنوبه كما ولدته أمه فقال يا رب فما لمن شيع جنازته قال أوكل بهم ملائكتي يشيعونهم في قبورهم إلى محشرهم قال يا رب فما لمن عزى مصابا على مصيبته قال أظله بظلي يوم لا ظل إلا ظلي و قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)عائد المريض يخوض في الرحمة فإذا جلس ارتمس فيها و يستحب الدعاء له فيقول العائد اللهم رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع و ما فيهن و ما بينهن و ما تحتهن و رب العرش العظيم اشفه بشفائك و داوه بدوائك و عافه من بلائك و اجعل شكايته كفارة لما مضى من ذنوبه و لما بقي و يستحب للمريض الدعاء لعائد فإن دعاءه مستجاب و يكره الإطالة عند المريض .
ذكر الموت و مواعظه
قال الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي مصنف هذا الكتاب تغمده الله برحمته إنه من جعل الموت نصب عينيه زهده في الدنيا و هون عليه المصائب و رغبة في فعل الخير و حثه على التوبة و قيده عن الفتك و قطعه عن بسط الأمل في الدنيا و قل أن يعود يفرح قلبه بشيء من الدنيا و ما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة أعظم من أن يجعل ذكر الدار الآخرة نصب عينيه و لهذا من الله على إبراهيم و ذريته (عليه السلام)بقوله تعالى إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَة ذِكْرَى الدّارِ .
و قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)أكثروا من ذكر هادم اللذات فإنكم إن كنتم في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأثبتم و إن كنتم في غنى بغضه إليكم فجدتم به فأجرتم إلا أن المنايا قاطعات الآمال و الليالي مدنيات الآجال و أن المرء عند خروج نفسه و حلول رمسه يرى جزاء ما قدم و قلة غنى ما خلف و لعله من باطل جمعه و من حق منعه .
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام)من علم أن الموت مصدره و القبر مورده و بين يدي الله موقفه و جوارحه شهيدة له طالت حسرته و كثرت عبرته و دامت فكرته .
و قال (صلی الله عليه وآله وسلم)من علم أنه يفارق الأحباب و يسكن التراب و يواجه بالحساب كان حربا بقطع الأمل و حسن العمل فاذكروا رحمكم الله قوله تعالى وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يعني شاهدته ما بقي عندك فيه شك و لا ارتياب بعد ما كنت ناسيا له غير مكترث به فقال (صلی الله عليه وآله وسلم)أ تدرون من أكيسكم قالوا لا يا رسول الله قال أكثركم و أحسنكم استعدادا له فقالوا و ما علامة ذلك يا رسول الله قال التجافي عن دار الغرور إلى دار الخلود و التزود لسكنى القبور و التأهب ليوم النشور و لقد أحسن من قال شعرا:
اذكر الموت هادم اللذات *** و تجهز لمصرع سوف يأتي
و قال آخر :
ما ذا تقول و ليس عندك حجة *** لو قد أتاك منغص اللذات
ما ذا تقول إذا دعيت و لم تجب *** فإذا تركت فأنت في غمرات
ما ذا تقول إذا حللت محله *** ليس الثقات لأهلها بثقات
المبادرة في العمل
انتبه أيها الإنسان من رقدتك و أفق من سكرتك و اعمل و أنت في مهل قبل حلول الأجل و جد مما في يديك لما بعد موتك فإن أمامك عقبة كئود لا يقطعها إلا المخفون فأحسن الاستعداد لها من دار تدخلها عريانا و تخرج منها عريانا كما قال تعالى وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ .
و قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)اعملوا في الصحة قبل السقم و في الشباب قبل الهرم و في الفراغ قبل الشغل و في الحياة قبل الموت و قد نزل جبرئيل (عليه السلام)إلي و قال لي يا محمد ربك يقرئك السلام و يقول لك كل ساعة تذكرني فيها فهي لك عندي مدخرة و كل ساعة لا تذكرني فيها فهي منك ضائعة و أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام)يا داود كل ساعة لا تذكرني فيها عدمتها من ساعة .
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام)إن امرأ ضيع من عمره ساعة في غير ما خلق له الجدير أن يطول عليها حسرته يوم القيامة و قد روي أن شابا ورث من أبيه مالا جزيلا فجعل يخرجه في سبيل الله فشكت أمه ذلك إلى صديق كان لأبيه و قالت إني أخاف عليه الفقر فأمره ذلك الصديق أن يستبقي لنفسه من الأموال فقال له الشاب ما تقول في رجل ساكن في ربط البلد و قد عزم على أن يتحول إلى داخل المدينة فجعل يبعث غلمانه برحله و متاعه إلى داره بالمدينة فذلك خير أم كان يرحل بنفسه و يترك متاعه خلفه لا يدري يبعث به إليه فعرف الصديق أنه صادق في مثاله ذلك فأمره بإنفاقه في الصدقات فعليك يا أخي بدوام الصدقات فدوامها من دليل سعادات الدنيا و الآخرة و لا تحقرن قليلها فإن قليلها ينتظم إلى قليل مثله فيصير كثيرا و بادر بإخراج الزكاة إذا وجبت من المال تطوعا فإن الصدقة لا تخرج من يد المؤمن حتى يفك بها سبعين شيطانا كلهم ينهونه عن إخراجها و لا تستكثر يا أخي ما تعطيه في الصدقة و طاعة الله إذا استكبرها المؤمن صغرت عند الله و إذا صغرت عند المؤمن كبرت عند الله .
و في الخبر أن موسى (عليه السلام)قال لإبليس أخبرني بالذنب الذي إذا عمله ابن آدم استحوذت عليه فقال إذا أعجبته نفسه و استكبر عمله و صدقته و نسي ذنوبه استحوذت عليه و إياك ثم إياك أن تنهر سائلا أو ترده خائبا و لو بشق تمرة و إن ألح في السؤال بل رده ردا جميلا إذا لم يكن شيء تعطيه فإنه أبقى لنعمة الله عليك فإنه ربما كان السائل ملكا بعثه الله إليك في صورة آدمي يختبرك به ليرى كيف تصنع بما رزقك و أعطاك ففي الحديث أن الله تعالى لما ناجى موسى قال يا موسى أنل السائل و لو باليسير و إلا فرده ردا جميلا فإنه يأتيك من ليس بإنس و لا جان بل ملائكة من ملائكة الرحمن يسألونك عما حق لك و يختبرونك فيما رزقك .
و روي أن بعض العلماء كان جالسا في المجلس و حوله أصحابه فدخل مسكين فسأل شيئا فقال لهم العالم أ تدرون ما يقول لكم هذا المسكين يقول أعطوني أحمل لكم إلى الدار الآخرة يكون لكم ذخيرة تقدمون عليه غدا في عرصة المحشر فيا أخي يجب عليك أن تبعث معهم شيئا جزيلا من مالك إلى دار البقاء ليكون ثوابك غدا الجنة في دار النعيم الباقي الدائم و لله در القائل حيث يقول :
يا صاح إنك راحل فتزود *** فعساك في ذي اليوم ترحل أو غد
لا تفعلن فالموت ليس بغافل *** هيهات بل هو للأنام بمرصد
فليأتين منه عليك بساعة *** فتود أنك قبلها لم تولد
و لتخرجن إلى القبور مجردا *** مما شقيت بجمعه صفر اليد
و قال الخليل بن أحمد لصديق له من الأغنياء إنما تجمع مالك لأجل ثلاثة أنفس كلهم أعداؤك إما زوج امرأتك بعدك أو زوج ابنتك أو زوجة ابنك و كلهم يتمنى موتك و لا يستطيل عمرك فإن كنت عاقلا ناصحا لنفسك فخذ مالك معك زادا و لا تؤثر أحد هؤلاء على نفسك و لقد أجاد الشاعر حيث قال :
تورع ما حرم الله و امتثل *** أوامره و انظر غدا ما أنت عامله
فأنت بذي الدار لا شك تاجر *** لدار غد فانظر غدا من تعامله
و قال رجل صالح لبعض العلماء أوصني قال أوصيك بشيء واحد اعلم أن الليل و النهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما و هذا القول إذا تدبره العاقل علم أنه أبلغ العظات و قيل لعالم ما أحمد الأشياء و أحلاها في قلب المؤمن قال شيء واحد و هو ثمرة العمل الصالح قيل له فما نهاية السرور قال الأمن من الوجل عند حلول الأجل ثم تمثل بهذين البيتين :
ولدتك إذ ولدتك أمك باكيا *** و الناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكا مسرورا
و قال رجل للصادق (عليه السلام)أوصني قال له أعد جهازك و أكثر من زادك لطول سفرك و كن وصي نفسك و لا تكن تأمن غير أن يبعث بحسناتك إلى قبرك فإنه لن يبعثها أحد من ولدك إليك فما أبين الحق لذي عينين أن الرحيل أحد اليومين تزودوا من صالح الأعمال و تصدقوا من خالص الأموال فقد دنا الرحلة و الزوال شعر :
خرجت من الدنيا فقامت قيامتي *** غداة أقل الحاملون جنازتي
و عجل أهلي حفر قبري فصيروا *** خروجي عنهم من أجل كرامتي
يجب على العاقل أن يحافظ على أول أوقات الصلاة و يسارع إلى فعل الخيرات فيكثر من أعمال البر و الصدقات فإن العمر لحظات و يقال فلان قد مات فإذا عاين في قبره الأهوال و الحسرات قال أعيدوني إلى الدنيا لأتصدق بمالي فيقال هيهات فاغتنم أيها اللبيب ما بقي لك من الأوقات فإن بقية عمرك لا بقاء لهافاستدرك بها ما فات و اجتهد أن تجعل بصرك لأخراك فهو أعود عليك من نظرك إلى دنياك فإن الدنيا فانية و الأخرى باقية و السعيد من استعد لما بين يديه و أسلف عملا صالحا يقدم عليه قبل نزول المنون يوم لا ينفع مال و لا بنون شعر:
و بادر شبابك أن يهرما *** و صحة جسمك أن يسقما
و أيام عزك قبل الممات *** فما كل من عاش أن يسلما
و قدم فكل امرئ قادم *** على كل ما كان قد قدما
أقول في جمع المال و البخل به على نفسه و إنفاقه في مرضات الله تعالى كما قال تعالى في كتابه وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ و في الخبر عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)قال يصور الله تعالى مال أحدكم شجاعا أقرع فيطوق في حلقه و يقول أنا مالك الذي منعتني إن تتصدق بي ثم ينهشها بأنيابه فيصيح عند ذلك صياحا عظيما ثم عليك يا طالب الجنة و نعيمها بترك حب الدنيا و زينتها لأن الله تعالى قد ذمها في كتابه العزيز فقال مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون من المال و الجاه أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْ آخِرَةِ إِلَّا النّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها و الإحباط هو إبطال أعمالهم في الدنيا و قال الله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً و قال تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْ آخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْ آخِرَةِ مِنْ نَصِيب و حرث الآخرة هو العمل للآخرة الذي يستحق به العبد دخول الجنة لأن الحرث هو زرع الأرض و قال بعض الصالحين شعرا :
و ما الناس إلا هالك و ابن هالك *** و ذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت *** له عن عدو في ثياب صديق
و قال آخر :
كأحلام نوم أو كظل زائل *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع
و قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)إن أهل الجنة لا يندمون على شيء من أمور الدنيا إلا على ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها .
و قال (صلی الله عليه وآله وسلم)ما من يوم يمر إلا و الباري عز و جل ينادي عبدي ما أنصفتني أذكرك و تنسى ذكري و أدعوك إلى عبادتي و تذهب إلى غيري و أرزقك من خزانتي و آمرك لتتصدق لوجهي فلا تطيعني و أفتح عليك أبواب الرزق و أستقرضك من مالي فتجبهني و أذهب عنك البلاء و أنت معتكف على فعل الخطايا يا ابن آدم ما يكون جوابك لي غدا إذا أجبتني و قال بعض العلماء يا أخي إن الموتى لم يبكوا من الموت لأنه محتوم لا بد منه و إنما يبكون من حسرة الفوت كيف يتزودون من الأعمال الصالحة التي يستحقون بها الدرجات العلى و لأنهم ارتحلوا من دار لم يتزودوا منها و حلوا بدار لم يعمروها فيقولون حينئذ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ .
و قال (صلی الله عليه وآله وسلم)ما من ليلة إلا و ملك الموت ينادي يا أهل القبور لمن تغبطون اليوم و قد عاينتم هول المطلع فيقول الموتى إنما نغبط المؤمنون في مساجدهم لأنهم يصلون و لا نصلي و يؤتون الزكاة و لا نزكي و يصومون شهر رمضان و لا نصوم و يتصدقون بما فضل عن عيالهم و نحن لا نتصدق .
و قال لقمان لابنه يا بني إن كنت تحب الجنة فإن ربك يحب الطاعة فأحب ما يحب و إن كنت تكره النار فإن ربك يكره المعصية فأكره ما يكرهه لينجيك مما تكره و اعلم أن من وراء الموت ما هو أعظم و أدهى قال الله تعالى في محكم كتابه وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلّا مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ .
و قد روى الثقة عن زين العابدين (عليه السلام)أن الصور قرن عظيم له رأس واحد و طرفان و بين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل ما بين تخوم الأرضين السابعة إلى فوق السماء السابعة فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق وسع فمه ما بين السماء و الأرض و له في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع و نفخة الموت و نفخة البعث فإذا أفنيت أيام الدنيا أمر الله عز و جل إسرافيل أن ينفخ فيه نفخة الفزع فرأت الملائكة إسرافيل و قد هبط و معه الصور قالوا قد أذن الله في موت أهل السماء و الأرض فيهبط إسرافيل عند بيت المقدس مستقبل الكعبة فينفخ في الصور نفخة الفزع قال الله تعالى وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلّا مَنْ شاءَ اللّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ إلى قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ و تزلزلت الأرض و تذهل كل مرضعة عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها و يصير الناس يميدون و يقع بعضهم على بعض كأنهم سكارى و ما هم بسكارى و لكن من عظيم ما هم فيه من الفزع و تبيض لحى الشبان من الفزع و تطير الشياطين هاربة إلى أقطار الأرض و لو لا أن الله تعالى يمسك أرواح الخلائق في أجسادهم لخرجت من هول تلك النفخة فيمكثون على هذه الحالة ما شاء الله تعالى ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض إنس و لا جن و لا شيطان و لا غيرهم ممن له روح إلا صعق و مات و يخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماء فلا يبقى في السماوات ذو روح إلا مات قال الله تعالى إِلّا مَنْ شاءَ اللّهُ و هو جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل فأولئك الذين شاء الله فيقول الله تعالى يا ملك الموت من بقي من خلقي فقال يا رب أنت الحي الذي لا يموت بقي جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و بقيت أنا فيأمر الله بقبض أرواحهم فيقبضها ثم يقول الله يا ملك الموت من بقي فيقول ملك الموت بقي عبدك الضعيف المسكين ملك الموت فيقول الله مت يا ملك الموت بإذني فيموت ملك الموت و يصيح عند خروج روحه صيحة عظيمة لو سمعها بنو آدم قبل موتهم لهلكوا و يقول ملك الموت لو كنت أعلم أن في نزع أرواح بني آدم هذه المرارة و الشدة و الغصص لكنت على قبض أرواح المؤمنين شفيقا فإذا لم يبق أحد من خلق الله في السماء و الأرض نادى الجبار جل جلاله يا دنيا أين الملوك و أبناء الملوك أين الجبابرة و أبناؤهم و أين من ملك الدنيا بأقطارها أين الذين كانوا يأكلون رزقي و لا يخرجون من أموالهم حقي ثم يقول لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فلا يجيبه أحد فيجيب هو عن نفسه فيقول لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ ثم يأمر الله السماء فتمور أي تدور بأفلاكها و نجومها كالرحى و يأمر الجبال فتسير كما تسير السحاب ثم تبدل الأرض بأرض أخرى لم يكتسب عليها الذنوب و لا سفك عليها دم بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها أول مرة و كذا تبدل السماوات كما قال الله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ و يعيد عرشه على الماء كما كان قبل خلق السماوات و الأرض مستقلا بعظمته و قدرته ثم يأمر الله السماء أن تمطر على الأرض حتى يكون الماء فوق كل شيء اثني عشر ذراعا فتنبت أجساد الخلائق كما ينبت البقل فتتدانى أجزاؤهم التي صارت ترابا بعضها إلى بعض بقدرة العزيز الحميد حتى أنه لو دفن في قبر واحد ألف ميت و صارت لحومهم و أجسادهم و عظامهم النخرة كلها ترابا مختلطة بعضها في بعض لم يختلط تراب ميت بميت آخر لأن في ذلك القبر شقيا و سعيدا جسد ينعم بالجنة و جسد يعذب بالنار نعوذ بالله منها ثم يقول الله تعالى لنحيي جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل و حملة العرش فيحيون بإذن الله فيأمر الله إسرافيل أن يأخذ الصور بيده ثم يأمر الله أرواح الخلائق فتأتي فتدخل في الصور ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور للحياة و بين النفختين أربعين سنة قال فتخرج الأرواح من أثقاب الصور كأنها الجراد المنتشر فتملأ ما بين السماء و الأرض فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد و هم نيام في القبور كالموتى فتدخل كل روح في جسدها فتدخل في خياشيمهم فيحيون بإذن الله تعالى فتنشى الأرض عنهم كما قال يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُب يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ و قال تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ثم يدعو إلى عرصة المحشر فيأمر الله الشمس أن تنزل من السماء الرابعة إلى السماء الدنيا قريب حرها من رءوس الخلق فيصيبهم من حرها أمر عظيم حتى يعرفون من شدة حرها كربها حتى يخوضون في عرقهم ثم يبعثون على ذلك حفاة عراة عطاشا و كل واحد دالع لسانه على شفتيه قال فيبكون عند ذلك حتى ينقطع الدمع ثم يبكون بعد الدموع دما قال الراوي و هو الحسن بن محبوب يرفعه إلى يونس بن أبي فاختة قال رأيت زين العابدين (عليه السلام)عند بلوغه المكان ينتحب و يبكي بكاء الثكلى و يقول آه ثم آه على عمري كيف ضيعته في غير عبادة الله و طاعته لأكون من الناجين الفائزين قلت و ذلك في تفسير قوله تعالى آخر سورة المؤمنين حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ يعني فيما تركته ورائي لوراثي فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ فيقول له ملك الموت كَلّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي كلا لا رجوع لك إلى دار الدنيا و قوله إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي قال هذه الكلمة لما شاهده من شدة سكرات الموت و أهوال ما عاينه من عذاب القبر و هول المطلع و من هول سؤال منكر و نكير قال الله تعالى وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لو ردوا إلى دار الدنيا و مددنا لهم في العمر لعادوا إلى ما كانوا عليه من بخلهم بأموالهم فلم يتصدقوا و لم يطعموا الجيعان و لم يكسوا العريان و لم يواسوا الجيران بل يطيعون الشيطان في البخل و ترك الطاعة ثم قال تعالى وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ و البرزخ في التفسير القبر ثم قال تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَ لا يَتَساءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ الآية قوله فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ففي الخبر الصحيح عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أن الخلائق إذا عاينوا القيامة و دقة الحساب و أليم العذاب فإن الأب يومئذ يتعلق بولده فيقول أي بني كنت لك في دار الدنيا أ لم أربك و أغذيك و أطعمك من كدي و أكسيك و أعلمك الحكم و الآداب و أدرسك آيات الكتاب و أزوجك كريمة من قومي و أنفقت عليك و على زوجتك في حياتي و آثرتك على نفسي بمالي بعد وفاتي فيقول صدقت فيما قلت يا أبي فما حاجتك فيقول يا بني إن ميزاني قد خفت و رجحت سيئاتي على حسناتي و قالت الملائكة يحتاج كفة حسناتك إلى حسنة واحدة حتى ترجع بها و إني أريد أن تهب لي حسنة واحدة أثقل بها ميزاني في هذا اليوم العظيم خطره قال فيقول الولد لا و الله يا أبت إني أخاف مما خفته أنت و لا أطيق أعطيك من حسناتي شيئا قال فيذهب عنه الأب باكيا نادما على ما كان أسدى إليه في دار الدنيا و كذلك قيل الأم تلقى ولدها في ذلك اليوم فتقول يا بني أ لم يكن بطني لك وعاء فيقول بلى يا أماه فتقول أ لم يكن ثديي لك سقاء فيقول بلى يا أماه فتقول له إن ذنوبي أثقلتني فأريد أن تحمل عني ذنبا واحدا فيقول إليك عني يا أماه فإني مشغول بنفسي فترجع عنه باكية و ذلك تأويل قوله تعالى فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَ لا يَتَساءَلُونَ قال و يتعلق الزوج بزوجته فيقول يا فلانة أي زوج كنت لك في الدنيا فتثني عليه خيرا و تقول نعم الزوج كنت لي فيقول لها أطلب منك حسنة واحدة لعلي أنجو بها مما ترين من دقة الحساب و خفة الميزان و الجواز على الصراط فتقول له لا و الله إني لا أطيق ذلك و إني لأخاف مثل ما تخافه أنت فيذهب عنها بقلب حزين حيران و ذلك ورد في تأويل قوله تعالى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى يعني أن النفس المثقلة بالذنوب تسأل أهلها و قرابتها أن يحملوا عنها شيئا من حملها و ذنوبها فإنهم لا يحملونه بل يكون حالهم يوم القيامة نفسي نفسي كما قال تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ .
قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)أخبرني جبرائيل قال بينما الخلائق وقوف في عرصة القيامة إذ أمر الله تعالى ملائكة النار أن يقودوا جهنم فيقودها سبعون ألف ملك بسبعين ألف زمام فيجد الخلائق حرها و وهجها من مسيرة شهر للراكب المجد و قد تطاير شررها و علا زفيرها فإذا دنت من عرصة القيامة صارت ترمى بشرر كالقصر فلا يبقى يومئذ أحد من سائر الخلق إلا و يخر على وجهه و كل منهم ينادي يا رب نفسي نفسي إلا أنت يا نبي الله فإنك قائم تقول يا رب نجني و ذريتي و شيعتي و محب ذريتي قال فيطلب النبي أن تتأخر عنهم جهنم فيأمر الله تعالى خزنة جهنم أن يرجعوها إلى حيث أتت منه و ذلك في تفسير قوله تعالى في سورة الفجر وَ جِيءَ يَوْمَئِذ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى يعني يومئذ أي يوم القيامة و معنى يتذكر أي ابن آدم يتذكر ذنوبه و معاصيه و يندم كيف ما قدم ماله ليقدم عليه يوم القيامة و قوله تعالى وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى أي أنى له الذكرى يوم القيامة حيث ترك الذكرى في دار الأعمال و ما تذكر إلا في دار الجزاء فما عاد تنفعه الذكرى و قوله يحكي عن ابن آدم يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي قدمت أمامي فتصدقت به لوجه ربي و تزيدت من عمل الخير و الصلاة و العبادات و التسبيح و ذكر الله تعالى حتى نلت به في هذا اليوم درجات العلى في الآخرة و النعيم الدائم في أعلى الجنان مع الشهداء و الصالحين و إنما سمى الله تعالى الآخرة الحياة لأن نعيم الجنة خالد دائم لا نفاد له باق ببقاء الله تعالى بخلاف الدنيا فإن الحياة فيها منقطعة مع أنه مشوب بالهم و الغم و المرض و الخوف و الضعف و الشيب و الدين و غير ذلك فاستيقظ يا أخي من نومك و اخرج من غفلتك و حاسب نفسك قبل يوم الحساب و اخرج من تبعات العباد و صالح الذين أخذت منهم الربا و اعتذر إلى من قذفته بالزناء و اغتبته و نلت من عرضه فإن العبد ما دام في الدنيا تقبل توبته إذا تاب من ذنوبه و إذا اعتذر من غرمائه رحموه و عفوا عنه و أسقطوا عنه حقوقهم الذي عليه فأما في الآخرة فلا حق يوهب و لا معذرة تقبل و لا ذنب يغفر و لا بكاء ينفع .
و قال (عليه السلام)ما فزع امرؤ فزعة إلا كانت فزعته عليه حسرة يوم القيامة فما خلق امرؤ ليلهو و انظروا إلى قوله تعالى أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً و قال تعالى أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً و اعلموا أيها الإخوان أن العمر منجو عظيم مريح و كل نفس منه جوهرة و كيف لا يكون كذلك و قد قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)من قال أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا فردا صمدا لم يتخذ صاحبه و لا ولدا كتب الله له بكلماته خمسا و أربعين ألف ألف حسنة و محا عنه أربعين ألف ألف سيئة و رفع له خمسا و أربعين ألف ألف درجة في عليين فقال له جبرائيل يا رسول الله كل شيء يحصى حسابه إلا قول الرجل لا إله إلا الله وحده لا شريك له فإنه لا يحصى ثوابه إلا الله تعالى ادخر لك و لأمتك فاذكروني أذكركم و إن الله سبحانه يقول أهل ذكرى في ضيافتي و أهل طاعتي في نعمتي و أهل شكري في زيارتي و أهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي إن تابوا فأنا أجيبهم و إن مرضوا فأنا طبيبهم أداويهم بالمحن و المصائب لأطهرهم .
المصدر :
ارشاد القلوب / الشیخ ابو محمد الحسن بن محمد الدیلمی
source : rasekhoon