قال تعالى: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ)(1)
الإسلام: له إطلاقان، فتارة یطلق ویراد منه التسلیم والانقیاد التام، وبهذا المعنى تشترک کل الرسالات السماویة، فکلها تدعو إلى الانقیاد والتسلیم لله عزّ وجلّ باعتباره المولى الخالق المبدئ المعید والإله الأوحد، وقد جاء فی القرآن الکریم بعض الآیات التی تتکلم عن بعض الأنبیاء الکرام علیهم السلام وأنهم قد دعوا قومهم إلى الإسلام والتسلیم.
ومن أمثلة ذلک:
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِیهَا هُدًى وَنُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُواْ...)(2)
وقوله تعالى: (وَقَالُواْ لَن یَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن کَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْکَ أَمَانِیُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَکُمْ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلاَ هُمْ یَحْزَنُونَ) (3)
وقوله تعالى: (مَا کَانَ إِبْرَاهِیمُ یَهُودِیًّا وَلاَ نَصْرَانِیًّا وَلَکِن کَانَ حَنِیفًا مُّسْلِمًا وَمَا کَانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ) (4)
وقوله تعالى: (أَنتَ وَلِیِّی فِی الدُّنُیَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِی مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِی بِالصَّالِحِینَ ) (5).
وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً...) (6)
وقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَکُمُ الدِّینَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )(7)
وقوله تعالى: ( وَإِذْ أَوْحَیْتُ إِلَى الْحَوَارِیِّینَ أَنْ آمِنُواْ بِی وَبِرَسُولِی قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) (8)
وقوله تعالى: ( إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ ) (9)
وغیر ذلک من الآیات الشریفة والتی تتحدث عن الإسلام بمعناه العام الذی هو التسلیم والانقیاد لرب العالمین.
وتارة یطلق ویراد منه خصوص الرسالة الخاتمة وهی شریعة سید الأنبیاء والمرسلین محمد صلى الله علیه وآله وسلم، وهذا ما یعرف بالمعنى الأخص، بعبارة أخرى أن الإسلام بمعناه العام یشمل کل الرسالات وبمعناه الاصطلاحی الخاص هو الرسالة الإسلامیة الخاتمة.
وعلیه یکون هذا الاطلاق والاستعمال مشیراً إلى أن الإسلام هو الشریعة الخاتمة التی جاء بها النبی الأعظم محمد صلى الله علیه وآله وبها ختمت الشرائع والرسالات ونسخت الأدیان وهو المشار إلیه فی قوله تعالى:
(وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الإِسْلاَمِ دِینًا فَلَن یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ) (10)
وقوله تعالى: (إِنَّ الدِّینَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوْتُواْ الْکِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْیًا بَیْنَهُمْ وَمَن یَکْفُرْ بِآیَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِیعُ الْحِسَابِ) (11)
وقوله تعالى: (الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الإِسْلاَمَ دِینًا) (12)
وقوله تعالى: (فَمَن یُرِدِ اللّهُ أَن یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ...) (13)
وقوله تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ...) (14)
وآیات أخرى کثیرة وردت فی الکتاب المجید تتحدث عن الإسلام المحمدی وتنص هذه الرسالة المقدسة على التسلیم والانقیاد والإذعان والإخلاص للخالق المبدئ المعید الإله العظیم الذی لا إله إلا هو فرداً صمداً، وأن هذا الانقیاد والطاعة والإخلاص والتوحید له سبحانه وتعالى لا یتحقق إلا بالتسلیم لنبیه العظیم المبعوث رحمة للعالمین والذی طاعته من طاعة الله تعالى وتکذیبه أو الرد علیه هو تکذیب له تعالى شأنه، ولهذا قال تعالى فی محکم کتابه وشریف خطابه:
(قُلْ أَطِیعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ یُحِبُّ الْکَافِرِینَ)(15)
وقوله تعالى: (وَأَطِیعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ) (16)
وقوله تعالى: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ أَطِیعُواْ اللّهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنکُمْ...) (17)
وقوله تعالى: (وَأَطِیعُواْ اللّهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّیْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِینُ) (18)
وقوله تعالى: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَکُمْ) (19)
وقد جاءت آیات کثیرة فی هذا المقام تؤکد أن مقتضى الإسلام والتسلیم هو الانقیاد والطاعة لرسول الله العظیم محمد صلى الله علیه وآله وسلم، وهذه الطاعة والانقیاد غیر محددة وغیر محصورة فهی تستوعب کل الأمور التی وجه إلیها رسول الله صلى الله علیه وآله باعتباره مبلغاً عن الله تعالى ولا ینطق عن الهوى، قال تعالى: ( وَمَا یَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَى )(20)
والإسلام باعتباره الرسالة الخاتمة الخالدة فهو رسالة عالمیة عامة لا یختص بها قوم دون قوم ولا یحق لمجتمع ولا قوم أن یحتکروها عن الآخرین، فالجمیع مخاطب بها ومسؤولون عنها.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا کَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِیرًا وَنَذِیرًا...) (21)
وقوله تعالى: (وما أرسلناک إلا رحمة للعالمین) (22)
وهی رسالة إنسانیة لا تفاضل ولا تمایز بین أفرادها إلا على أساس العمل الصالح والتقوى، فالأفضل هو الأکرم عند الله بمقدار طاعته والتزامه وعبادته وإخلاصه لا بما یستحوذ ویملک ویقهر ویرتفع فی عالم الدنیا.
قال تعالى شأنه: ( یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُم مِّن ذَکَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ) (23)
وبهذا یتضح أنّ الإسلام هو التسلیم لله تعالى والانقیاد لأوامره والإخلاص له وحده والإقرار بربوبیته والعبودیة له.
وقد جاء فی بیان حقیقة الإسلام قول مولانا أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: "لأنسبن الإسلام نسبة لم ینسبها أحد قبلی. الإسلام هو التسلیم والتسلیم هو الیقین، والیقین هو التصدیق، والتصدیق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل".(24)
والإسلام لیس فقط دیناً تعبدیاً، بل هو نظام حیاة شامل کامل، فهو ینظم حیاة الإنسان فی مختلف مجالات حیاته وجوانبها؛ فهو له رؤیته الإنسانیة ومنهجیته الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة والثقافیة...إلخ من الأنشطة المختلفة والتی ربطها بمنظومة عبادیة ترفع من درجات الإنسان وتجعله أسمى المخلوقات.
إن نظریات الإسلام من حیث الانسجام والکمال والشمول والاستیعاب لجمیع الجوانب الروحیة والمادیة ومن جهة العمق لا مثیل لها على مستوى کل الأفکار والمدعیات، فإنها لا تضارب ولا تقاطع بینها فهی صادرة عن الحکیم المطلق والعلیم المطلق والخبیر المطلق الأعلم بما یصلح حیاة الإنسان، ولذا فهی تشتمل على کل طرق الخیر والسعادة، وهو قادر على أن یعالج کل مشاکل البشر.
إن للإنسان فی فکر الإسلام منزلة عظیمة وشأناً رفیعاً لذلک اهتم بتربیته وتکامله من جمیع الجوانب ونظم علاقته بالله تعالى لتتوازن علاقاته بمحیطه الإنسانی والمادی وکذلک الأخروی. فإنه یرى أن حیاة الإنسان لا تنقطع بموته ولا تنتهی بانتهائه من الوجود فی هذا العالم بل إن حیاته خالدة ومستمرة وأن الجانب الدنیوی لا ینفک ولا ینفصل عن العالم الأخروی، ولهذا نجده یضع برنامجاً مشرقاً وحرکیاً بغیة تربیة الإنسان والوصول به إلى التحلیق فی فضاء الکمالات والنعیم الخالد الأبدی.
إن الإسلام لیس نظریة مثالیة تقطع الإنسان عن عالمه وتأخذه فی رحلة من عالم التصورات والخیالات والأوهام، ولا هو نظریة تدفع بالإنسان نحو عبادة المادة والشهوة فیخلد إلى الأرض وینسى آخرته ومعاده وحسابه، ولیس هو أفکاراً خرافیّة تملأ أذهان المعتقدین بها وتعطل قواهم الفکریة وعقولهم... إنه دین تحرر وارتقاء وانطلاق فی فضاء الحریة، فهو جاء لیحرر العقول من الأوهام والخرافات ویحرر الأرواح من أسس العالم المادی والشهوی ویحرر الإنسان من کل ما یقطع صلته بخالقه وینتهی به إلى عالم الفناء والعذاب والشقاء.
ولهذا نجد أن نظام التربیة الإسلامی یرتکز على أسس عظیمة یمکن إجمالها فی:
1- تقویم الأفکار العقائدیة وتهذیبها وتصنیفها ومن الأوهام والخرافات (تحریر العقول من أسس الخرافات).
2- تنمیة وتعزیز الأصول الأخلاقیة.
3- تنظیم وموازنة وتحسین العلاقات الاجتماعیة.
4- القضاء على التمایزات الطبقیة والفوارق المقامة على أساس العرق أو الجنس أو اللون...
إن تحریر الإنسان من أوهامه ونزواته وغرائزه هو الذی یجعل منه إنساناً بشریاً یساهم فی بناء الحضارة والحیاة، وهذا یتطلب أن یحکم المجتمع بمنظومة تشریعیة تحفظ له هذا النوع من النقاء والبعد عن الأثر الغرائزی، إذ لا یمکن أن یکون نظاماً للحیاة وهو یغفل الجوانب القانونیة والتشریعیة الماسة بحیاة الإنسان، ولهذا فالإسلام له ترکیزه الخاص على ضبط العلاقات المتوازنة فی الحیاة وإلغاء کل ما من شأنه أن یخلق فوارق طبقیة عرقیة أو قومیة أو رأسمالیة...إلخ، فحصر الدور التشریعی فی الله تعالى وربط الأمة برسولها وأولیائه الطاهرین کفیل بأن یجنب الأمة کل الأزمات التی تنشأ من سیطرة الوهم والغریزة کما یحصل فیما یدعیه البعض بالدیمقراطیة وحکم الأکثریة، فهی لیست مصیبة ومحقة على الدوام والاستمرار بالإضافة إلى ما یمثله من ظلم وإجحاف للآخرین، إنّ أزمّة التشریع فی الإسلام هی بید الله تعالى العادل الحکیم، لذلک لا مجال حین تطبیقها أن تحصل أنواع الفساد التی تعانی منها المجتمعات الیوم، فکیف نخاطبه سبحانه وتعالى بـ (إِیَّاکَ نَعْبُدُ وإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ) وبـ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِیَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ حُنَفَاء) وننظر إلیه بأنه الخالق العلیم الحکیم... وفی الوقت نفسه نضع لأنفسنا قوانین من وحی فکرنا القاصر وأوهامنا الواقعة تحت تأثیر وسلطان الغریزة والشهوة، بل کیف یسمح البعض لنفسه أن یقول بفصل الدین عن السیاسة وعن الاقتصاد وعن... ثم یقول بإسلامیته وأن ذلک ما هو إلا تنزیهًا للدین عن السیاسة ومزالقها... إلخ فهل الإسلام إلا نظامًا متکاملاً ومنظومة محکمة یتحرک فیها الإنسان وبها ینطلق فی کل أبعاد حیاته یعیش الطهارة الروحیة والجسدیة والفکریة فیرقى لیکون خلیفة الله فی أرضه.
هذا هو الإسلام کدین وعقیدة ونظام کما عبر عنه مولانا أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی کلمته التی أشرنا إلیها سابقاً. فالتسلیم الذی یمثل الإسلام حقیقته لا یکون کذلک إلا إذا کان راسخًا فی القلب ویصدقه اللسان وتلتزم به الجوارح وتعمل به وتنفذ تعالیمه وهذا هو جوهر الطاعة لله ولرسوله العظیم صلى الله علیه وآله وسلم.
المصادر :
1- المائدة / 69.
2- المائدة/ 44.
3- البقرة/111-112.
4- آل عمران/ 67.
5- یوسف 101.
6- البقرة /128 .
7- البقرة /132.
8- المائدة/ 111.
9- یونس/ 72.
10- آل عمران/ 85.
11- آل عمران/ 19.
12- المائدة/ 3.
13- الأنعام/ 125.
14- الزمر/ 22.
15- آل عمران/ 32.
16- آل عمران/ 132.
17- النساء/ 59.
18- المائدة/ 92.
19- محمد/ 33.
20- النجم/ 3-4.
21- سبأ/ 28.
22- الأنبیاء 107.
23- الحجرات 13.
24- شرح نهج البلاغة- السید عباس الموسوی ج5 ص 301-302 ط1 1998م- دار الرسول الأکرم (ص)- دار المحجّة البیضاء
source : rasekhoon