أقامت الدعوة الإلهية الخاتمة حجتها على أهل الكتاب، وبينت لهم أن الله تعالى منذ بعث نوح عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل سبحانه رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، قا
أقامت الدعوة الإلهية الخاتمة حجتها على أهل الكتاب، وبينت لهم أن الله تعالى منذ بعث نوح عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل سبحانه رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (1) وبينت الدعوة الخاتمة أن جميع الأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(2). وإن إبراهيم عليه السلام لم يدع غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، ومن ترك طريقة إبراهيم عليه السلام يكون قد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، وبينت الدعوة أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه بالإسلام وبنيه وصوا أبناءهم به من بعدهم، قال تعالى: (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (3).
وبينت الدعوة الخاتمة بأنها تؤمن بكل نبي أرسل، وأخبرت أن كل من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال تعالى لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (4)، وأعلنت الدعوة من يومها الأول أنها على ملة إبراهيم عليه السلام قال تعالى: (ثم أوحينا إليك أن إتبع ملة إبراهيم حنيفا) (5)، وقال جل شأنه لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)(6).
لقد بينت الدعوة الإلهية الخاتمة للبشرية العقيدة الحقة، وأقامت الحجة على أهل الكتاب ليتفكروا وليتدبروا. ليعلموا أن دين إبراهيم برئ من جميع العقائد التي عليها بصمات العجول وآلهة الأمم المتعددة، وأن دين إبراهيم لا علاقة له بعقائد التثليث وألوهية المسيح، ولم تكن مهمة إبراهيم عليه السلام في يوم من الأيام هي البحث عن الميراث من النيل إلى الفرات، وإنما كان عليه السلام إماما للناس، يقتدون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله، وهذه الإمامة لا ينالها ظالم من ولده، لأن الله لا يجعل الظالمين أئمة ولا يعطي الإمامة لعدوه. لأن هؤلاء يأتون كنتيجة لأعمال الظالمين من الناس، والله تعالى رؤوف بالعباد، والناس تحت مظلة الاختبار يمتحنون، فمن سلك طريقا على ذروته إمام للرحمة والعدل. وصل إلى غايته، ومن سلك طريقا على ذروته إمام يدعو إلى النار، دخل فيها.
وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة، بين الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن شريعته تنهى عن الفحشاء والمنكر وتأمر بالمعروف، وتحذر من البغي والاستكبار والاختلاف، وتنادي بالعدل والإحسان والاستقامة، وتدعو إلى العمل الصالح والتفكر والتدبر والإصلاح والإخلاص، وإن منهج الدعوة عموده الفقري هو التوحيد، وشجرته الأخلاق الفاضلة، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.
وعلم أهل الكتاب وغيرهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. وقال تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (7)، ولقد أختبر الله تعالى الفرع الإسرائيلي من الشجرة الإبراهيمية. وبعث فيهم الأنبياء والرسل لينظر سبحانه كيف تعمل القافلة، وعلم أهل الكتاب كيف سارت القافلة. وبماذا حكم الله عليها.
وهذا الحكم يقرؤه فيما بين أيديهم من التوراة الحاضرة، ومنه قول الرب لهم " ها أنذا أنساكم وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآبائكم إياها. وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسى " (8)، وقال: " هوذا من أجل آثامكم بعتم. ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم " (9)، وبين هذا الحكم وبين البعثة الخاتمة. قتلوا الأنبياء الذين بعثهم الله لإقامة الحجة على الأجيال المتعاقبة، وعندما جفت المسيرة من الماء. بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ليختبر الله تعالى بمنهجه أمة جديدة في مقدمة عالم جديد.
وببعثة النبي الخاتم. حكمت الدعوة الإلهية حكمها الفصل على قصة الميراث. التي سهر عليها بني إسرائيل ليلا طويلا، وذلك ببسط الدعوة يدها على المسجد الحرام والمسجد الأقصى في رحلة واحدة في ليلة واحدة، قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) (10)، فالميراث بدأت حدوده من موضع سجود. وانتهت إلى موضع سجود، وهو ممتد إلى كل موضع سجود، وليس معنى هذا أن الدعوة الخاتمة تبحث عن الأرض والطين، وإنما معناه أنها ترعى التقوى في أي مكان وتعمل من أجل الاصلاح في كل مكان، ترعى التقوى لأن العاقبة للمتقين، وتعمل من أجل الاصلاح حتى يرث الصالحون، قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (11).
ولأن الدعوة تقوم على التوحيد، ولأن التوحيد هو الحصن الحصين الذي يحفظ الإنسان من الزلل، قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " والذي نفس محمد بيده. لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به. إلا كان من أصحاب النار " (12)، وروي أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ذهب إلى يهود. وقال لهم " يا معشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال " أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم فقال " ذلك أريد " (أي: أريد أن تعرفوا أني بلغت) ثم قال لهم " إعلموا إنما الأرض لله ولرسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله " (13) فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بلغ بالإسلام، ولكن القوم كانت عيونهم على الأرض والطين، لأنهم من أجل هذا الميراث يعملون، فوقفوا بما يعتقدون أمام القول الفصل وهو " إعلموا أن الأرض لله ورسوله ". ولم يكن الجلاء من جزيرة العرب عقابا وحيدا للذين يصدون عن سبيل الله، وإنما أنذرهم الله بعقاب أليم في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها على أدبارها. أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمرا مفعولا) (14). قال في الميزان: دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه، وطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة، وهذا المحو ليس هو المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها، بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها، فإذا كانت الوجوه تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإن الوجوه المطموسة لا تقصد إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه ودنياه لم ينل إلا شرا وفسادا، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس بفالح أبدا، وقوله تعالى: (نطمس وجوها) فيه أنه تعالى أتى بالجمع المنكر، ولو كان المراد الجميع لم ينكر، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها هدف من ورائه حكمة، هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد وهو إبعاد للجماعة بشر لا يلحق إلا ببعضهم، كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الانذار والتخويف، لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب (15).
حذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين كفروا من أهل الكتاب، لأن الدعوة تقيم وجهها للدين وتتجه بالبشرية إلى الأمام.
وتمدها على امتداد الطريق بالزاد الفطري الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، بينما تتقدم قافلة الذين كفروا إلى الخلف بزاد عذاب الطمس الذي ضربه الله عليهم بما كسبت أيديهم، وعلى امتداد هذا الطريق. كلما بالغ أصحابه في التقدم زادوا في التأخر ولن يحصلوا على السعادة الحقيقية أبدا.
ومن الآيات التي حذر فيها الله من الذين كفروا من أهل الكتاب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (16). قال في الميزان:
نهى عن مودتهم الموجبة إلى تجاذب الأرواح والنفوس، لأن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق. إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية، وقوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) أي لتضارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم. المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى والاستكبار عن الحق وقبوله، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة الملية، لكن يبعث القوم على الاتفاق ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق. ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا، فهذا هو الذي جعل الطائفتين اليهود والنصارى على ما بينهما من الشقاق والعداوة مجتمعا واحدا، يقترب بعضه من بعض ويرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود النصارى وبالعكس. ويتولى بعض اليهود بعضا وبعض النصارى بعضا، وبالجملة: لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يدا واحدة عليكم. لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة، وربما أمكن أن يستفاد من قوله " بعضهم أولياء بعض " معنى آخر وهو:
أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذين هم أولياؤكم على البعض الآخر، ولا ينفعكم ذلك. فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم (17).
ومن آيات التحذير أيضا قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) (18) قال في الميزان: أي أنك ترى اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب. أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم، يشترون الضلالة وتختارونها على الهدى ويريدون أن تضلوا السبيل، فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه. وظهروا لكم في زي الصلاح. واتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين. فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم، لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، والله أعلم منكم بأعدائكم.
وهم أعداؤكم، فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم، فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءكم وأنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم (19).
ومنها قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك عن الله من ولي ولا نصير) (20)، قال في الميزان:
أي. إن هؤلاء ليسوا براضين عنك حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثم أمر الله رسوله بالرد عليهم بقوله " قل إن هدى الله هو الهدى " أي إن الاتباع إنما هو لفرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله، أما غيره وهو ملتكم ليس بالهدى، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة (21)، وقال ابن كثير: وقوله تعالى:
(ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم... الآية) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طريق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة، والخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله " حتى تتبع ملتهم " حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة (22).
وبالجملة: حذر الله تعالى الأمة من تنظيمات أهل الكتاب.
التي لها أهداف قريبة وأهداف بعيدة، والتي يحمل أعلامها الفرق المختلفة والطوائف المختلفة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) (23) قال المفسرون: يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا فريقا من أهل الكتاب. الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم) (24)، وهكذا قال ههنا (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) وفي آية أخرى قال تعالى:
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) (25).
وباختصار: فالقاعدة العريضة منهم ودوا لو يردون الذين آمنوا من بعد إيمانكم كفارا، وهناك فرق حملت أعلام هذه القاعدة وانطلقت رجاء تنفيذ هذا الهدف، وهناك طائفة من أهل الكتاب مهمتها إطفاء الأنوار رغبة منها في أن تضل قافلة الذين آمنوا عن الطريق، والمعنى:
أن الطائفة في خدمة الفريق والفريق في خدمة القاعدة. وليس معنى هذا إن قاعدة أهل الكتاب خالية من العلماء الذين يبحثون عن الحقيقة.
فهؤلاء أثر أقدامهم على الطريق. والإسلام لم يغلق أبوابه أمام الذين يريدون الاستبصار منهم في الدين، وقد أمر الله تعالى بمجادلتهم بالتي هي أحسن. فقال تعالى في آية محكمة (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظالموا منهم) (26) وقوله: (إلا الذين ظلموا منهم) يعني أهل الحرب، وذكر تعالى في كتابه. إن الذين قالوا أنهم من أتباع عيسى عليه السلام وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله، وما ذاك إلا لما في قلوبهم من الرقة والرحمة، ويوجد فيهم قسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم ورهبانا، من صفتهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع والانقياد للحق واتباعه والإنصاف، وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم). ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قال تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) (27)، فهذا الصنف من النصارى كان أول ظهوره بالحبشة في النجاشي وأصحابه، وهم المذكورين في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله) (28)، وهم الذين قال الله فيهم (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) (29)، ومنذ أيام النجاشي وعلى امتداد المسيرة الإسلامية، لم تغلق الدعوة أبوابها في وجوه الذين يريدون الاستبصار في الدين، لأن الله تعالى أمر رسوله الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم). أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. والموعظة الحسنة ليحذروا بأس الله تعالى، وأمره تعالى أن من احتاج من الناس إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.
فمن هذه النصوص ومن غيرها نعلم أن الدعوة الإلهية الخاتمة حذرت من اتباع أي مشروع تقدمه الطوائف أو الفرق التي تهدف من وراء برامجها الصد عن سبيل الله، وفي نفس الوقت فتحت الدعوة أبوابها للباحثين عن الحقيقة من أهل الكتاب لتقيم الحجة عليهم وعلى غيرهم في كل مكان وزمان..
المصادر :
1- سورة الحديد آية 26
2- سورة الأنبياء آية 25
3- سورة البقرة آية 131،132
4- سورة آل عمران آية 162
5- سورة النحل آية 123
6- سورة الأنعام آية 162
7- سورة الأعراف آية 128
8- أرميا 23 / 40
9- أرميا 17 / 2 - 4
10- سورة الإسراء آية 1
11- سورة الأنبياء آية 105
12- رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).
13- رواه مسلم (الصحيح 159 / 5).
14- سورة النساء آية 47.
15- الميزان 367 / 4
16- سورة المائدة آية 51
17- تفسير الميزان 373 / 5
18- سورة النساء آية 45
19- الميزان 363 / 4
20- سورة البقرة آية 120
21- الميزان 265 / 1
22- ابن كثير في التفسير 163 / 1
23- سورة آل عمران آية 100
24- سورة البقرة آية 109
25- سورة آل عمران آية 69
26- سورة العنكبوت آية 46
27- سورة المائدة آية 82
28- سورة آل عمران آية 199
29- سورة القصص آية 52
source : rasekhoon