فلما أقبلت الخيل و اصطفوا و عبأ رسول الله ص أصحابه دفع الراية إلى أمير المؤمنين ص فحملت الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة و وقع أصحاب رسول الله في سوادهم و انحط خالد بن الوليد في مائتي فارس، فلقي عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجعوا و نظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله ينهبون سواد القوم، قالوا لعبد الله بن جبير تقيمنا هاهنا و قد غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة، فقال لهم عبد الله اتقوا الله فإن رسول الله ص قد تقدم إلينا أن لا نبرح فلم يقبلوا منه و أقبل ينسل رجل فرجل حتى أخلوا من مركزهم و بقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا، و قد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العدوي من بني عبد الدار فبرز و نادى يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار و نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إلي، فبرز إليه
أمير المؤمنين ع يقول
يا طلح إن كنت كما تقول لنا خيول و لكم نصول
فاثبت لننظر أينا المقتول و أينا أولى بما تقول
فقد أتاك الأسد الصئول بصارم ليس به فلول
بنصرة القاهر و الرسول
. فقال طلحة من أنت يا غلام قال أنا علي بن أبي طالب قال قد علمت
تفسيرالقمي ج : 1 ص : 113
يا قضيم أنه لا يجسر علي أحد غيرك، فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أمير المؤمنين ع بالجحفة ثم ضربه أمير المؤمنين ع على فخذيه فقطعهما جميعا فسقط على ظهره، و سقطت الراية، فذهب علي ع ليجهز عليه فحلفه بالرحم فانصرف عنه فقال المسلمون ألا أجهزت عليه قال قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبدا، و أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي ع و سقطت الراية على الأرض، فأخذها شافع [مسافع] بن أبي طلحة فقتله علي (ع) فسقطت الراية إلى الأرض فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي (ع) فسقط الراية إلى الأرض فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله علي (ع)، فسقطت الراية إلى الأرض، و أخذها أبو عذير بن عثمان فقتله علي (ع) و سقطت الراية إلى الأرض فأخذها عبد الله بن أبي جميلة بن زهير فقتله علي (ع) و سقطت الراية إلى الأرض، فقتل أمير المؤمنين ع التاسع من بني عبد الدار، و هو أرطاة بن شرحبيل مبارزة و سقطت الراية إلى الأرض، فأخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين ع على يمينه فقطعها و سقطت الراية إلى الأرض فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين ع على شماله فقطعها و سقطت الراية إلى الأرض، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ثم قال يا بني عبد الدار هل أعذرت فيما بيني و بينكم فضربه أمير المؤمنين ع على رأسه فقتله، و سقطت الراية إلى الأرض، فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها. و انحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير و قد فر أصحابه و بقي في نفر قليل فقتلوهم على باب شعب و استعقبوا المسلمين فوضعوا فيهم السيف، و نظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها و أقبل خالد بن الوليد يقتلهم، فانهزم
تفسيرالقمي ج : 1 ص : 114
أصحاب رسول الله ص هزيمة قبيحة و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كل وجه، فلما رأى رسول الله ص الهزيمة كشف البيضة عن رأسه و قال «إني أنا رسول الله إلى أين تفرون عن الله و عن رسوله».
و حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله ع أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي ع يا قضيم، قال إن رسول الله ص كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب و اغروا به الصبيان و كانوا إذا خرج رسول الله ص يرمونه بالحجارة و التراب فشكا ذلك إلى علي ع فقال بأبي أنت و أمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك فخرج رسول الله ص و معه أمير المؤمنين ع فتعرض الصبيان لرسول الله ص كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين ع و كان يقضمهم في وجوههم و آنافهم و آذانهم فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم و يقولون قضمنا علي قضمنا علي فسمى لذلك «القضيم»
و روي عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال كنت أماشي فلانا إذ سمعت منه همهمة، فقلت له مه، ما ذا يا فلان قال ويحك أ ما ترى الهزبر القضم بن القضم، و الضارب بالبهم، الشديد على من طغى و بغى، بالسيفين و الراية، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب، فقلت له يا هذا هو علي بن أبي طالب، فقال ادن مني أحدثك عن شجاعته و بطولته، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفر و من فر منا فهو ضال و من قتل منا فهو شهيد و النبي زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا
تفسيرالقمي ج : 1 ص : 115
فرأيت عليا كالليث يتقي الذر [الدر] و إذ قد حمل كفا من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال شاهت الوجوه و قطت و بطت و لطت، إلى أين تفرون، إلى النار، فلم نرجع، ثم كر علينا الثانية و بيده صفيحة يقطر منها الموت، فقال بايعتم ثم نكثتم، فو الله لأنتم أولى بالقتل ممن قتل، فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان نارا، أو كالقدحين المملوين دما، فما ظننت إلا و يأتي علينا كلنا، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت يا أبا الحسن الله الله، فإن العرب تكر و تفر و إن الكرة تنفي الفرة، فكأنه ع استحيا فولى بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي، فو الله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة». و لم يبق مع رسول الله ص إلا أبو دجانة الأنصاري، و سماك بن خرشة و أمير المؤمنين ع، فكلما حملت طائفة على رسول الله ص استقبلهم أمير المؤمنين فيدفعهم عن رسول الله و يقتلهم حتى انقطع سيفه،
شجاعة امرأة في أحد
و بقيت مع رسول الله ص نسيبة بنت كعب المازنية، و كانت تخرج مع رسول الله (ص) في غزواته تداوي الجرحى، و كان ابنها معها فأراد أن ينهزم و يتراجع، فحملت عليه فقالت يا بني إلى أين تفر عن الله و عن رسوله فردته، فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول الله (ص) بارك الله عليك يا نسيبة و كانت تقي رسول الله (ص) بصدرها و ثدييها و يديها حتى أصابتها جراحات كثيرة، و حمل ابن قميتة [قمية] على رسول الله ص فقال أروني محمدا لا نجوت إن نجا محمد، فضربه على حبل
تفسيرالقمي ج : 1 ص : 116
عاتقه، و نادى قتلت محمدا و اللات و العزى، و نظر رسول الله (ص) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره و هو في الهزيمة، فناداه «يا صاحب الترس ألق ترسك و مر إلى النار» فرمى بترسه، فقال رسول الله (ص) يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس و كانت تقاتل المشركين، فقال رسول الله (ص) «لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان و فلان».
فلما انقطع سيف أمير المؤمنين ع جاء إلى رسول الله (ص) فقال يا رسول الله إن الرجل يقاتل بالسلاح و قد انقطع سيفي فدفع إليه رسول الله ص سيفه «ذا الفقار» فقال قاتل بهذا، و لم يكن يحمل على رسول الله (ص) أحد إلا يستقبله أمير المؤمنين ع، فإذا رأوه رجعوا فانحاز رسول الله (ص) إلى ناحية أحد، فوقف و كان القتال من وجه واحد و قد انهزم أصحابه فلم يزل أمير المؤمنين (ع) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه و رأسه و صدره و بطنه و يديه و رجليه تسعون جراحة فتحاموه، و سمعوا مناديا ينادي من السماء «لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي» فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) فقال «هذه و الله المواساة يا محمد» فقال رسول الله ص «لأني منه و هو مني» و قال جبرئيل «و أنا منكما».