بعد وفاة النبي الاکرم صلی الله عليه وآله وسلم انقسم المسلمون إلى قسمين رئيسين، وكل قسم من هذين القسمين يزعم أنه على الحق المبين:
1 - التاريخيون: وهم الذين سوغوا ما جرى في التاريخ السياسي الإسلامي واعتبروه شرعيا من كل الوجوه، وبشكل خاص عهد الخلفاء الراشدين، ويعرفون بأهل السنة، واصطلاح التسنن وأهل السنة نشأ في العهد الأموي، وبالتحديد في زمن معاوية حيث انتصرت القوة على الشرعية، واستقر الأمر نهائيا لمن غلب، ودانت الأكثرية الساحقة لهذا الغالب. ومن هنا سمي ذلك العام بعام الجماعة، وسمي الذين دانوا لمن غلب بالجماعة وهم حزب الدولة، فهم وإن اختلفوا معها في بعض المواقف إلا أن السمة الغالبة هي موالاة الدولة، لأن بيدها الأرزاق، فهي تعطيها لهم وتمنعها عمن يوالي غيرها، ومن جهة ثانية فإنهم قد اعتبروا الدولة رمزا لوحدة المسلمين.
2 - الشرعيون: وهم الذين عارضوا ما جرى في التاريخ واعتبروه غير شرعي مع اختلاف بحجم المعارضة ونسبة الخروج على الشرعية. فعصر الخلفاء الراشدين عصر ذهبي بالنسبة لعصر بني أمية، ولا مجال للمقارنة بين العصرين. وعصر بني العباس أكثر سوءا من العصر الأموي، وهم يعتقدون أن العقيدة الإلهية عينت المرجع بعد وفاة النبي، وأن الله لم يترك الأمر سدى، إنما رشح المرجعية للناس وحولها صلاحية الجمع بين الحكم والمرجعية، وأن المرجع المعين شرعا بعد وفاة النبي هو علي بن أبي طالب (عليه السلام). وقد رتب الشرع طريقة تعيين المرجعية بنص كل مرجع على الذي يليه، ويعرفون بالشيعة. وقد نشأ التشيع في زمن النبي، والشيعة هم حزب المعارضة طوال التاريخ، وقد طوردوا من قبل الحكام طوال العهدين الأموي والعباسي خاصة، وحرموا من كافة حقوقهم، ولم تقبل شهاداتهم، وشطبت أسماؤهم من دواوين العطاء، ولاحقتهم لعنة الحكام طوال التاريخ.
وسنقوم ببيان رأي الفريقين بالمرجعية بعد وفاة النبي وإيراد حجة كل واحد منهما تباعا.
من هو المرجع بعد وفاة النبي ؟
رأي أهل السنة
زعم ترك النبي الأمة بدون خلف ولا مرجعية
يقول أهل السنة أن النبي قد ترك الأمة بدون خلف ولا مرجعية، وأنه لم يبين للمسلمين الإمام أو الولي الذي سيخلفه من بعده ويقوم بوظائفه الدنيوية والأخروية، ومنها المرجعية من بعده. وقد استدلوا على ذلك برد الخليفة عمر بن الخطاب على الذين أشاروا عليه أن يستخلف من بعده على المسلمين فقال: " إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني " يعني أبا بكر " وإن أدع فقد ودع من هو خير مني " يعني النبي (صلى الله عليه وآله) (1).
ثم إن النبي برأيهم لم يوص لأحد قط بأن يقوم بوظائفه الدنيوية والأخروية، ومنها المرجعية من بعده، ويستدلون على ذلك بقول السيدة أم المؤمنين عائشة " بأن النبي مات بين سحرها ونحرها ورأسه على فخذها، ولو أنه قد أوصى لسمعته ".
ومن هنا فقد أنكر بخاري ومسلم الوصية بهذا الشأن مستندين إلى قول أم المؤمنين.
ومن المؤكد حسب رأيهم أن النبي إذا بين هذا الإمام والولي والمرجعية من بعده فإنه قطعا ليس عليا بن أبي طالب كما تزعم الشيعة، لأنه لو كان عليا لما كان من المعقول أن يتجاهل الصحابة الكرام بيان النبي هذا ويولوا ويوالوا غيره، لماذا ؟
لأنهم عدول ومن أهل الجنة ومن يشك بترتيب الخلفاء (أبا بكر وعمر وعثمان وعلي) فقد أزرى على 12 ألف صحابي (2).
والخلاصة أن النبي ترك ولاية وإمامة المسلمين ومرجعية الدين للمسلمين أنفسهم على اعتبار أن خلافة النبي شأن من شؤون المسلمين، والإمامة والمرجعية تتبعان بالضرورة لرئاسة الدولة.
تلاشي عملية ترك الأمة بدون مرجع
وقد اكتشف أهل السنة أن ترك الإمام القائم الأمة دون أن يسمي وليا للعهد من بعده خطر ماحق ما بعده خطر، وأن من مصلحة المسلمين ومصلحة الإسلام أن يقوم الحاكم باختيار ولي عهده ليخلفه من بعده.
أنظر إلى قول السيدة عائشة مخاطبة عبد الله بن عمر: " يا بني أبلغ عمر، سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة ". فأتى عبد الله فأعلم الخليفة بما قالت أم المؤمنين (3).
لقد أصابت أم المؤمنين لأن ترك الأمة بدون راع ولا مرجعية يؤدي للفتنة ويترك الناس هملا.
وقد انتبه لهذه الناحية ابنه عبد الله بن عمر فدخل عليه وهو يجود بنفسه، فقال: يا أمير المؤمنين، استخلف على أمة محمد، فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله وغنمه لا راعي لها للمته وقلت له: كيف تركت أمانتك ضائعة ؟.
فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد ؟ فأجابه الفاروق بمقالته السابقة " إن أدع فقد ودع من هو خير مني... الخ " (4).
وأمكن تلاشي عملية ترك النبي للأمة بدون مرجع عن طريق ما عرف بولاية العهد، وذلك بأن يقوم الخليفة أو الإمام أو رئيس الدولة القائم كائنا من كان بتعيين من يتولى أمور المسلمين من بعده، لأن الإمام أو الخليفة أو رئيس الدولة الإسلامية القائم كائنا من كان هو ولي الأمة والأمين عليها، ينظر للأمة في حال حياته، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته، ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها، ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به في ما قبل، وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده. إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر.
وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة... (5) وقد شرعت ولاية العهد بسبب فعل أبي بكر وعمر وعدم معارضة الصحابة لهم مما جعلها وليدة الاجماع، والإجماع سند شرعي كما يرى ابن خلدون، وذلك حرصا على وحدة المسلمين ومصلحتهم وهروبا من الفتنة، وحتى لا تبقى أمة محمد هملا بغير راع على حد تعبير السيدة عائشة أم المؤمنين (6)، وتجنبا للوم على حد تعبير عبد الله بن عمر بن الخطاب (7).
ويبدو أن الإمام الوحيد برأي أهل السنة الذي لم يسم خليفته، ولم يتخذ وليا للعهد هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فهو بالمفهوم عند ابن خلدون:
ينظر للناس عند حياته، ويتبع ذلك أن لا ينظر لهم بعد وفاته، بعكس بقية الخلفاء، أو رؤساء الدول الإسلامية حيث ينظر الواحد منهم عند حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته.
(8) والخلاصة أن الصحابة الكرام اكتشفوا بعد طول معاناة أن ترك الأمة دون بيان المرجع والإمام وولي العهد دمار محقق، وأن الوصية والتسمية أفضل لمصلحة المسلمين فشرعوها، أو هكذا صور.
والأهم من ذلك أن الشريعة الإسلامية شريعة سماوية، وقد بينت كل شئ أجمله القرآن الكريم أو فصله، وبينه الرسول ودعمه، وخلو الدين من هذا الأمر الجوهري يناقض كمال الدين وتمام النعمة، خاصة وأن الرسول قد خير واختار الموت، ومرض قبل الموت، وعرف أنه ميت في مرضه ذاك. ثم إن الله قد قذف في قلبه محبة هذه الأمة، وجعله بالمؤمنين رؤوفا رحيما، وأطلعه على مستقبل هذه الأمة، فهل من الممكن عقلا أن يموت الرسول دون أن يبين للناس من هو المرجع من بعده ؟ ومن هو خليفته ؟ كيف تفوته هكذا أمور فيتلاشاها أبو بكر وهو ليس نبيا، وعمر وهو ليس نبيا ؟ وتحس بخطورتها عائشة أم المؤمنين وهي امرأة وليست نبيا، فتحض عمر على الاستخلاف وتقول: استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا!!
هذا أمر غير وارد قطعا، تدحضه النصوص الشرعية القاطعة وتكذبه، بالرغم من تقديرنا للواقع التاريخي الذي ساد.
فأهل السنة تشبثوا بكل شئ ليبرروا هذا الواقع الذي حدث. تشبثوا بالنص، وعندما خذلهم النص تشبثوا بالإفتراض، وعندما انهار الافتراض تشبثوا بالشورى وعندما انهارت الشورى تشبثوا بالرأفة بالمسلمين والحرص على مصلحتهم ووحدتهم ومستقبلهم حتى لا يتركوا هملا وبلا راع. واستقروا بعد طول ترحال على مبدأ أن الإمام القائم أو الخليفة القائم هو الذي يسمي من يليه، أي يحدد للأمة الشخص الذي عليها أن تبايعه.
المرجع بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم عند أهل السنة
الخليفة أو الإمام أو رئيس الدولة الإسلامية، القائم مقام النبي هو المرجع الديني والدنيوي معا، كيف لا وهو خليفة رسول الله. فما كان الرسول يقوم به يقوم به الخليفة. فهو ينظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم، وهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته، ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل (9)، فهو يملك كافة الاختصاصات التي كان يختص بها النبي وكافة الصلاحيات المخولة للنبي كإمام وكولي للأمة. وقد أفردنا فصلا في كتاب النظام السياسي لهذه الاختصاصات ونقلنا قول صاحب كتاب نظام الحكم المرحوم ظافر القاسمي حيث قال: إن اختصاصات الخليفة تشمل جميع الشؤون الداخلية والخارجية والعسكرية، وإن أعباءه تقع عليه وحده، وإنه إذا فوض شيئا منها فإن ذلك لا يسقط حقه الأصيل بممارستها (10).
ولقد حاول الإمام الماوردي أن يكشف ويحدد هذه الاختصاصات على الصفحتين 15 و 16 من الأحكام، وكذلك الفراغ على الصفحة 11. ولقد لخصنا هذه المحاولة في كتابنا " النظام السياسي " ص 194. والمرجعية الدينية تابعة بالضرورة لرئاسة الدولة، لأن رئيس الدولة هو خليفة النبي، والنبي كان هو المرجع الديني والدنيوي معا. فما كان يمارسه النبي يمارسه الخليفة، لأنه هو القائم مقام النبي في كل أمر من الأمور عدا النبوة، بل إن هنالك أمور دخلت باختصاصهم وقالوا بأن النبي نفسه لم يمارسها وهي ولاية العهد. فالنبي ترك الأمة بدون راع وبدون ولي وبدون مرجع وبدون إمام برأيهم، ثم قام أبو بكر بمبادهة منه وتشجيع من أكابر الصحابة باتخاذ عمر وليا لعهده وتوليته خليفة من بعده. ثم جاء عمر فعهد لستة، ومن يدقق بالعهد يكتشف أنه عهد عمليا لعثمان، لأن عثمان كان يعرف بالرديف، والرديف بلسان العرب هو الرجل الذي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم (11).
ومن جهة ثانية فإن طلحة كان غائبا، فلو وقف الزبير وطلحة وعلي في صف، ووقف الثلاثة الآخرون في صف عثمان لكان عثمان هو الخليفة لأن التنفيذ الحرفي لوصية الفاروق يؤدي حتما لاستخلاف عثمان - دقق بكل المصادر ستصل إلى هذه النتيجة.
وفي خلافة بني أمية كان رئيس الدولة هو الذي يسمي خليفته على الغالب، أو كان الغالب هو الخليفة وهو المرجع وهو الذي يعين المرجع من بعده. وفي خلافة بني العباس كان الأمر كذلك، وفي خلافة بني عثمان كان الأمر كذلك.
وهذا المبدأ - أي أن الخليفة هو المرجع وأنه هو صاحب الحق بتولية الخليفة الذي يليه ليكون خليفة من بعده ومرجعا - سنه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ونسج الخلفاء على منوالهما. والفرق أن أبا بكر وعمر كانا يتوخيان أن لا يسند هذا الأمر لقريب لهما، بينما كانت الأمور فيما بعد عكس ذلك، وقد جرت العادة فيما بعد واستقرت على أن يسمي رئيس الدولة الحالي خليفته من بعده ويرشحه للأمة. وقد صور هذا الأمر كأنه حق للخليفة القائم، وقد فهم كثير من علماء أهل السنة ذلك ومنهم ابن خلدون إذ يقول بالحرف: إن الإمام ينظر للناس في حال حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته.
الحاكم القائم هو المرجع عند أهل السنة
أهل السنة يعتبرون الخليفة الذي يتولى رئاسة الدولة ويمارسها بالفعل هو المرجع بالذات في كل الأمور الدينية والدنيوية. فأبو بكر هو المرجع الأعلى في زمانه، وعمر هو المرجع الأعلى في زمانه، وعثمان ومعاوية ويزيد ومروان بن الحكم... الخ كل واحد منهم يقوم بدور ومهمة المرجعية في زمانه. وينطبق هذا الوصف على خلفاء بني العباس وبني عثمان. فكل واحد منهم مرجع في زمانه، هو بالذات أو من يوكل له هذه المهمة. فالعبرة بالمرجعية الفعلية هو الغلبة. فالحاكم الغالب على الأمة هو وليها وإمامها ومرجعها في كافة الشؤون الدينية والدنيوية.
ذكر أبو يعلى العز فقال: روي عن الإمام أحمد ما دل على أن الخلافة تثبت بالغلبة والقهر، ولا تفتقر إلى العقد. فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أم فاجرا. وقال في رواية أبي الحارث في الإمام يخرج عليه: من يطلب الملك فيكون مع هؤلاء قوم ومع هذا قوم (تكون الجماعة مع من غلب) وذلك إعمالا للقاعدة الشرعية التي وضعها عبد الله بن عمر بن الخطاب عندما صلى بأهل المدينة يوم الحرة وقال للناس: نحن مع من غلب والناس يبايعون الغالب.
ألا ترى كيف انتهت الأمور واقعيا بالنظام السياسي الإسلامي. فعلى الأمة أن تبايع الغالب بغض النظر عن دينه وصفاته، وبغض النظر عن موقف الشرع منه، بل أصبحت تلك المقولات جزءا من الشريعة السياسية.
والخلاصة أن الحاكم القائم الغالب هو المرجع في كافة شؤون الأمة عند أهل السنة.
من الذي يقوم مقام الحاكم في المرجعية
ما دام الحاكم حيا وغالبا فهو المرجع الأعلى للأمة في كافة شؤونها الدينية والدنيوية. وقبل أن ينتقل هذا الحاكم إلى جوار ربه ولو كان في النزع الأخير يعين للأمة إماما ووليا ومرجعا لها من بعده، وهو أهل لذلك ومخول بذلك. ولم لا ؟
فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم في ذلك في حياته، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل. وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة إذ وقع بعهد أبي بكر لعمر بمحضر من الصحابة فأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر (12).
ونضيف: إن تولية معاوية ليزيد تمت بمحضر من بقي من الصحابة. فإذا عين الحاكم القائم خليفته ومرجعية الأمة من بعده تقوم الأمة عمليا بمبايعته، ومن يعارض الأمة فهو مفسد في الأرض.
وصلاحيات الخليفة القائم بتعيين من يخلفه صلاحيات مطلقة لا راد لها ومعللة بكونه موضع الثقة على حد تعبير ابن خلدون وأبو بكر على فراش الموت عهد إلى عمر وقال لكاتب عهده عثمان: لو كتبت لك لكنت أهلا لها (13).
ثم ها هو عمر وهو على فراش الموت أيضا يفكر بأمر المسلمين ويقلب الأمر على وجوهه المختلفة ويبحث عن الرجل الذي يستطيع أن يقوم مقامه فيقول: لو كان أبو عبيدة حيا وليته واستخلفته، ولو أدركت خالد بن الوليد استخلفته ووليته، ولو أدركت سالم مولى أبي حذيفة لاستخلفته.
ومعنى هذا أن سالم مولى أبي حذيفة لو كان حيا لكان بإمكانه أن يتسلم الخلافة مع أن سالم ليس قرشيا ولا يعرف له نسب في العرب، ومع هذا كان يؤم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء، كما يروي البخاري. وبالمناسبة إذا كانت خلافة سالم جائزة وهو الذي لم يعرف له نسب في العرب، فكيف لا تكون جائزة خلافة الأنصار، أليسوا أقرب عرقيا لرسول الله ؟ ثم ألم يحتج الثلاثة الذين حضروا السقيفة بأنهم أولى من الأنصار لأنهم أهل النبي وعشيرته. ثم ماذا تبقى من قاعدة الأئمة من قريش ؟ ثم كيف أن معاذ بن جبل من الأنصار وكان لا يجوز تولية الأنصار يوم السقيفة فكيف جازت فكرة تولية معاذ فيما بعد ؟ ثم إن خالدا قاتل الإسلام بكل فنون القتال حتى أسلم، وعلي قاتل مع الإسلام بكل فنون القتال، فبأي مبدأ يقدم خالد على علي ؟!.
وقيل لعمر: استخلف عبد الله بن عمر، ورفض عمر ذلك لسبب بسيط جدا وهو أن عبد الله بن عمر عجز عن طلاق امرأته كما قال عمر.
وتصور بربك أن عمر (رضي الله عنه) فكر أخيرا بأن يعهد بالخلافة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ولكن رهقته غشية. ألا ترى أن صلاحيات الخليفة القائم بتسمية ولي عهده أو إمام المستقبل من بعده في نظر أهل السنة صلاحيات مطلقة. ويجدر بالذكر أن ولاية العهد أصبحت جائزة ومشروعة في نظر علماء أهل السنة بسبب عهد أبي بكر لعمر وعهد عمر للستة أو عمليا لعثمان. وبعد أن تولى الأمويون رئاسة الدولة أصبح العهد هو الطريقة المتبعة على الأغلب في تولية الخليفة راجع مرض عمر وموته في تاريخ الطبري وفي طبقات ابن سعد وراجع ص 15 من الإمامة والسياسة.
وتعيين مرجع المستقبل، وهكذا الحالة في عهد العباسيين والعثمانيين، فإما عهد إلى الولد أو عهد لأحد أفراد الأسرة المالكة (14).
وأصبحت التسمية أو ولاية العهد أو مرجعية المستقبل أمرا شرعيا وذلك حرصا على مصلحة المسلمين. أنظر لقول أم المؤمنين: استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا، ثم انظر إلى رد عمر عليها: ومن تأمرني أن أستخلف ؟ فلو أمرته أم المؤمنين أن يستخلف أي شخص لفعل.
المرجعية الجماعية عند أهل السنة
قال ابن خلدون: إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر أدلته، بما تلقوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ممن سمعه منهم وعن عليتهم، وكانوا يسمون (القراء) أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة (15).
وبحلول العهد الأموي تكونت المقاطع الأساسية لنظرية عدالة كل الصحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي، فأصبح الصحابة جميعا وبدون استثناء وبدون مقدمات كلهم عدول، وكلهم من أهل الجنة ولا يدخل أحد منهم النار ، ولا يجوز عليهم الكذب، وتحولوا لمراجع دينية كل واحد منهم مرجع قائم بذاته ومستقل عن سواه، وإن أخذت من أي واحد منهم جاز.
فرأي أبي بكر شرع لأنه صحابي بالدرجة الأولى شأنه شأن كل الصحابة، فهو من العدول وكذلك رأي عمر، وكذلك رأي أي صحابي على الاطلاق.
يقول أبو حنيفة: إذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه، فإذا اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة الواحدة أخذت بقول من شئت وأدع من شئت (16).
وجاء في " أعلام الموقعين " لابن القيم: إن أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة: الأول النص، والثاني فتوى الصحابة، فعمل الصحابي على خلاف عموم القرآن دليلا على التخصيص وقول الصحابي بمنزلة عمله (17).
وبالمناسبة نذكر ثانية بأن سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) تعني القول والفعل والتقرير. وأنت تلاحظ أن لكل صحابي سنة قول وفعل وتقرير. أنظر إلى قوله " وقول الصحابي بمنزلة عمله ". فقول الصحابي يخصص عموم الكتاب (القرآن) ويقيد مطلقاته، وعمل الصحابي يخصص عموم الكتاب ويقيد مطلقاته. فأنت تلاحظ أن قول الصحابي يعامل كأنه وحي من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - والكارثة أي صحابي بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي فأبو بكر صحابي ومعاوية صحابي ومروان بن الحكم صحابي و عبد الله بن أبي سرح صحابي، والأربعة كما يتصور أهل السنة مراجع ونجوم، وبأي واحد منهم يجوز الاقتداء به والاهتداء.
والخلاصة أن لدى أهل السنة مرجعية جماعية. فكل واحد من الصحابة بلا استثناء مرجع قائم بذاته منزه، ممتنع عليه الكذب، ينطق بالحق المبين لأنه من أهل الجنة. ومن يشك بهؤلاء المراجع جميعا أو بأي واحد منهم فهو زنديق لا ينبغي أن يواكل أو يشارب أو يصلى عليه. وبعد أن انتقل الصحابة كلهم إلى جوار ربهم حل محلهم التابعون، وبانتقال التابعين إلى جوار ربهم حل محلهم العلماء من أهل السنة، والأحزاب التي تكونت عندهم.
كيف تعمل المراجع عند أهل السنة
بعد وفاة النبي وفي زمن الخلفاء الراشدين كان الخليفة هو المرجع الأعلى للمسلمين، فهو صحابي ومن العدول حقيقة وبنفس الوقت هو الخليفة، يسأل من يشاء من الصحابة ويأخذ برأيه أو برأي من يشاء. وغالبا ما كان يسأل أبو بكر وعمر القراء كعلي، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت... ولا تثريب عليه لو أخذ برأيه لأن المطلوب هو معرفة الحكم الشرعي. وفكرة عدالة الصحابة بالمعنى الذي طرحه الأمويون وروجوا له وأقروه لم تكن موجودة، والأكثرية الساحقة من الصحابة كانت أدوارهم بالمرجعية محدودة جدا بمعنى أنهم لم يكونوا مراجع.
ولم يختلف الأمر كثيرا في العهد الأموي، فمعاوية بوصفه صحابي " ومن العدول بعد أن تكرست نظرية عدالة الصحابة " أصبح هو المرجع الأعلى للمسلمين، ويمارس مرجعيته كما مارسها من سبقه بالخلافة، فله أن يسأل من يشاء ويأخذ برأي من يشاء وقد أفادته فكرة عدالة كل الصحابة لأنها جعلته من أهل الجنة وبررت له الجلوس محل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي مع أنه الطليق ابن الطليق، وبررت له أن يتمتع بنفس الصلاحيات بوصفه خليفة. وإذا تعددت آراء الذين سألهم معاوية أو الذين عرضوا عليه آراءهم فلمعاوية الحق بأن يأخذ ما يشاء ممن يشاء.
أما بالنسبة لطلاب العلوم فهم أحرار بقبول ما يرونه من آراء الصحابة في المسألة الواحدة إذا تعددت. وتتكرر الحالة مع التابعين، وتتكرر الحالة مع علماء المسلمين بعد التابعين، وتتكرر فيما يتصل بالأحزاب. وبعد زوال الخلافة الإسلامية أصبح كل عالم من علماء أهل السنة مرجعا قائما بذاته يفتي لنفسه ولأتباعه وأصبح كل حزب من الأحزاب العربية خاصة مرجعا قائما بذاته ومهمته منصبة على إثبات أنه على الحق، وتكثيف الجهود ليستحوذ وحده على السلطة في أي مصر يتواجد فيه.
المصادر :
1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 23 والطبري مجلد 3 ص 34 ومروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353.
2- الإصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 8 .
3- الإمامة والسياسة ص 23.
4- مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 والإمامة والسياسة ص 23 وتاريخ الطبري ص 34.
5- مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر.
6- الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 23.
7- مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353.
8- مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر.
9- مقدمة ابن خلدون دار الفكر ص 210.
10- النظام السياسي ص 187.(2) راجع الحكم للأستاذ ظافر القاسمي ص 353.
11- نظام الحكم للأستاذ ظافر القاسمي وقد نقلها عن الطبري ص 197 - 198.
12- مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر.
13- ص 429 ج 3 من تاريخ الطبري و ص 37 من سيرة عمر لابن الجوزي.
14- نظام الحكم للقاسمي ص 187 - 198.
15- طبقات ابن سعد ج 4 ص 168 وراجع آراء علماء المسلمين ص 50 وما فوق.
16- المستصفي للغزالي ص 135 - 136 وراجع آراء علماء المسلمين للسيد الرضوي ص 88.
17- المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي وراجع ص 87 .
source : rasekhoon