عربي
Wednesday 24th of July 2024
0
نفر 0

سياسة المامون وحاشيته

عندما تم الأمر للمأمون بالعراق على يد طاهر بن الحسين الخزاعي الذي فتح بغداد وقتل الأمين، وهرثمة بن أعين الذي فتح الكوفة وقضى على ثورة أبي السرايا، كان الذي يدير الأمر بمرو الفضل بن سهل، الذي يرى لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس دولة المأمون، فأراد أن يستفيد من هذه الدولة، ويستأثر بنفوذ الكلمة فيها، وليس يتم له ذلك والعراق بين يدي طاهر وهرثمة .
سياسة المامون وحاشيته

عندما تم الأمر للمأمون بالعراق على يد طاهر بن الحسين الخزاعي الذي فتح بغداد وقتل الأمين، وهرثمة بن أعين الذي فتح الكوفة وقضى على ثورة أبي السرايا، كان الذي يدير الأمر بمرو الفضل بن سهل، الذي يرى لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس دولة المأمون، فأراد أن يستفيد من هذه الدولة، ويستأثر بنفوذ الكلمة فيها، وليس يتم له ذلك والعراق بين يدي طاهر وهرثمة .
فأصدر أمرين على لسان المأمون: أولهما بتولية الحسن بن سهل جميع ما افتتحه طاهر من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن.
وكتب إلى طاهر أن يسلمه جميع ما بيده من الأعمال، وأن يشخص إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فلم يسع طاهرا إلا أن يسمع ويطيع، فسلم ذلك كله. والأمر الثاني كتب إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان، وبذلك يكون العراق قد خلا من منافسين قويين للفضل بن سهل.
مقتل هرثمة بن أعين:
لما فرغ هرثمة بن أعين من أمر أبي السرايا، أراد أن يتوجه إلى المأمون بمرو ليطلعه على حقيقة الحال، وما ينكره الناس عليه من استبداد الفضل بن سهل على أمره، ولم يكن ذلك مما يروق للفضل، فأفهم المأمون أن هرثمة قد أفسد البلاد، وأنه هو الذي دس إلى أبي السرايا حتى صنع ما صنع، ولو شاء أن لا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعل، لأنه كان من ضمن جنوده، وكان المأمون قد كتب لهرثمة كتابا من الطريق ليرجع ويلي الشام والحجاز، فأبى هرثمة أن يرجع حتى يرى المأمون ويبين له حقيقة الحال، فكان ذلك مما زاد المأمون وحشة منه، ولما بلغ هرثمة مرو خشي أن يكتم المأمون خبر قدومه، فضرب الطبول كي يسمعها المأمون، فلما سمعها سأل فقالوا: هرثمة جاء يبرق ويرعد، وظن هرثمة أن قوله المقبول، فأدخل على المأمون، وقد أشرب قلبه منه ما أشرب، فلم يسمع منه كلمة، وأمر به فوجئ عنقه، وديس بطنه، وسحب بين يديه، وقد تقدم الفضل إلى الأعوان بالتغليظ عليه والتشديد، فمكث في حبسه أياما، ثم دسوا إليه فقتلوه، وقالوا: إنه مات (1).
الموقف من ولاية العهد:
في سنة 201 هـ ‍أمر المأمون بلبس الأخضر بدلا عن الأسود، وكان السواد شعار العباسيين، والأخضر للعلويين، وكتب بذلك إلى عماله في جميع الأقطار، فشق ذلك على العباسيين، وعدوه - بالإضافة إلى ولاية العهد - محاولة جادة لتجريد العباسيين من جميع امتيازاتهم وشعاراتهم. فعندما بايع المأمون الرضا بولاية العهد في هذه السنة، ورد على عيسى بن محمد بن أبي خالد كتاب من الحسن بن سهل، يعلمه فيه بأن المأمون بايع للرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وأمر بطرح لبس الثياب السود، ولبس ثياب الخضرة، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ أهل بغداد بذلك جميعا.
فقال بعضهم: نبايع ونلبس الخضرة، وقال بعض: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس، وإنما هذا دسيس من الفضل بن سهل. وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع بعضهم إلى بعض، وقالوا: نولي بعضنا ونخلع المأمون، فبايعوا إبراهيم بن المهدي، وخلعوا المأمون، وذلك يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة سنة 201 هـ ‍(2).
وذكر أبو علي الحسين بن أحمد السلامي في (أخبار خراسان) أن المأمون لما بايع الرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وبلغ ذلك العباسيين ببغداد ساءهم، فأخرجوا إبراهيم بن المهدي، عم المأمون، المعروف بابن شكلة، وبايعوه بالخلافة .
الإمام (عليه السلام) ينقذ الموقف:
وكتب الفضل إلى الحسن بن سهل بمحاصرة بغداد، ووقعت الحرب بين أصحاب إبراهيم وأصحاب الحسن بن سهل، واختل الأمر في العراق، والمأمون لا يعلم بذلك، كان الفضل يخفي عنه الأخبار، ولا يخبره أحد خوفا من الفضل، فأخبره الرضا (عليه السلام) بذلك، وأشار عليه بالرحيل إلى بغداد (3).
قال الطبري: ذكر أن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم بايعوا لعمه إبراهيم ابن المهدي بالخلافة. فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل، وأن الناس ينقمون عليه مكانه ومكان أخيه ومكاني، ومكان بيعتك لي من بعدك.
فقال: ومن يعلم هذا، فسمى له أناسا من وجوه أهل العسكر، فسألهم فأبوا أن يخبروه حتى يكتب لهم أمانا بخطه ألا يعرض لهم الفضل، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن، وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه، وأن الفضل دس إليه من قتله، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد الخلافة إليه مزمومة، حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره، فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك، ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهر بن الحسين قد تنوسي في هذه السنين، منذ قتل محمد في الرقة، لا يستعان به في شيء من هذه الحروب، وقد استعين بمن هو دونه أضعافا، وسألوه الخروج إلى بغداد. فلما تحقق ذلك عنده، أمر بالرحيل إلى بغداد، فلما علم الفضل بن سهل ببعض ذلك تعنتهم، حتى ضرب بعضهم بالسياط، وحبس بعضا، ونتف لحى بعض، فعاوده علي بن موسى (عليه السلام) في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم، فأعلمه أنه يداري ما هو فيه (4).
وقال سبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص): قال علماء السير: فلما فعل المأمون ذلك شغبت بنو العباس ببغداد عليه، وخلعوه من الخلافة، وولوا إبراهيم بن المهدي، والمأمون بمرو، وتفرقت قلوب شيعة بني العباس عنه، فقال له علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): يا أمير المؤمنين، النصح لك واجب، والغش لا يحل لمؤمن، إن العامة تكره ما فعلت معي، والخاصة تكره الفضل بن سهل، فالرأي أن تنحينا عنك 15: حتى يستقيم لك الخاصة والعامة، فيستقيم أمرك (5).
مقدمات خروج المأمون إلى بغداد:
وروى الصدوق في (العيون) بسنده عن ياسر الخادم، قال: بينما نحن عند الرضا (عليه السلام) يوما، إذ سمعنا وقع القفل الذي كان على باب المأمون إلى دار أبي الحسن (عليه السلام)، فقال لنا أبو الحسن (عليه السلام): قوموا تفرقوا. فقمنا عنه، فجاء المأمون ومعه كتاب طويل، فأراد الرضا (عليه السلام) أن يقوم، فأقسم عليه المأمون بحق المصطفى أن لا يقوم إليه.
ثم جاء حتى انكب على أبي الحسن (عليه السلام)، وقبل وجهه، وقعد بين يديه على وسادة، فقرأ ذلك الكتاب عليه، فإذا هو فتح لبعض قرى كابل، فيه: إنا فتحنا قرية كذا وكذا، فلما فرغ قال له الرضا (عليه السلام): وسرك فتح قرية من قرى الشرك؟ فقال له المأمون: أو ليس في ذلك سرور؟
فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في أمة محمد، وما ولاك الله في هذا الأمر وخصك، فإنك قد ضيعت أمور المسلمين، وفوضت ذلك إلى غيرك، يحكم فيها بغير حكم الله عز وجل، وقعدت في هذه البلاد، وتركت بيت الهجرة، ومهبط الوحي، وإن المهاجرين والأنصار يظلمون دونك، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ويأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه، ويعجز عن نفقته، فلا يجد من يشكو إليه حاله، ولا يصل إليك. فاتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين، وارجع إلى بيت النبوة ومعدن المهاجرين والأنصار. أما علمت - يا أمير المؤمنين - أن والي المسلمين مثل العمود في وسط الفسطاط، من أراده أخذه.
قال المأمون: يا سيدي، فما ترى؟ قال: أرى أن تخرج من هذه البلاد، وتتحول إلى موضع آبائك وأجدادك، وتنظر في أمور المسلمين، ولا تكلهم إلى غيرك، فإن الله عز وجل سائلك عما ولاك. فقام المأمون فقال: نعم ما قلت يا سيدي، هذا هو الرأي، فخرج وأمر أن تقدم النوائب (6).
وبلغ ذلك ذا الرئاستين، فغمه غما شديدا، وقد كان غلب على الأمر، ولم يكن للمأمون عنده رأي، فلم يجسر أن يكاشفه، ثم قوي بالرضا (عليه السلام) جدا، فجاء ذو الرئاستين إلى المأمون، وقال له: يا أمير المؤمنين، ما هذا الرأي الذي أمرت به؟ فقال: أمرني سيدي أبو الحسن بذلك، وهو الصواب. فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا بصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وجميع أهل العراق، وأهل بيتك، ثم أحدثت هذا الحدث الثاني أنك جعلت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك، والعامة والفقهاء والعلماء وآل عباس لا يرضون بذلك، وقلوبهم متنافرة عنك، والرأي أن تقيم بخراسان حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسوا ما كان من أمر محمد أخيك، وها هنا - يا أمير المؤمنين - مشايخ قد خدموا الرشيد، وعرفوا الأمر، فاستشرهم في ذلك، فإن أشاروا به فأمضه. فقال المأمون: مثل من؟ قال: مثل علي بن أبي عمران، وابن مؤنس، والجلودي. وهؤلاء هم الذين نقموا بيعة أبي الحسن (عليه السلام)، ولم يرضوا به، فحبسهم المأمون.
فلما كان من الغد جاء أبو الحسن (عليه السلام) فدخل على المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، ما صنعت؟ فحكى له ما قاله ذو الرياستين، ودعا المأمون بهؤلاء النفر، فأخرجهم من الحبس، وأول من أدخل عليه علي بن أبي عمران، فنظر إلى الرضا (عليه السلام) بجنب المأمون، فقال: أعيذك بالله - يا أمير المؤمنين - أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم ويشردونهم في البلاد. فقال المأمون له: يا ابن الزانية، وأنت بعد على هذا! قدمه يا حرسي فاضرب عنقه، فضربت عنقه. وأدخل ابن مؤنس، فلما نظر إلى الرضا (عليه السلام) بجنب المأمون، قال: يا أمير المؤمنين، هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد من دون الله! فقال له المأمون: يا ابن الزانية، وأنت بعد على هذا! يا حرسي قدمه فاضرب عنقه، فضربت عنقه.
ثم أدخل الجلودي (7)، فلما كان في هذا اليوم وأدخل الجلودي على المأمون، قال الرضا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، هب لي هذا الشيخ. فقال المأمون: يا سيدي، هذا الذي آذی بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقام بسلبهن. فنظر الجلودي إلى الرضا (عليه السلام) وهو يكلم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه له، فظن أنه يعين عليه، لما كان الجلودي فعله، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في. فقال المأمون: يا أبا الحسن، قد استعفى، ونحن نبر قسمه. ثم قال: لا والله لا أقبل قوله فيك، ألحقوه بصاحبيه، فقدم فضربت عنقه (8).
ورجع ذو الرياستين إلى أبيه سهل، وقد كان المأمون أمر أن تقدم النوائب، فردها ذو الرياستين، فلما قتل المأمون هؤلاء علم ذوالرياستين أنه قد عزم على الخروج، فقال الرضا (عليه السلام): ما صنعت يا أمير المؤمنين بتقديم النوائب؟
فقال المأمون: يا سيدي، مرهم أنت بذلك. قال: فخرج أبو الحسن (عليه السلام) فصاح بالناس: قدموا النوائب. قال: فكأنما وقعت فيهم النيران، وأقبلت فيهم النوائب تتقدم وتخرج. وقعد ذو الرياستين في منزله، فبعث إليه المأمون فأتاه، فقال له: ما لك قعدت في بيتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك وعند العامة، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع وبيعة الرضا (عليه السلام)، ولا آمن السعاة والحساد وأهل البغي أن يسعوا بي، فدعني أخلفك بخراسان.
فقال له المأمون: لا نستغني عنك، وأما ما قلت: إنه يسعى بك، وتبغى لك الغوائل، فليس أنت عندنا إلا الثقة المأمون الناصح المشفق، فاكتب لنفسك ما تثق به من الضمان والأمان، وأكد لنفسك ما تكون به مطمئنا. فذهب وكتب لنفسه كتابا، وجمع عليه العلماء، وأتى به المأمون فقرأه، وأعطاه كل ما أحب، وكتب خطه فيه، وكتب له بخطه كتاب الحبوة (أي: العطاء): إني قد حبوتك بكذا وكذا من الأموال والضياع والسلطان، وبسط له من الدنيا أمله. فقال ذو الرياستين: يا أمير المؤمنين، يجب أن يكون خط أبي الحسن (عليه السلام) في هذا الأمان، يعطينا ما أعطيت، فإنه ولي عهدك. فقال المأمون: قد علمت أن أبا الحسن قد شرط علينا أن لا يعمل من ذلك شيئا، ولا يحدث حدثا، ولا نسأله ما يكرهه، فاسأله أنت، فإنه لا يأبى عليك في هذا.
فجاء واستأذن على أبي الحسن (عليه السلام)، قال ياسر: فقال لنا الرضا (عليه السلام): قوموا فتنحوا. فتنحينا، فدخل فوقف بين يديه ساعة، فرفع أبو الحسن (عليه السلام) رأسه، فقال: ما حاجتك، يا فضل؟ قال: يا سيدي، هذا أمان كتبه لي أمير المؤمنين، وأنت أولى أن تعطينا ما أعطانا أمير المؤمنين، إذ أنت ولي عهد المسلمين. فقال له الرضا (عليه السلام): اقرأه، وكان كتابا في أكبر جلد، فلم يزل قائما حتى قرأه، فلما فرغ قال له أبو الحسن (عليه السلام): يا فضل، لك علينا هذا ما اتقيت الله عز وجل. قال ياسر: فنقض عليه أمره في كلمة واحدة، فخرج من عنده، وخرج المأمون وخرجنا مع الرضا (عليه السلام) (9).
خروج المأمون والرضا (عليه السلام) من مرو ومقتل ذي الرياستين:
وعن ياسر الخادم، قال: لما عزم المأمون على الخروج من خراسان إلى العراق، خرج معه الفضل، وخرجنا مع الرضا (عليه السلام)، فورد على الفضل كتاب من أخيه الحسن ونحن في بعض المنازل: إني نظرت في تحويل السنة، فوجدت فيه أنك تذوق في شهر كذا وكذا يوم الأربعاء حر الحديد وحر النار، وأرى أن تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا (عليه السلام) في ذلك اليوم الحمام، وتحتجم فيه، وتصب على بدنك الدم ليزول عنك نحسه. فكتب الفضل إلى المأمون بذلك، وسأله أن يسأل الرضا (عليه السلام) ذلك. فكتب المأمون إلى الرضا (عليه السلام)، فأجابه: لست داخلا الحمام غدا. فأعاد إليه الرقعة مرتين، فكتب الرضا (عليه السلام): لست داخلا الحمام غدا، فإني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه الليلة، فقال لي: يا علي، لا تدخل الحمام غدا، فلا أرى لك - يا أمير المؤمنين - ولا للفضل أن تدخلا الحمام غدا.
فكتب المأمون: صدقت يا أبا الحسن، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولست بداخل الحمام غدا والفضل أعلم. قال ياسر: فلما أمسينا وغابت الشمس، قال لنا الرضا (عليه السلام): قولوا نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذه الليلة. فلم نزل نقول ذلك، فلما صلى الصبح، قال لي: اصعد إلى السطح فاستمع. فلما صعدت سمعت الضجة والنحيب وكثر ذلك، وإذا المأمون قد دخل من الباب الذي كان من داره إلى دار الرضا (عليه السلام)، فقال: يا سيدي، يا أبا الحسن، آجرك الله في الفضل، فإنه دخل الحمام، ودخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه، وأخذ منهم ثلاثة أحدهم ابن خاله، واجتمع الجند والقواد ومن كان من رجال الفضل على باب المأمون، فقالوا: هو اغتاله وشغبوا وطلبوا بدمه، وجاءوا بالنيران ليحرقوا الباب.
فقال المأمون لأبي الحسن (عليه السلام): يا سيدي، ترى أن تخرج إليهم وترفق بهم حتى يتفرقوا؟ قال: نعم. وركب أبو الحسن (عليه السلام)، وقال لي: يا ياسر اركب، فركبت، فلما خرجنا من باب الدار نظر إلى الناس وقد ازدحموا عليه، فقال لهم بيده (اشار لهم): تفرقوا، قال ياسر: فأقبل والله بعضهم على بعض، وما أشار إلى أحد إلا ركض ومر، ولم يقف له أحد (10).
قال الطبري: وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون، وهم أربعة نفر: أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل (11).
أقول: ترى مثل هذا السفاك الداهية يسلم حكم بني العباس للإمام (عليه السلام) طعمة باردة. قال الصدوق والسلامي: كان ذلك في شعبان سنة 203، وقال الطبري: كان ذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة 202، ولعل رواية الصدوق أقرب إلى الصواب. وحكى الصدوق في (العيون) عن أبي علي الحسين بن أحمد السلامي في كتابه (تأريخ نيسابور) أنه قال: احتال المأمون على الفضل بن سهل حتى قتله غالب خال المأمون في الحمام بسرخس مغافصة (غافصه: فاجأه وأخذه على غرة) في شعبان سنة 203 (12).
ومن هذا نتبين أن للمأمون أساليبه الخاصة في القضاء على خصومه، فاتبع أسلوبا غامضا في القضاء على الفضل بن سهل وقتل قتلته رغم اعترافهم بأنه هو الذي دفعهم لاغتياله. لقد كان الدافع في قتل الفضل من قبل المأمون هو إرضاء العباسيين في بغداد، وفي نفس الوقت أرضى أخاه الحسن بن سهل بأن قتل قاتليه وأبرد رؤوسهم إليه، وبهذا أرضى الخراسانيين أيضا.
وعندما قرر أن ينقل مركز الخلافة من مرو إلى بغداد، فكر في قتل الإمام (عليه السلام)، فغدر به وقتله بالسم، جاعلا ذلك ثمنا لصلحه مع العباسيين، وبعد مقتل الفضل بن سهل رجع المأمون من سرخس إلى طوس، وأقام عند قبر أبيه أياما، وخلالها دس إلى الإمام (عليه السلام) السم بالعنب - وقيل: بالرمان - فقضى عليه شهيدا مسموما، ودفن عند قبر هارون الرشيد كما أخبر.
المأمون يعود إلى بغداد:
وهكذا، مات اللذان تكرههما بغداد في نفس طريق بغداد... ولم يعد هناك ما يعكر صفو العلاقات بينه وبين بني أبيه العباسيين وأشياعهم، وأصبح باستطاعته أن يكتب إليهم: إن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت، وأنهم ما نقموا عليه إلا بيعته لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وقد مات، فارجعوا إلى السمع والطاعة، وإنه يجعل ولاية العهد في ولد العباس (13).
لقد أسرع المأمون في تنفيذ ما كان قد أعده للإمام الرضا (عليه السلام)، وعاد إلى بغداد لتلافي ما تركته الأحداث من آثار سيئة على خلافته، فلم يجد صعوبة في دخولها، ولا مقاومة جادة لمنعه عنها، سيما وإن مخاوفهم من انتقال السلطة إلى البيت العلوي قد تبددت بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام)، وبعد أن عادوا إلى طاعة المأمون، واختفى خليفتهم الخليع ابن شكلة المغني، فجلس لبني العباس وجمعهم، ودعا بحلة سوداء فلبسها، وترك الخضرة، ولبس الناس كذلك (14).
وأخيرا، تحقق ما تنبأ به الإمام (عليه السلام) من أن أمر البيعة بولاية العهد لا يتم، وأنه يقتل ويدفن إلى جنب هارون الرشيد، ولم يكتف المأمون بالغدر بالإمام (عليه السلام) ودس السم إليه، بل أراد أن ينال منه ميتا بدافع من حقده الدفين، فكتب إلى السري عامله على مصر، يخبره بوفاة الرضا (عليه السلام)، ويأمره بغسل المنابر التي دعي له عليها، فغسلت.
المصادر :
1- الدولة العباسية للخضري: 173.
2- تأريخ الطبري 8: 554 و555.
3- كتاب الإمام الرضا (عليه السلام) للسيد محمد جواد فضل الله: 159
4- تأريخ الطبري 8: 564 - 565.
5- تذكرة الخواص: 355.
6- قال المجلسي: يمكن أن يكون المراد بالنوائب: العساكر المعدة للنوائب، أو أسباب السفر المعدة لها، أو العساكر الذين ينتابون في الخدمة، أو الطبول المسماة في عرف العجم بالنوبة السلطانية. بحار الأنوار 49: 170.
7- الجلودي هو الذي سلب بيت الإمام (عليه السلام) خلال غارته على المدينة في خلافة الرشيد.
8- الظاهر من تأريخ الطبري بقاء عيسى بن يزيد الجلودي حيا إلى سنة 205 ه‍، حيث قال: وفي هذه السنة - أي سنة 205 ه‍- ولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط. تأريخ الطبري 8: 580.
9- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 159 / 24، بحار الأنوار 49: 164 / 5، العوالم 22: 359 / 1.
10- كشف الغمة 3: 69، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 164، بحار الأنوار 49: 168، العوالم 22: 364.
11- تأريخ الطبري 8: 565.
12- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 165 و166، بحار الأنوار 49: 143، العوالم 22: 279، إعلام الورى: 337.
13- الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 394.
14- تذكرة الخواص: 356.


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عاشوراء الحكمة والعاطفة
الهجوم على دار الزهراء عليها السلام وما ترتب ...
المؤامرات فی الکوفة
واقع ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﻋﺎﺋﺸﺔ
خالد بن ولید يقتل الصحابي مالك بن نويرة طمعاً في ...
الغلاة في نظر الإمامية
قبول الخلافة
تأملات وعبر من حياة يوسف (ع) - ج 2
أقوال علماء السنة في المذهب الشيعي
الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها القسم الاول

 
user comment