انّ الله جلّ شأنه قد اقتضت حكمته و لطفه بعباده - في دلالتهم على مقام إلهيّته في علمه و قدره و إرادته - أن يجعل نظام العالم - في أحواله و أدواره و مواليده - مبنيّاً - نوعاّ- على قوانين الأسباب والتسبيب في المسببات، المرتبطة بالغايات و الحكم، والدالّه على قصدها. و هوالخالق للسبب و المسبّب، والجاعل للتسبيب، و بيده الأسباب وتسبيباتها، في وجودها و بقائها و تأثيرها، و تحكيم بعضها على بعض، فقد ي
انّ الله جلّ شأنه قد اقتضت حكمته و لطفه بعباده - في دلالتهم على مقام إلهيّته في علمه و قدره و إرادته - أن يجعل نظام العالم - في أحواله و أدواره و مواليده - مبنيّاً - نوعاّ- على قوانين الأسباب والتسبيب في المسببات، المرتبطة بالغايات و الحكم، والدالّه على قصدها.
و هوالخالق للسبب و المسبّب، والجاعل للتسبيب، و بيده الأسباب وتسبيباتها، في وجودها و بقائها و تأثيرها، و تحكيم بعضها على بعض، فقد يعدم السبب، وقد يبطل تأثيره، و قد يمنع تأثيره بسببٍ آخر، وقد يعدم ما يحسب الناس أنه موضوع القانون المقرّر ويقيم غيره مقامه.
و هذا هو مقام البداء والمحو والإثبات، وهو- جلّ شأنه -عالم منذ الأزل بما تؤدي إليه مشيئته من المحو والإثبات، وهذا العلم هو(ام الكتاب)(1)
فالمحوانما هو لما له نحو ثبوتٍ بتقديرالأسباب و تسبيباتها، وسيرها في التسبيب.
و على ذلك يجري ما روي في أصول الكافي في صحيفة هشام و حفص، عن ابي عبدالله عليه السلام:
وهل يمحى إلا ما كان ثابتاً؟(2)
إذ لا يعقل محو ما هو ثابت الوقوع بعينه في علم الله و أم الكتاب.
و أمّا كون المراد من المحو هو إفناء الموجود، و من الإثبات إيجاد المعدوم أو إبقاء الموجود - كما ذكر في صدر السؤال
فيدفعه اوّلاً:
أنه خلاف ظاهر الآية الكريمة و سوقها؛لأنّ استعمال المحوو مقابلته بأم الكتاب إنما يناسب مقام التسجيل والكتابة، التي هي كناية عن التقدير والتسجيل بسير الأ سباب - وإن كان نوعياً-.و لا يناسب في المقام إفناء العين الموجودة، مضافاً إلى أنّه عند إرادة الإفناء لا يبقى لقوله تعالى: (وعنده أمّ الكتاب)(3) معنىً تأسيسيّ ترتبط به أطراف الكلام في الآية، و يناسب ذكر المحو والإثبات، كما لاينبغي أن يخفى.
و يدفعه ثانياً:
احتجاج الإمام عليه السلام بهذه الآية للبداء، وكذا الكثير من استشهادات الأئمة بهذه الآية.و أما البداء
فهو بمعنى الظهور.مأخوذ من: بدا يبْدو بدواً و بُدُوّاً و بداءةً وبداءً و بدوءً، فيقال: فلان بدا له في الرأي، أي ظهر له ما كان مخفيّاً عنه، و فلان برز فبداله من الشجاعة ما كان مخفيّأً عن الناس (4)
فمعنى بدا في المثالين واحد، ولكنّ الاختلاف فيهما جاء من ناحية اللام و ربطها للظهور.
فالبداء المنسوب إلى الله جلّ شأنه إنما هو بمعنى المثال الثاني.أي: ظهر لله من المشيئة ما هو مخفي على الناس، و على خلاف ما يحسبون.هذا ما يقتضيه العقل. و يشهد له من صريح الأحاديث ما رواه في أصول الكافي في صحيح عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام:
ما بدا الله في شي ء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له (5)
و رواية عمروبن عثمان، عنه عليه السلام:
إن الله لم يبدُ له من جهل (6)
و صحيحة فضيل - الآتية - عن أبي جعفر عليه السلام.
و صحيفة منصور بن حازم: سألت أبا عبدالله عليه السلام: هل يكون اليوم شي ء لم يكن في علم الله بالأمس؟
قال عليه السلام: لا من قال هذا فأخزاه الله.
قلت:أرأيت ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس في علم الله؟!
قال عليه السلام: بلى، قبل أن يخلق الخلق(7)
و إنّ قوله تعالى: (يَمحو الله ما يشاء و يُثبت و عندهُ امّ الكتاب)(8) ينادي بأنّ مقام المحو و الإ ثبات هو غير مقام أم الكتاب، و علم الله المكنون، و مشيئته و إرادته الأزلية.
بل هو في مقام الظاهر في سير الأسباب و تسبيباتها.
فقد تقتضي مشيئته - جلّ اسمه - أن يمنع أسباب البقاء و طول العمر عن الزاني و قاطع الرحم، و قد يمنع الأسباب المهلكة عن واصل الرحم و المتصدّق و الداعي مثلاً؛ فيمحو في هذه الموارد ما جعله لنوع الأسباب من التسبيب، و قد لا يمحوه في بعض الموارد لحكمة أخرى، فيكون قد أثبته، أي أبقاه ثابتاً.
و قد يراد من قوله تعالى: (يُثبتُ) أنه يثبت حين المحو خلاف المحو، والله العالم.
قد كان الناس يحسبون أنّ إسماعيل بن الصادق عليه السلام هو الإمام بعد أبيه، لما عملوه من أنّ الإمامة للولد الأ كبر ما لم يكن ذا عاهةٍ؛ و لأنّ الغالب في الحياة الدنيا وأسباب البقاء أن يبقى إسماعيل بعد أبيه عليه السلام، فبدا و ظهر بموت إسماعيل انّ الإمام هو الكاظم عليه السلام؛ لأنّ عبدالله كان ذا عاهة، فظهر لله و بدا للناس ما هو في علمه المكنون.
و كذا في موت محمّد بن الهادي عليهما السلام، حيث ظهر للشيعة أن الإمام بعد الهادي و الحسن العسكري عليه السلام.
و هذا الظهور للشيعة هو الأ مر الذي أحدثه الله بموت محمد، كما قال الهادي للعسكري عليهما السلام عند موت محمد: أحْدِث لله شكراً، فقد أحدَثَ فيك أمراً (9)
فالإمامة ثابتة للكاظم و العسكري منذ الأ زل، و قد جاء في الأ حاديث البالغة حدّ التواتر - أو ما يقاربه - عن النّبي صلى الله عليه و آله و سلم و الأ ئمة ممّن هو قبل الكاظم و العسكري عليهم السلام ما يتضمن النصّ على إمامتهما في جملة الأ ئمة عليهم السلام، و قد ذكر بعض هذه الأ خبار بنحو الإشارة إليها في كتاب نصائح الهدى (10)
و إلى ما ذكرناه في معنى البداء و المحو يرشد ما رواه في أصول الكافي:
كصحيحة زرارة، عن أ حدهما عليهما السلام:
ما عُبِدَ اللهُ بشيء مثل البداء(11)
و معتبرة هشام بن سالم، عن أبي عبدالله عليه السلام:
ما عُظّم الله (بشيء مثل) البداء(12)
و صحيحة الريان، عن الرضا عليه السلام:
ما بعث الله نبيّاً قطّ إلا بتحريم الخمر و أن يقرّ لله با لبداء(13)
و نحوها معتبرتا مرازم وجهم، عن أبي عبدالله عليه السلام (14)
فإن الاعتراف بمجرد انّة يظهر لله من الأمور ما لم يكن محتسباً- بل كان المحتسب غيره- ليس له أهميّة بالنسبة إلى جلال الله.
إذن، فالفضل المذكور و الأهميّة الكبرى للاعتراف
و قال جهم عمّن حدّثه -: قال أبو عبدالله عليه السلام: أن الله عزّو جلّ أخبر محمداً صلّى الله عليه وآله و سلّم بما كان منذ كانت الدنيا، و بما يكون إلى انقضاء الدنيا، و أخبره بالمحتوم من ذلك، واستثنى عليه فيما سواه.
بالبداء ما هو إلا لأنّه يرجع إلى الاعتراف بحقيقة الإلهية، و أنّ الموجد للعالم انّما هو إله موجد بالإرادة و القدرة على مقتضى الحكمة، متصرّف بقدرته بما يتراءى من العلل و تعليلاتها التي هي من صنعه و إيجاده، والخاضعة لتصرّف مشيئته فيها، لا أنّ وجود العالم منوط بالتعليلات الطبيعية و محض اقتضاء الطبيعة العمياء فاقدة الشعور والإرادة، تعالى الله عمّأ يقولون.
و على ذلك تجري صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله عليه السلام:
ما بعث الله نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، و خلع الأنداد، و أن الله يقّدم ما يشاء و يوّخر ما يشاء (15)
فالبداء،
و أنّ الله يمحو ما يشاء و يثبت، وعنده أم الكتاب، يكون الاعتراف بحقيقتها المعقولة و مدلول الأ حاديث، هوالفارق بين الإلهية و الطبيعية، وهو الفارق بين الاعتراف بحقيقة الإلهية و بين المزاعم المستحيلة في مسألة العقول العشرة المبنية على التقليد الأعمى للفسلفة اليونانية و مزاعم أوهامها، مع الخبط في أمر الإيجاد بالأرادة والتعليل الطبيعي.ثم ان مقتضى دلالة العقل والنقل هو أنّ البداء و المحو لا يقعان فيما أخبرالله به أنبياءه و أوصياءهم، وأخبروا به عنه جلّ اسمه.
اما دلالة العقل، فلأن وقوع ذلك يستلزم عدم وثوق الناس بهم و بأخبارهم، وحمل الناس لهم على الجهل و الكذب على الله، فيسقط محلّهم، و ينقض الغرض من نصبهم للنبوّه و الإمامة، و نقض الغرض قبيح و محال على الله جلّ اسمه.
وامّا النقل،فمنه ما رواه في أصول الكافي، في صحيحة الفضلي، عن أبي جعفر عليه السلام:
العلم علمان: فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، و علم علّمه ملائكته و رسله فأنه سيكون، لا يكذب الله نفسه ولا ملائكته و لا رسله، و علم عنده مخزون يقدّم منه ما يشاء، ويؤخّر منه ما يشاء، ويثبت ما يشاء(16)
و نحوها صحيحته الأخرى عن أبي جعفر عليه السلام (17) و رواية أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام (18)
و ايضًا:
أنّ الأنبياء و الأئمة لا يخبرون عن المغيّبات من اطّلاعهم على الأسباب و قوانينها، التي هي معرض للبداء و المحو- كما يسمّيها الناس بالنفوس الفلكية والأ لواح القدرية- إن هي الا أسماء- فإنه اعتماد على الظن، وهو خلاف وظيفتهم الكريمة، و يلزم من ذلك أن يجعلوا أنفسهم معرضاً لعدم الوثوق بهم، وعدّ الناس لهم من الكاذبين حينما يظهر خلاف ما أخبروا به، وهذا نقض لغرضهم في دعوة الناس إلى الله وإلى قبول أقوالهم و إرشادهم و تصديقهم، و نقض الغرض قبيح مستحيل على المعصوم.
إذن، فلا يخبرون الناس بالغيب اعتماداً على الأسباب أو الألواح القدرية- كما يقال و يزعم -، و إن كانوا أكمل البشر في تلك العلوم.
و مما يشهد لذلك ما روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام من قوله في بعض المواطن: ولولا آية سبقت في كتاب الله - و هي قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء و يثبت وعنده ام الكتاب) لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة(19)
يريد- صلوات الله عليه- أن هذه العلوم المستندة إلى سيرالأسباب والتسبيبات والتقدير هو أعلم الناس بها، و أكملهم فيها، و لكنّه لا يعتمد عليها، ولا يخبر الناس بمد اليلها، لأنها معرض للمحو.
فالمحصّل مما ذكرناه:
أنّ المحو والإثبات في الآية الكريمة ليس المراد منها إفناء الموجود و إبقاءه، أو تجديد موجود آخر.
و أن البداء والمحو لا يتعلق بما في أم الكتاب، ولا بما يخبر الله به أنبياءه والأئمة، ولا بما يخبرون به عن الله من أنباء الغيب، ولا يخبرون عما هو معرض للبداء والمحو، صلوات الله و سلامه عليهم.
المصادر :
1- سورةالرعد39:13
2- الكافي 1/114ح2، و تتّمته: و هل يثبت إلا ما لم يكن؟!
3- سورة الرعد39:13
4- مادّة بدا من: لسان العرب 14/65 و الصحاح 6/2278
5- الكافي 1/114ح 9
6- الكافي 1/115ح10
7- الكافي 1/115ح11
8- سورة الرعد 39:13
9- الكافي 1/262 ح 4 و5 و8
10- نصائح الهدى: 22 و ما بعدهاالكافي 1/245-248 و 261-264 و441 ح 1و442 ح 3، كفاية الأثر: 255-263- و 282-288 و مواضع أخرى مختلفة منه، الإرشاد 2/216-220 و 314 -320، إعلام الورى: 294-300 و 367-370
11- الكافي 1/113 ح 1
12- الكافي 1/113 ذح 1، وفيه بدل ما بين القوسين: بمثل
13- الكافي 1/115 ح 15
14- الكافي 1/115 ح 13.
15- الكافي 1/114 ح 3
16- الكافي 1/114 ح 6
17- الكافي 1/114ح 7
18- الكافي 1/114ح8
19- التوحيد: 305، أمالي الصدوق: 280 ب 55 ح1،الاحتجاج:258،قرب الإسناد:353 ح 1266، و عنها في بحار الأنوار 4/97 ح 4 و5
source : rasekhoon