: يوافق السابع من صفر المظفر الذكرى الأليمة لاستشهاد الإمام أبي محمد الحسن بن علي (ع)، فبهذه المناسبة نقدم لكم معلومات حول ما انتهجه سلام الله عليه في حياته بما يرتبط بمصلحة الإسلام:
إن المقام المقدس الذي حظي به الإمام الحسن (عليه السلام) على لسان جده رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، يدفعنا لمزيد من التأمل في سيرته المباركة، بكل ما تحتويه من جوانب عظمة وكمال ذاتية وحكمة وسداد رسالي، والذي نراه ينسجم تماماً مع وصف رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) له وموضعه منه فيما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) في حقه(عليه السلام) منها:
عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: ( لما ولدت فاطمة الحسن (عليه السلام) قالت لعلي(عليه السلام): سمّه، فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه، فجاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال: ألم أنهاكم أن تلفوه في خرقة صفراء؟ ! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها، ثم قال لعلي (عليه السلام): هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه، فقال (صلى الله عليه وآله): وما كنت لأسبق باسمه ربي عزَّ وجل.
فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى جبرائيل أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط فأقرئه السلام وهنئه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرائيل (عليه السلام) فهنأه من اللّه عزَّ وجل ثم قال: إن اللّه تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه؟ قال: شبَّر، قال: لساني عربي، قال: سمه الحسن، فسمّاه الحسن)(1).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما)(2).
وعن زينب بنت أبي رافع عن أمها قالت: ( قالت فاطمة (عليها السلام): يا رسول اللّه، هذان ابناك فانحلهما، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أما الحسن فنحلته هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فنحلته سخائي وشجاعتي)(3).
وعن البراء بن عازب قال: (رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) واضعاً الحسن على عاتقه فقال: من أحبني فليحبه)(4).
وقوله (صلى الله عليه وآله): (اللهم إني أحبه فأحبه واحب من يحبه قال: وضمّه إلى صدره)(5).
واجتمع أهل القبلة على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(6).
ولو سبرنا حياة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) لوجدنا ذات الخط الذي نهجه أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمه فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يتجسد مرة أخرى في سيرته الرسالية، حيث لم ير مصلحة فوق مصلحة الإسلام العليا، ولا قيمة لشيء اكبر من قيمتها، بل لقد ارخص سلام اللّه عليه كل شيء في سبيلها، لأنها سبيل اللّه وكلمته العليا.
ولنأخذ من مواقفه الكبرى في هذا السبيل بعض النماذج المتميزة في عهود أساسية ثلاث من سيرته المباركة:
1 ـ في عهد عثمان: ونستلّ من سيرة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، في هذا العهد مجالين هما:
أ ـ مشاركته في الكثير من حروب الدفاع عن بيضة الإسلام، وفي كثير من الفتوحات الإسلامية أيام خلافة عثمان، منطلقاً من مقولة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) في رعاية مصلحة الإسلام العليا التي كررها في اكثر من موضع: (واللّه لأسلِمن ما سلمت أُمور المسلمين، ولم يكن جورٌ إلاّ عليّ خاصّة)(7).
وقد نقلت لنا كتب التاريخ ومروياته هذه الحقيقة، وممّا جاء فيها: (إن الإمام أبا محمد الحسن (عليه السلام) كان قد بلغ العشرين عاماً أو تزيد، وقد برز بين أعيان المسلمين في مواهبه العالية وتطلعاته إلى حقائق الأمور ومشكلاتها، ومضى مع أبيه يتجرع مرارة تلك الأحداث القاسية، ويترقب معه الوقائع والأحداث، ويعملان لصالح الإسلام. وانضمّ الحسن إلى جنود المسلمين الذين اتّجهوا إلى إفريقيا بقيادة عبد اللّه بن نافع وأخيه عقبة في جيش بلغ عشرة آلاف مجاهد، كما جاء في العبر لابن خلدون، وتطلع المسلمون إلى النصر والفتح متفائلين بوجود حفيد الرسول وحبيبه يجاهد معهم، وكانت الغزوة ناجحة وموفقة كما يصفها المؤرخون، وعاد الحسن منها إلى مدينة جده وقلبه مفعم بالسرور، وعلامة الارتياح بادية على وجهه الكريم لانتشار الإسلام في تلك البقعة من الأرض.
كما جاء في تاريخ الأمم والملوك في حوادث سنة ثلاثين للهجرة أن سعيد بن العاص غزا خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول اللّه والحسن والحسين وعبد اللّه بن عباس، ومضى سعيد ومعه الحسن والحسين إلى جرجان، فصالحوه على مئتي ألف، ثم هاجم طمية وهي تابعة لطبرستان ومتاخمة لجرجان على حد تعبير الطبري على ساحل البحر، فقاتلهم أهلها قتالاً شديداً وصلى المسلمون صلاة الخوف، وأخيراً انتصر المسلمون في تلك المناطق كما نصّ على ذلك ابن خلدون وغيره من المؤرخين.
وجاء في الفتوحات الإسلامية وغيرها أن سعيد بن العاص غزا طبرستان سنة ثلاثين من الهجرة، وكان الاجهيد قد صالح سويد بن مقرن على مال بذله في عهد عمر بن الخطاب، وفي عهد عثمان بعد استيلائه على السلطة بخمس سنوات تقريباً، جهز إليهم جيشاً بقيادة سعيد بن العاص، كان فيه الحسن والحسين وعبد اللّه بن العباس وغيرهم من أعيان المهاجرين والأنصار، وتم لهم الاستيلاء على تلك المناطق والتغلب عليها.
وتؤكد اكثر المرويات أن الحسن والحسين قد اشتركا في كثير من الفتوحات الإسلامية، وكان لهما دور بارز في سير تلك المعارك التي كانت تدور رحاها بين المسلمين وغيرهم)(8).
ب ـ كان موقفه من خلافة عثمان وما آلت إليه هو موقف أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، معبراً فيه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء، خصوصاً بعد أن ملّ المسلمون سياسة عثمان وأعوانه وعماله. وتنقل لنا كتب التاريخ وقائع تلك الفترة، ومنها أنه بعد فشل كل المحاولات التي بذلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان وأعوانه وعماله، وخوفهم على دينهم ودنياهم، زحفوا إليه من جميع الأقطار، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه بإصلاح ما أفسده هو وعماله، أو بالتخلي عن السلطة، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) وولده الحسن وسيطين بين الخليفة ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح، ووضع حدّ للفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة، وكانا كلما أشرفا على النجاح، ووضعا الحلول الكفيلة بالإصلاح وإرجاع الثوار إلى بلادهم، جاء مروان ونقض كل ما أُبرم بين الطرفين من حلول واتفاقات، حتى تعقدت الأمور أخيراً وهاجمه الثوار بتحريض من عائشة وطلحة والزبير، وقالت لهم عائشة كما تؤكد ذلك اكثر المرويات: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وأخرجت للمسلمين قميص رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقالت بصوت سمِعه الجميع: هذا قميص رسول اللّه لم يبل وقد أبلى عثمان سنّته. كما تؤكد المصادر الموثوقة أن طلحة لم يقتصر دوره على التحريض على عثمان، بل اشترك معهم وسهل لهم الوصول إلى داره للقضاء عليه في حين أن أمير المؤمنين ـ كما يدعي الرواة ـ قد أرسل ولديه حسناً وحسيناً ليدفعا عنه الثوار.
وجاء في رواية ابن كثير أن الحسن بن علي قد أُصيب ببعض الجروح وهو يدافع عنه. ومما لا شك فيه أن أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين (عليهم السلام)، كانوا كغيرهم من خيار الصحابة ناقمين على تصرفات عثمان وأنصاره وعماله، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين (عليه السلام) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه، بل وقف منه موقفاً سليماً وشريفاً، أراد من عثمان أن ينتهج سياسة تتفق مع منهج الإسلام، وأن يجعل حدّاً لتصرفات ذويه وعماله الذين أسرفوا في تبذير الأموال واستعمال المنكرات، وأراد من الثائرين عليه أن يقفوا عند حدود المطالبة بالإصلاح الشامل لجميع مرافق الدولة، وألاّ تتخذ ثورتهم طابع العدوان والانتقام، واستطاع في المراحل الأولى من وساطته أن يضع حدّاً للصراع القائم بين الطرفين بما يحفظ لكل منهما حقه، لولا أن مروان بن الحكم قد أفسد كل ما أصلحه الإمام (عليه السلام) وظلّ الإمام إلى آخر لحظة يتمنى على عثمان أن يتخذ موقفاً سليماً حتى يُتاح له أن يعالج الموقف في حدود ما انزل اللّه(9).
2 ـ في عهد خلافة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام): وفي هذا العهد كان الإمام الحسن السبط (عليه السلام) ظّلاً لأبيه في كل ما تتطلبه مسألة الولاء لإمامه خليفة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وجندياً واعياً مطيعاً لكل أوامره. وقد تجلى دوره هذا على طول الأيام الحاسمة، والصراع المرير الذي عاشه والده أمير المؤمنين (عليه السلام). ومن مهماته المشهودة في تلك الفترة:
أ ـ دوره في حرب الناكثين المعروفة بحرب الجمل: وهي الحرب التي استعرت في إثر تمرد طلحة والزبير في البصرة، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بقيادة عائشة. وقد تمثل دور الإمام الحسن (عليه السلام) فيها بأمرين أساسيين:
أولاً : لما توجه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذي قار ونزلها، أرسل الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) إلى الكوفة مع عمار بن ياسر وزيد بن حومان وقيس بن سعد، ليستنفروا أهلها لمساعدته على طلحة والزبير، وكان قد أرسل قبلهم وفداً فعارضهم أبو موسى ولم يستجب لطلب أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومضى الحسن بمن معه باتجاه الكوفة، ولمّا دخلوها استقبلهم أهلها فقرأ عليهم كتاب أبيه، ووقف أبو موسى نفس الموقف الذي وقفه مع الوفد الأول، وافتعل حديثاً عن النبي ليثبط الناس عن مساعدة أمير المؤمنين، وادّعى أنه سمعه يقول: (ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والنائم خير من القاعد) . فرد عليه عمار بن ياسر وقال: (إذا صح أنك سمعت رسول اللّه يقول ذلك فقد عناك وحدك، فالزم بيتك. أمّا أنا فأُشهد اللّه أن رسول اللّه قد أمر عليّاً بقتال الناكثين وسمّى لي منهم جماعة، وأمره بقتال القاسطين، وإن شئت لاقيمن لك شهوداً أن رسول اللّه قد نهاك وحدك وحذّرك من الدخول في الفتنة).
ووقف الحسن (عليه السلام) يستنفر الناس فحمد اللّه وصلى على رسوله ثم قال: (أيها الناس، إنّا جئنا ندعوكم إلى اللّه وكتابه وسنّة رسوله، وإلى افقه من تفقه من المسلمين وأعدل من تعدلون وأفضل من تفضلون وأوفى من تبايعون، مَنْ لم يعبه القرآن ولم تجهله السنّة ولم تقعد به السابقة. ندعوكم إلى من قرّبه اللّه ورسوله قرابتين; قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى اللّه به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصلى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدقه وهم يكذبون، وهو سائلكم النصر ويدعوكم إلى الحق ويأمركم بالمسير إليه لتؤازروه وتنصروه على قوم نكثوا ببيعة، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه، ومثلوا بعمّاله، ونهبوا بيت ماله. فاشخصوا إليه رحمكم اللّه).
وفي رواية ثانية عن جابر بن يزيد أنه قال: (حدثني تميم بن جذيم التاجي أن الحسن بن علي (عليه السلام) وعمار بن ياسر قدما الكوفة يستنفران الناس إلى علي (عليه السلام) ومعهما كتابه، فلما فرغا من قراءته قام الحسن فرماه الناس بأبصارهم وهم يقولون: اللّهم سدّد منطق ابن بنت نبيّك، فوضع يده على عمود يتساند إليه، وكان عليلاً من شكوى به، فقال: الحمد للّه العزيز الجبار الواحد الأحد القهار الكبير المتعال، سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وساربٌ بالنهار، احمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، امتنّ بنبوته واختصه برسالته وأنزل عليه وحيه واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الأنس والجنّ حين عُبدت الأوثان وأُطيع الشيطان وجُحد الرحمن، فصلى اللّه عليه وعلى آله وجزاه افضل الجزاء، أما بعد فإني لا أقول لكم إلاّ ما تعرفون; إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرشد اللّه أمره وأعزّ نصره بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب والعمل بالكتاب والجهاد في سبيل اللّه، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فإن في أجله ما تحبّون إن شاء اللّه، ولقد علمتم بأنّ عليّاً صلى مع رسول اللّه وحده، وأنه يوم صدق به لفي عاشرة من عمره، ثم شهد مع رسول اللّه جميع مشاهده، وكان من اجتهاده في مرضاة اللّه وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم، ولم يزل رسول اللّه راضياً عنه حتى غمضه بيده وغسله وحده والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم ادخله حفرته، وأوصاه بقضاء دينه وعداته وغير ذلك من أموره، كل ذلك من منّ اللّه عليه، ثم ـ واللّه ـ ما دعا إلى نفسه، ولقد تداكّ الناس عليه تداكّ الإبل الهيم عند وردها فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه ولا خلاف أتاه حسداً له وبغياً عليه، فعليكم عبادَ اللّه بتقوى اللّه وطاعته والجدّ والصبر والاستعانة باللّه، والإسراع إلى ما دعاكم إليه. عصمنا اللّه وإيّاكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإيّاكم تقواه وأعاننا وإيّاكم على جهاد أعدائه. واستغفر اللّه لي ولكم).
_______________________________________
1- البحار 43:238، ب 11، ح3.
2- البحار 43:263، ح 8 .
3- المصدر نفسه، ح 11.
4- المصدر نفسه : 294.
5- المصدر نفسه .
6- المصدر نفسه : 291 .
7- نهج البلاغة ـ الخطبة74.
8- الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر 1:482 ـ 483. وراجع : تاريخ الأمم والملوك 5:57، والفتوحات الإسلامية 1:175، والكامل لابن الأثير 3:109.
9- راجع سيرة الأئمة الاثني عشر للحسني 1 : 485 ـ 486.