يقول الله تعالى في محكم كتابه:﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(1)
إنّ جسم الإنسان كما يتعرّض لأمراض جسديّة كذلك فإنّ المجتمع البشريّ يُصاب بأمراض اجتماعيّة كظاهرة الإجرام, والانحرافات السلوكيّة, وهي خطيرة لأنّها تنتشر فتطال الجميع، فلابدّ من مواجهتها وإيجاد الحلول لها، ومن أهمّ هذا النوع من الجرائم:
جرائم ضدّ النظام الاجتماعي العام
1- التعدّي:
حرم الله تعالى كلّ أنواع التعدّي على الآخرين مهما كان نوعه ومهما كان مقداره. قال تعالى: ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أعتى الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه"(2).
فالمعتدي على الناس والمجتمع الآمن محارب لله ورسوله، مفسد في الأرض، وقد توعّده الله سبحانه بالعذاب الشديد والعقوبة القاسية في الدنيا والآخرة.
وأشدّ أنواع المحاربة قتل النفس المحترمة، يقول تعالى: ﴿...مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...﴾(3). وقد بيّن الإمام الرضا عليه السلام سبب التحريم لما يترتّب عليه من وجوه الفساد: "حرّم الله قتل النفس لعلّة فساد الخلق؛ في تحليله لو أحلّ، وفنائهم وفساد التدبير"(4).
2- الاحتكار:
وهو خزن مواد غذائيّة أساسيّة يحتاجها الناس وقت الاضطرار يتربّص ارتفاع سعرها أو إضرار الأفراد والدولة. وقد حرّمه الإسلام " للقبح العقلي المستفاد من ترتّب الضرر على المسلمين، وكون منشئه الحرص المذموم عقلاً، ومنافاته للمروءة، ورقّة القلب المأمور بهما"(5).
فالاحتكار نوع من التلاعب الصريح بالأسعار واستغلال حاجة المجتمع لسلعة ما، فيتمّ حبس السلعة حتّى تقلّ بين الناس ويعانون من ندرتها ممّا يؤدّي بهم إلى دفع أيّ سعر مقابل الحصول عليها.
من مفاسد الاحتكار
الاحتكار يؤدّي إلى العديد من السلبيّات، لعلّ أهمّها قتل روح المنافسة الشريفة بين الأفراد والدول، والّتي هي السبيل إلى إتقان العمل وتحسين مستوى الإنتاج.
كما يدفع الاحتكار القائم به إلى تبديد جزء من الموارد والتخلّص منها إمّا حرقاً أو رمياً في البحر أو غير ذلك خوفاً من انخفاض الأسعار في السوق العالمية، وهذا ما كانت تقوم به أمريكا برميها أطناناً من القمح في البحر للمحافظة على سعره، بدل أن ترسله إلى الجياع في العالم.
كما أنّ الاحتكار يكون سبباً في انتشار الحقد والكراهيّة بين الأفراد ممّا يساعد على تفكّك المجتمع وانهيار العلاقات بين أفراده.
وقد ورد في الحديث عن الإمام محمّد بن عليّ عليهما السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أيّما رجل اشترى طعاما، فحبسه أربعين صباحاً، يريد الغلاء ثمّ باعه، وتصدّق بثمنه لم يكن كفارة لما صنع"(6).
في مواجهة الاحتكار
حرص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار على توعية الناس من خلال بيان قبح الاحتكار وخطره وعقوبة المحتكر حيث يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم "المحتكر ملعون"(7).
وعن الإمام علي عليه السلام: "الاحتكار داعية الحرمان"(8).
وعنه عليه السلام: "الاحتكار شيمة الفجار"(9).
ومن ناحية ثانية أباح الإسلام للإمام أو لنائبه إنذار المحتكر ببيع السلعة الّتي يحبسها عن الناس، فإذا رفض يجوز للدولة أن تتدخّل وتأمره ببيع السلعة لرفع الظلم الّذي يتعرّض له المجتمع بسبب الاحتكار.
وبالتالي فإنّ هذا الإجراء يساهم بمنع الاحتكار ويمنع الغشّ في السلع، ويحمي البيئة الاجتماعيّة، من خلال وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يمنع الغشّ في أصناف السلع والأسعار.
وقد كان الإمام عليّ عليه السلام يطوف في الأسواق يعظ التجّار فيقول : "يا معشر التجّار قدّموا الاستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين"(10).
3- ظلم الحاكم
قال الإمام عليّ عليه السلام - لعمر بن الخطّاب -: "ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ، قال: وما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. فقال له عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت"(11).
لكن تسلّط على رقاب الناس ولاة أشرار متسلّطون يرتكبون مختلف أنواع المظالم والمفاسد؛ فالحاكم الظالم يهتك حرمات الناس في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، قَالَ تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾(12). والركون هو الميل والسكون إليهم.
وجاء في وصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب عليهما السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام: ".... وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"(13).
4- المسكرات والمخدّرات
وهي كلّ مادّة تؤثر على الجهاز العصبي بدرجة تضعف وظيفته أو تفقدها منه بصفة مؤقّتة.
والمخدّرات والمسكرات تشتركان في تخدير العقل، وإحداث فتور في البدن، و قد يترتّب على بعضها جرائم وجنايات.
حكمها: جميعها باختلاف أنواعها وتفاوتها في تأثيرها على العقل محرّمة، فيحرم تناولها وتعاطيها والاتجار بها وترويجها.
ومن الأدلّة على تحريمها قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(14).
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الخمر جماع الإثم، وأمّ الخبائث، ومفتاح الشرّ"(15).
ويتوضّح هذا الحديث الأخير من خلال بيان بعض الأضرار المترتّبة على شرب الخمور والآثار السلبية المترتّبة على ذلك:
وهي أضرار دينيّة؛ من الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. وأضرار اجتماعيّة؛ من العداوة والبغضاء، وتفكّك الأسر والمجتمع، وكثرة الحوادث المؤلمة. وهناك عقوق الآباء والأمّهات والعدوان عليهم، وانحراف الأبناء، و السمعة السيّئة، وتشوّه المواليد الّذين يكونون من نسل المدمنين أو المدمنات.
هناك أضرار صحيّة من الإصابة بالأمراض الخطيرة الفتّاكة الّتي تصيب البدن من تلف الكبد، ومن ارتفاع نسب هذه السموم في الدم حتّى تصل في الجرعات الزائدة إلى الموت المفاجئ.
كما يترتّب عليها أضرار اقتصاديّة؛ من ذهاب بركة الأموال وزوال النعم.
5- الترف
هو من الظواهر الخطيرة في مجتمعاتنا الإسلاميّة والّتي أودت بكثير من الشباب، والمُتْرَفٌ هو الّذي أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه، فهو مُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها. فالترف مفسد.
ومن الظواهر الاجتماعيّة أنّك ترى من لا يجد إلّا قوته الضروري يقتطع منه من أجل أن يقتني أكثر أجهزة الهاتف تطوّراً، ويشتري أفخر الأثاث.
وينبغي الإشارة إلى أنّ التنعّم بالمباح ـ وإن كان جائزاً ـ لكنّ الاستغراق فيه خطر لأنّه يورث المرء ارتياحاً إلى الدنيا وركوناً إليها، ويبعد عن الخوف الّذي هو جناح المؤمن.
إنّ كثرة المال وطيب العيش تسدّ مسالك العلم إلى النفوس، فلا تتّجه النفوس إلى العلم مع الترف غالباً، فإنّ الغنيّ قد يسلك طريق اللهو ويفتح بابه، وإذا انفتح باب اللهو سُدّ باب النور والمعرفة.
أمّا علاجه فتوحيد الله وذكره وإشغال القلب بالآخرة، والاتعاظ بحال من داهمهم الموت، وزيارة القبور والنظر لما بعد هذه الحياة.
مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال
عن أبي جعفر الفزاريّ قال: دعا أبو عبد الله عليه السلام مولى له يقال له: مصادف فأعطاه ألف دينار وقال له تجهّز حتّى تخرج إلى مصر فإنّ عيالي قد كثروا.
قال: فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلى مصر فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الّذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامّة، فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه. شيء فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار دينارا.
فلمّا قبضوا أموالهم وانصرفوا إلى المدينة، دخل مصادف على أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان في كلّ واحد ألف دينار.
فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال عليه السلام: إنّ هذا الربح كثير ولكن ما صنعته في المتاع؟ فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا.
فقال عليه السلام: سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين ألّا تبيعوهم إلّا ربح الدينار دينارا، ثمّ أخذ (أحد) الكيسين فقال: هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح، ثمّ قال: "يا مصادف: مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال"(16).
المصادر :
1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 28.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3 ، ص565.
5- الجواهر، ج22، ص480.
6- قرب الإسناد، ص63.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج62، ص292.
8- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص666.
9- غرر الحكم، ح607.
10- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج78 ، ص54.
11- التهذيب، ابن حجر، ج6 ، ص227 ، ح547.
12- سورة هود، الآية: 113.
13- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 42، ص 256.
14- سورة المائدة، الآية: 90.
15- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ص79، ح149.
16- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج5، ص161.