لقد شغل أمر تجرد الروح بال المفكرين، واستدلوا عليه بوجوه عقلية عدة، كما اهتمّ القرآن الكريم ببيانه في لفيف من آياته، وفيما يلي نسلك في البحث عن تجرّد الروح هذين الطريقين: العقلي والنقلي.
1- البراهين العقلية على تجرد الروح
تدلّ براهين كثيرة على أنّ النفس مجرّدة غير مشوبة بالمادة وآثارها.
وتجرّدها يعتبر من النوافذ إلى عالم الغيب ونكتفي فيما يلي بإيراد أبرز هذه البراهين وأوضحها، وإلاّ فهي كثيرة تتجاوز العشرة.
البرهان الأوّل: ثبات الشخصية الإنسانية في دوامة التغيّرات الجسدية
وهذا البرهان يتألّف من مقدّمتين
الأُولى: أنّ هناك موجوداً تنسب إليه جميع الأفعال الصادرة عن الإنسان، ذهنية كانت وبدنية.
ولهذا الموجود حقيقة، وواقعية يشار إليها بكلمة "أنا".
الثانية: أنّ هذه الحقيقة التي تعدّ مصدراً لأفعال الإنسان، ثابتة وباقية ومستمرة في مهبّ التغيرات، وهذا آية التجرّد.
أمّا المقدمة الأُولى، فلا تحتاج إلى بحث كثير، لأنّ كل واحد ينسب أعضاءه إلى نفسه ويقول يدي، رجلي، عيني، أذني، قلبي،... كما ينسب أفعاله إليها، ويقول: قرأت، كتبت، أردت، أحببت، وهذا مما يتساوى فيه الإلهي والمادي ولا ينكره أحد، وهوبقوله "أنا" و"نفسي"، يحكي عن حقيقة من الحقائق الكونية، غير أنّ اشتغاله بالأعمال الجسمية، يصرفه عن التعمّق في أمر هذا المصدر والمبدأ، وربما يتخيل أنّه هوالبدن، ولكنه سرعان ما يرجع عنه إذا أمعن قليلاً حتى أنّه ينسب مجموع بدنه إلى تلك النفس المعبّر عنها بـ "أنا".
وأمّا المقدمة الثانية، فكل واحد منا يحسّ بأنّ نفسه باقية ثابتة في دوامة التغيرات والتحوّلات التي تطرأ على جسمه، فمع أنّه يتصف تارة بالطفولة، وأُخرى بالصبا، وثالثة بالشباب، ورابعة بالكهولة،وأخيراً، فمع ذلك يبقى هناك شيء واحد تسند إليه جميع هذه الحالات، فيقول: أنا الذي كنت طفلاً ثم صرت صبياً، فشاباً، فكهلاً، فشيخاً، وكل إنسان يحسّ بأنّ في ذاته حقيقة باقية وثابتة رغم تغير الأحوال وتصرم الأزمنة، فلوكانت تلك الحقيقة التي يحمل عليها تلك الصفات أمراً مادياً، مشمولاً لسنّة التغيّر، والتبدّل، لم يصحّ حمل تلك الصفات على شيء واحد، حتى يقول: أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت صبياً وشاباً، فلولا وجود شيء ثابت ومستمر إلى زمان النطق، للزم كذب القضية، وعدم صحتها، لأنّ الشخصية التي كانت في أيام الصبا، قد زالت على هذا الفرض وحدثت بعدها شخصية أُخرى.
لقد أثبت العلم أنّ التغيّر والتحوّل من الآثار اللازمة للموجودات المادية، فلا تنفك الخلايا التي يتكون منها الجسم البشري، عن التغير والتبدّل، فهي كالنهر الجاري تخضع لعملية تغيير مستمر، ولا يمضي على الجسم زمن إلاّ وقد احتلّت الخلايا الجديدة مكان القديمة. وقد حسب العلماء معدل هذا التجدد، فظهر لهم أنّ التبدّل يحدث بصورة شاملة في البدن، مرة كل عشر سنين.
وعلى هذا، فعملية فناء الجسم المادي الظاهري مستمرة، ولكن الإنسان، في الداخل (أنا)، لا يتغير. ولوكانت حقيقة الإنسان هي نفس هذه الخلايا لوجب أن يكون الإحساس بحضور "أنا" في جميع الحالات أمراً باطلاً، وإحساساً خاطئاً.
وحاصل هذا البرهان عبارة عن كلمتين: وحدة الموضوع لجميع المحمولات، وثباته في دوامة التحولات. وهذا على جانب النقيض من كونه مادياً.
البرهان الثاني: علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه1.
إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كل شيء، عن بدنه وأعضائه، ولكن لا يغفل أبداً عن نفسه، سليماً كان أم سقيماً، وإذا أردت أن تجرب ذلك، فاستمع إلى البيان التالي:
إفرض نفسك في حديقة زاهرة غناء، وأنت مستلق لا تبصر أطرافك ولا تتنبّه إلى شيء، ولا تتلامس أعضاؤك، لئلا تحسّ بها، بل تكون منفرجة،مرتخية في هواء طلق، لا تحسّ فيه بكيفية غريبة من حرٍّ وبرد وما شابه، ممّا هوخارج عن بدنك. فإنّك في مثل هذه الحالة تغفل عن كل شيء حتى عن أعضائك الظاهرة، وقواك الداخلية، فضلاً عن الأشياء التي حولك، إلاّ عن ذاتك، فلوكانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عنها، والتجربة أثبتت خلافه.
وبكلمة مختصرة: "المغفول عنه، غير اللامغفول عنه". وبهذا يكون إدراك الإنسان نفسه من أول الإدراكات وأوضحها.
البرهان الثالث: عدم الانقسام آية التجرّد
الانقسام والتجزّؤ من آثار المادة، غير المنفكة عنها، فكل موجود مادي خاضع لهما بالقوة، وإذا عجز الإنسان عن تقسيم ذلك الموجود، فلأجل فقدانه أدواته اللازمة. ولأجل ذلك ذكر الفلاسفة في محلّه، بطلان الجزء الذي لا يتجزّأ. وما يسمّيه علم الفيزياء، جزءاً لايتجزأ، فإنّما هوغير متجزّئ بالحسّ، لعدم الأدوات اللازمة، وأمّا عقلاً فهومنقسم مهما تناهى الانقسام، لأنّه إذا لم يمكن الانقسام، وعجز الوهم عن استحضار ما يريد أن يقسّمه حتى بالمكبرات بسبب صغره، يفرض العقل فيه شيئاً غير شيء، فحكم بأنّ كل جزء منه يتجزّأ إلى غير النهاية، ومعنى عدم الوقوف أنّه لا ينتهي انقسامه إلى حدّ إلاّ ويتجاوز عنه2.
ومن جانب آخر، كلّ واحد منّا إذا رجع إلى ما يشاهده في صميم ذاته، ويعبّر عنه ب"أنا"، وجده معنىً بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزّي، فارتفاع أحكام المادة دليل، على أنّه ليس بمادي.
إنّ عدم الانقسام لا يختص بما يجده الإنسان في صميم ذاته ويعبّر عنه بـ"أنا"، بل هوسائد على وجدانياته أيضاً من حبّ، وبغض، وإرادة، وكراهة، وتصديق، وإذعان. وهذه الحالات النفسانية، تظهر فينا في ظروف خاصة، ولا يتطرق إليها الانقسام الذي هومن أظهر خواص المادة.
إعطف نظرك إلى حبك لولدك، وبغضك لعدوك فهل تجد فيهما تركّباً؟ وهل ينقسمان إلى جزء فجزء؟ كلا، ولا.
فإذا كانت الذات والوجدانيات غير قابلة للانقسام، فلا تكون منتسبةً إلى المادة التي يعدّ الانقسام من أظهر خواصّها.
فظهر ممّا ذكرنا أنّ الروح وآثارها، والنفس والنفسانيات، كلّها موجودات واقعية خارجة عن إطار المادة، ومن المضحك قول المادي إنّ التفحص، والتفتيش العلمي في المختبرات لم يصل إلى موجود غير مادي، حتى نذعن بوجوده، فقد عزب عنه أنّ القضاء عن طريق المختبرات يختصّ بالأُمور المادية، وأمّا ما يكون سنخ وجوده على طرف النقيض منها، فليست المختبرات محلاً وملاكاً للقضاء بوجوده وعدمه.
ثم إنّ البحث العقلي، في تجرّد الروح مترامي الأطراف مختلف البراهين، اكتفينا بهذا القدر منه، ومن أراد التبسّط فليرجع إلى الكتب المعدة لذلك3.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
------------------------------------------------------
الهوامش:
1- هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات ج 2 ص 92. والشفاء قسم الطبيعيات في موردين ص 282 -464.
2- لاحظ شرح المنظومة، للحكيم السبزواري، ص 206.
3- لاحظ الإشارات للشيخ الرئيس ج 2، ص 368 ـ 371. والأسفار، ج 8 ص 38. وأصول الفلسفة للعلامة الطباطبائي رحمه الله وترجمة الأستاذ دام حفظه ج1، المقالة الثالثة، ص 129ـ 183. وفي هذا الأخير يجد المتتبع ضالته.