ظهرت في القرون الأخيرة من بعض علماء الغرب فكرة خطرة مضلة، لها نصيب كبير في دفع المجتمع البشري نحو المادية، وهي: إنهم قرروا بين الإيمان بالله من ناحية ونفي حق الحكم عن العموم من ناحية أخرى علاقة مختلفة! وافترضوا! أن المسؤولية أمام الله تستلزم نفي المسؤولية أمام الناس، وأن حق الله يعوّض عن حق الناس! فبدل أن يكون الإيمان بخالق العالم على العدل أساساً وضماناً لفكرة الحقوق الفطرية، جعل مناقضاً لها! وحينئذ فمن الطبيعي أن يحسبوا أن إقرار حق الحكم للأمة يساوي نفي الخالق!
والأمر في الإسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً. ففي (نهج البلاغة) مثلاً مع أنه كتاب معرفة الله وتوحيده ومع أنه يتكلم في كل مكان عن الله وعن حقوقه على العباد - مع ذلك - لم يسكت هذا الكتاب المقدس عن حقوق الناس الحقة والواقعية، وعن مكانتهم المحترمة الممتازة أمام حكامهم، وعن أن الحاكم في الواقع ليس إلا حارساً مؤتمناً على حقوق الناس، بل أكد على ذلك كثيراً.
إن الإمام الحاكم - في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس ومسؤول أمامهم! وإن كان لابدّ من أن يكون أحدهما للآخر فالحاكم هو الذي جعل في هذا الكتاب المقدس للناس، لا أن يكون الناس للحاكم! وعنه اقتبس سعدي الشيرازي إذ قال: " ليست الأغنام ملكاً للرعاة إنما هم يخدمون الغنما".
وإن لكلمة (الرعية) مفهوماً إنسانياً جميلاً في الإسلام، ولأول مرة نرى استعمال هذه الكلمة في (الناس المحكومين) وكلمة (الراعي) في الحاكم في كلمات الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ثم في كلمات الإمام علي (عليه السلام) بكثرة. وهي من مادة (رعى) بمعنى: حفظ وحرس، وإنما أطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذه الكلمة (الرعية) على الناس من جهة أن الحاكم في الإسلام يجب أن يتعهد بحفظهم وحراستهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم وحرياتهم. ومن أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في هذا المورد قوله (صلّى الله عليه وآله): (كلكم راع وكلكم مسؤول، فالإمام راع وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول)، (البخاري، ج7، كتاب النكاح).