( إنّي أُريدكم لله، وأنتم تُريدونني لأنفسِكم )
عظمة وخلود شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السّلام) من الأمور المتسالم عليها في التاريخ الإسلاميّ، وبين أتباع جميع الفرق الإسلاميّة، حتّى الخوارج ـ الذين جاهروا أمير المؤمنين (عليه السّلام) بالعداء ـ أبدَوا ندمهم في الفترات اللاحقة، بل أنكروا أنّهم عادَوه وحاربوه يوماً ما، وحتّى أتباع الاتّجاه العثماني، والذين يعدّهم الوهّابيون أسلافهم في الحديث والسنّة ـ الذين لاموا أمير المؤمنين (عليه السّلام) على خوضه الحروب التي أُجبر على خوضها واقتحام أُتونها، والذين عدّوه مَدعاةً للفُرقة بين المسلمين ـ لم يلبثوا إلاّ قليلاً حتّى عادوا بعده فأقرّوا بعظمة شخصية الإمام (عليه السّلام)، والشاهد على هذه المقولة مسند أحمد بن حنبل، المشحون بفضائل أمير المؤمنين (عليه السّلام).
أمّا إعجاب غير المسلمين بشخصيّة أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقد أبرزته كلمات العديدين منهم. من بينهم على سبيل المثال: جورج جرداق وبولس سلامة وسليمان كتّاني وجبران خليل جبران، وغيرهم كثير من المؤلّفين المسيحيين العرب الذين تعرّفوا على شيء من أبعاد شخصيته الفذّة (سلام الله عليه).
ومن الحكايات الشيّقة، حكاية تعامل الصدر الأعظم القاجاري مع كاتبٍ له كان قد دوّن ( عهد الإمام عليّ (عليه السّلام) إلى مالك الأشتر ). قيل إنّ كاتباً كتب ( عهد الإمام (عليه السّلام) إلى مالك ) بخطّ جميل وأخذه إلى الصدر الأعظم القاجاري فسلّمه إليه، وكان المجلس مكتظّاً، فأمره الصدر الأعظم بالجلوس والانتظار، فلمّا انفضّ المجلس وتفرّق الناس قال له: لماذا فعلتَ ما فعلت ؟ قال: أنت الصدر الأعظم، ويمكنك أن تستفيد من هذا العهد. قال الصدر الأعظم: لو كان لهذه المدوَّنة قيمة، لكان عليّ بن أبي طالب قد أفاد منها في حكومته، فلم يبقَ وحيداً، ولم يُستشهد! سأل الكاتب: فلِمَ لم تَقُل ذلك أمام الناس ؟ قال: لو كنتُ قلتُه، لثاروا في وجهي وخالفوني. قال الكاتب: إنّ هذا الأمر يدلّل بنفسه على أنّ شخصيّة الإمام علي (عليه السّلام) ـ بوضعها الذي تصفه ـ قد حظيت بالقبول بحيث أنّ صدراً أعظم مثلك لا يجرؤ بعد ألف سنة ونيّف على أن يتفوّه بشيء ضدّه أمام الناس، بينما نرى معاوية ـ الذي انتصر في الظاهر ـ قد أبغضته القلوب بحيث إنّ أحداً لا يمكنه التصريح بمتابعته وحبّه.
الإمام (عليه السّلام) مع الناس:
بقي التشيّع يجسّد على مدى التاريخ ـ وخلافاً للتسنّن ـ حركة المعارضة ورفض الانسياق للأكثريّة، فقد بايع أكثر الناس في حادثة السقيفة أبا بكر، بينما تابع عدد يسير منهم الإمام عليّاً (عليه السّلام) سرّاً أو علانية. وتكرّر الأمر في عصر الإمام الحسن (عليه السّلام)، ثمّ في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام). أي أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السّلام لم يحظوا بمتابعة الأكثريّة.
ولقد ولي أمير المؤمنين (عليه السّلام) الخلافة فبايعه أكثر الناس، لكنّهم سرعان ما انفضّوا عنه ليلتحقوا بمعاوية، حتّى أهل العراق الذين ساندوه، لم يلبثوا أن شطّت بهم الأهواء عنه.
وقد جاء في التنزيل العزيز أنّ هذه المسألة تعرّض لها الأنبياء السابقون الذين مثّلوا مع أتباعهم الأقليّة في مجتمعاتهم، بينما وقف مخالفوهم في صفّ الأكثريّة. وعلى الرغم من أنّ هذه المخالفة كانت ترجع في أصلها إلى أمر الإيمان بالدين الذي جاء به أولئك الأنبياء، إلاّ أنّهم كانوا يشكّلون ـ على أيّ حال ـ الأقليّة مقابل الأكثرية الساحقة، وهو أمرٌ قد يجعل البعض يتساءل عن مدى الملازمة بين الأكثريّة وبين الاستمساك بالحقّ.
إنّ قاموس الدين الذي يتعامل مع الحقّ والباطل على أساس المعايير السماويّة، والذي تستأثر فيه النصوص الدينيّة بالقول الفصل، قد صرّح بأنّ الحقّ سيبقى حقّاً ولو لم يتّبعه حتّى نفر واحد، وهذا هو الأساس الذي آمن به الإمام عليّ (عليه السّلام) وتحرّك على ضوئه. وعلى الرغم من أنّ الإمام لا يمكنه ـ بدون متابعة الناس وحضورهم في الساحة ـ أن يشرع في عمله التغييري، لكنّ ذلك لا يعني أن يعتبر الحقّ تابعاً لرأي الناس، لذا وجدنا أمير المؤمنين (عليه السّلام) يخاطب أصحابه:
( لا تَسْتَوْحِشوا في طريق الهُدى لِقِلّة أهله، فإنّ الناسَ قد اجتمعوا على مائدةٍ شِبعُها قصير وجُوعُها طويل ).
والأساس الذي يقوم عليه العمل في قاموس الدين هو حُكم الله ورسوله، وليس ثمّة حاجة ـ إذا قضى الله ورسوله أمراً ـ لاتّباع رأي الناس. لذلك رأينا الإمام (عليه السّلام) يعتبر حضوره في الساحة يستند إلى حضور الناس، لكنّه ـ مع ذلك ـ يصرّح بأن رسالته هي إجراء الأحكام الإلهيّة لا متابعة آراء الناس.
وقد ذكر دونما مواربة أنّه غير مستعدّ إلى التشاور مع الناس في ما يعلم أنّ الله تعالى حكم به.
يقول (عليه السّلام) في الخطبة 205 من نهج البلاغة، مخاطباً طلحة والزبير:
( واللهِ ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا لي في الولاية إرْبَة، ولكنّكم دَعَوْتمُوني إليها وحَمَلْتُموني عليها، فلمّا أفْضَت إليّ نظرتُ إلى كتابِ الله وما وَضَع لنا وأمَرنا بالحُكم به فاتّبعتُه، وما اسْتَنَّ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسلّم فاقتَدَيتُه، فلم أحتَجْ في ذلك إلى رَأيِكما ولا رأي غيرِكما، ولا وَقَع حكمٌ جَهِلتُه فأستشيرُكُما وإخواني من المسلمين).
ومن هنا اعتبر أمير المؤمنين (عليه السّلام) خلال تبيينه الواجبات التي تقع على عاتق الإمام، والحقّ الذي للإمام على الناس، أنّ العمل بكتاب الله وسُنّة نبيّه وإحياء سيرة النبيّ الأكرم هو المنهج الذي يسير على ضوئه ويلتزم به.
يقول (عليه السّلام) في الخطبة 170 بعد إشارته إلى مُخالفة مَن خالفه:
( ولَكُم عَلَينا العمَلُ بكتابِ اللهِ، وسيرةِ رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والقيامُ بحقِّه والنَّعْشُ لسُنّته ).
تعامل الناس مع الإمام (عليه السّلام):
تجربة الإمام عليّ (عليه السّلام) في التعامل مع الناس تجربة فذّة، فقد تسنّم الإمام منصب الخلافة بطلبٍ من عامّة الناس، ثمّ تفرّق عنه مريدوه فبقي وحيداً. ونقصد بالناس هنا عامّتهم، أمّا شيعة الإمام (عليه السّلام) فقد بايعوه على أساس الموالاة، وحفظوا له حقّه في الطاعة والمودّة والاحترام. وقد نقل الطبري أنّ طائفة من الناس بايعوا عليّا (عليه السّلام) على أن يوالُوا مَن والاه ويُعادُوا مَن عاداه، وهم الخواصّ.
وعلينا أن نذكّر ـ قبل أيّ شيء آخر ـ أنّ التغيير الاجتماعي والسياسي له مناهجه وقوانينه الخاصّة التي لا يتخطّاها، وأنّ بالإمكان التعرّف على هذه القوانين إلى حدود معيّنة. وأنّنا إذا تعرّفنا على السنن الإلهيّة الجارية في المجتمع، وتعرّفنا على طبيعة وتركيبة المجتمع الذي نرغب في دراسته، فإننا سنتمكّن من متابعة مسيرة التغيير في ذلك المجتمع على نحوٍ أفضل.
إنّ أسئلة من قبيل ( لماذا وصل الشخص الفلاني أو الدولة الفلانية إلى سدّة الحكم ؟ ولماذا سقط الشخص الفلاني أو الدولة الفلانيّة ؟ ) لها إجاباتها العلميّة الخاصّة التي تستند إلى تركيب أفراد المجتمع، ووضع قدرة أولئك الأفراد في المجتمع، والأحزاب والقبائل والأشراف ومواضعهم وعلاقاتهم. وقد ترتبط أحياناً بوجود أفراد من ذوي القدرة وبوجود الصفوة والرؤساء، وبطائفة من الآداب والعادات والعقائد والأفعال وردود الأفعال التي حصلت في ذلك المجتمع. ولو سادت مجتمعاً ما حسّاسياتٌ أخلاقية أو دينية أو قَبلَية أو عسكريّة وسلطوية ذات خصائص معيّنة، فإنّ التغيير الأساس سيدور حول ذلك المحور المعيّن.
وكان للمجتمع الذي استُخلف فيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد 25 سنة من وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعقيداته الخاصّة التي ينبغي دراستها من جانبيَن:
الجانب الأوّل: بلحاظ التعرّف على القبائل ومحاور النفوذ والقدرة.
الجانب الثاني: بلحاظ الآثار التي تركتها السنوات المتصرّمة منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وهناك ـ في الجانب الأول ـ عدة ملاحظات:
1 ـ إنّ القوّة كانت في يد قريش وحدها، وإنّ الآخرين لم يكن لهم القدرة على تشكيل دولة تضمّ جميع الأطراف.
2 ـ أنّ قبيلتَي تَيْم وعَدِيّ القرشيّتَين، ونفراً من بنيّ أُميّة ـ عثمان ـ قد تصدّوا للحكم خلال السنوات التي أعقبت وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانتهت بخلافة أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وأنّ هذه القبائل القرشيّة، بل قريش بأجمعها ـ عدا بني هاشم ـ قد خسرت الميدان.
3 ـ أنّ مرشّحي الجناح الآخر لحزب قريش ـ وهم بنو هاشم ـ قد وصلوا إلى الحكم مدعومين من قبل سائر الأحزاب الأخرى ـ أي من قِبل قبائل العراق. وقد ساهم التاريخ المشرق لهذا المرشّح، وتميّزه بعدم اختلاطه بالحكومات السابقة، في حيازته تأييد الأحزاب المخالفة، كما كان لشيعته دور فعّال في الدعوة إليه وفي إرساء قواعد حكومته.
4 ـ إنّ الأجنحة القرشيّة الأخرى شرعت بمخالفة أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد أن بايعه الناس، وخاضت ضدّه حربَي الجَمَل وصِفِّين، وشقّوا اتّحاد قبائل العراق في متابعته، فنشأ اتّحاد جديد ضدّه يتألّف من قبائل الشام وبعض قبائل العراق.
5 ـ وها هو أمير المؤمنين (عليه السلام) يقف وحيداً سنة 40 هجريّة، وقد تفرّق جُنده عنه ـ وكانوا يفتقرون إلى تركيبة قبليّة منسجمة ـ فانحاز بعضهم إلى الخوارج وشبّوا في معسكره نار حربٍ داخليّة جديدة، وبقي البعض الآخر لا حول له ولا قوّة، بينما يتحرّك ـ في المقابل ـ اتحاد جديد أوجَدَه معاوية بين القبائل المعارضة، في طريقه إلى السلطة نيابةً عن الجناح القرشيّ المهزوم. وقواعد لعبة السياسة الماكرة تقتضي هنا أن يكون معاوية هو الفائز في الميدان.
وقد استند هذا التحوّل إلى حقيقة الدور الكبير الذي لعبته القبيلة: ابتداءً من الأهميّة الكبيرة للمنافع القبليّة، ومروراً بالعناصر الثلاثة التي قادت مسير هذه التحوّلات:
1 ـ قريش.
2 ـ موضع سائر القبائل.
3 ـ الإسلام والمنزع الإسلامي.
فقد كانت السيادة لقريش، وكانت القبائل الأخرى هي الوسيلة لوصول قريش إلى الحكم. ونقصد بقُريش: بنو تَيم وبنو عَدي وبنو هاشم وبنو أُميّة، وكان الإسلام الذريعة التي استخدمتها غالبيّة قريش وعامّة الناس للوصول إلى السلطة، وكان الجميع ـ بطبيعة الحال ـ يصلّون ويحجّون؛ أمّا الإمام وخواصّه فقد انحصر همّهم في أن ينظروا إلى كلّ شيء من خلال الرؤية الإسلاميّة الخالصة، أي من رؤية كتاب الله وسُنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بينما لم يتجاوز هذا الأمر لدى الآخرين مجرّد الذريعة التي يتوصّلون بها إلى مقاصدهم، إذ لم ينظروا إليها إلاّ في حدود منافع قبائلهم التي تقوم على أساس من رعاية منافع النُّخبة.
وحسب تعبير الإمام (عليه السّلام) نفسه، كان الفاصل الكبير الذي يفصل بينه وبين الناس: أنّه كان يفكّر في الإسلام، وأولئك كانوا يفكّرون في أنفسهم، فكانوا ـ لذلك ـ يريدون إماماً يضمن لهم منافعهم الشخصيّة، أمّا أمير المؤمنين (عليه السّلام) فكان يريد قوماً يقيم بهم حدود الإسلام. يقول (عليه السّلام):
( إني أُريدكم لله، وأنتم تُريدونني لأنفسكم! ).
وكفى بذلك فارقاً كبيراً بين الطرفَين، فقد كان الإمام (عليه السّلام) ينظر نظرةً إلهيّة دينيّة، بينما لم يتجاوز نظر الناس منافعهم القبليّة. كان الناس يريدون منه أن يحفظ مركزيّة العراق، ويُغدق عليهم الغنائم من الثغور، وأن يعيشوا في رفاه واستقرار، وأن يصلّوا ـ بطبيعة الحال ـ ويصوموا، وأن يستخدموا الأعاجم من إيران والروم لتأمين منافعهم، وأن يكون للأشراف والنّخبة منافعهم الخاصّة التي تمكّنهم من استقطاب عامّة الناس، وبغير ذلك فإنّهم سيثورون ويمدّون أيديهم إلى عدوّ عليّ (عليه السّلام) اللدود، كما فعلوا ذلك فيما بعد
والأمر الآخر الذي ينبغي مناقشته هو الوقائع التي جرت خلال هذه السنوات الخمس والعشرين:
1 ـ جرى في بادئ الأمر تحرّك سريع لقمع مخالفي تيّار السقيفة، تبعها ـ في المرحلة اللاحقة ـ فتوحات وانتصارات متلاحقة وتدفّقت الغنائم على نحوٍ تغيّر معه وضع المسلمين كليّاً. وكان الطرف الآخر في هذه الحروب الكفّار ـ لا أهل القِبلة ـ أي أنّ المسلمين كانوا يجاهدون في هذه الفتوحات دون أن يدور بينهم اختلاف ما.
2 ـ حصل في هذه المرحلة اجتماعي مهمّ، هاجرت خلاله قبائل كثيرة من جزيرة العرب إلى العراق والشام، فتشكّلت ـ على نحو هادئ ـ إمبراطورية عظيمة مركزها المدينة، وحاكمها ( الخليفة ).
3 ـ حصل تحوّل في المجتمع العربي في العراق والشام من جراء تزايد الأعاجم بالهجرة أو بالأسر، ممّا جعل إدارة أمورها أصعب وأعسر من قبل.
4 ـ ظلّت دفّة الحكم بيد قريش، وكانت الدولة ـ كلّما اقتربنا من عهد عثمان ـ تصطبغ بالتدريج بصبغة قريش، بل بصبغة بني أميّة، وظهر نظام ملكي واسع يحاول الاستئثار بكلّ شيء، ويسعى إلى إدارة هذه الإمبراطورية الكبيرة من خلال أُفق ضيّق قبلي وعربيّ، بعيداً عن الإسلام وروحه. وقد عبّر عن سذاجته في إدارة الحكم بحصره جميع المنافع في الأمويّين، ممّا أثار حفيظة باقي القبائل، ودفعها ـ وقد رأت منافعها مُصادرَةً لحساب الآخرين ـ إلى الثورة.
5 ـ تمّ في هذه المرحلة ـ جرّاء السياسات الماليّة للخلفاء ـ إرساء نوعٍ من التفرقة الطبقيّة الخاصّة بين الناس، ففُضّل العرب على العجم، وفُضّل المهاجرون والأنصار على سواهم، فكان في ذلك خدش للعدالة الاجتماعيّة.
6 ـ وكان الصحابة الذين تفرّقوا في المدن المختلفة يديرون الأمور باللحاظ الفكري، ولم يكن للخليفة في المدينة حظّ كبير في العِلم، ولم يكن الصحابة ـ من الجانب الآخر ـ قد تلقّوا تعليماً منظّماً، فظهر إثر ذلك اختلاف في وجهات النظر في الدين والفقه، وتزايد الغموض والإبهام لانعدام المرجعية العلمية الواحدة، وظلّت الأسئلة تُطرح دون أن يُجيب عليها أحد، وكان موج من المسائل الجديدة يتدفّق من أطراف الإمبراطورية من قِبل الذين أسلموا حديثاً ومن قبل غير المسلمين، فيزيد في الغموض والإبهام.
واستتبع مجموع هذه المشاكل أن يفكّر الناس بعد الثورة على عثمان ـ نتيجة سخط سائر أجنحة قريش على حكومة عثمان وبني أميّة، وسَخط قبائل العراق على الجناح القرشيّ الحاكم ـ أن يفكّروا في مصلح يُعيد تنظيم الأمور ويُقرّ العدل في توزيع الثروات. وكان هناك أفراد قلائل يستهدفون في ثورتهم إحياء الإسلام، وهو ـ نفسه ـ الهاجس الرئيس لدى أمير المؤمنين (عليه السّلام)، إلاّ أنّ الأكثرية كانوا يرغبون في أن يُعاد تقسيم الثروات، على أن يكون للخواصّ والأشراف امتيازاتهم الخاصّة. وكان الشيعة يهدفون إلى القضاء على الفساد المستشري، وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وإلى الاستمداد من عِلم الإمام ـ بوصفه آخر الأوصياء ـ في الإجابة عن المسائل العالقة، ويأملون في إقرار حكومة لا تفكّر في الغنائم والفتوحات كثيراً، بل تضع نَصب عينها حماية الفكر والأخلاق في المجتمع الإسلامي، وتغلّ أيدي بني أميّة المتطاولة وتكبح جماع شرّهم.
وكان الإمام عليّ (عليه السّلام) يريد الناس لله ويريدهم لإحياء السنّة النبويّة، فبدأ عمله في الإصلاح ضمن هذا الإطار، فلقيَ تجاوباً جماهيريّاً في بادئ الأمر، وعَمِل (عليه السّلام) على الانتصاف للمظلومين من ظالميهم، وعلى إزالة الفواصل الطبقيّة بين الأشراف والأتباع، فلمّا يئس الأشراف والخاصّة من باطله ـ وكان لهم نفوذهم بين الناس ـ قاوموه. ولم يكن الإسلام قد استحكم في النفوس، ولم يكن عامّة الناس قد تلقّوا طوال السنوات الخمس والعشرين تربية ثقافية تُذكر، وكان للقبيلة مركزها الكبير الذي زاد تأثيره خلال الفترة التي أعقبت ارتحال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا عجب أن يعبّر أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن قلقه من هذا الوضع، في قوله (عليه السّلام) في الخطبة 192:
(فأَطْفِئوا ما كمَنَ في قُلوبكم مِن نيرانِ العصبيّة وأحقاد الجاهليّة، فإنّما تلك الحميّةُ تكون في المُسلم من خَطَرات الشيطان ونَخَواته، ونَزَغاته ونَفَثاته... ألا فالحَذَر الحَذَر من طاعةِ ساداتكم وكُبرائكم الذين تكبّروا عن حَسَبِهم، وتَرَفَّعوا فوق نَسَبِهم... فإنّهم قواعدُ أساسِ العصبيّة، ودعائِمُ أركان الفِتنة، وسُيوف اعتزاء الجاهليّة ).
لقد ترسّخت الممارسات التي استُعملت طوال السنوات السابقة فأضحت سُنّة، ولم يكن للناس دين راسخ يوحّدهم، ولا حميّة يدافعون بها عن كيان العراق مقابل عدوّهم في الشام، وكان همّهم في الغنائم، ذلك الهمّ الذي ورِثوه وألِفوه.
وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة السالفة تحليلاً مفصّلاً عن الوضع التاريخي لبني إسرائيل، وأسْرهم مِن قِبل الأكاسرة والقياصرة والفراعنة، ثمّ خاطبهم بقوله:
( ألا وإنّكم قد نَفَضتُم أيديكم مِن حَبل الطاعة، وثَلمتُم حِصنَ الله المضروبَ عليكم بأحكام الجاهليّة... واعلَموا أنّكم صِرتُم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاةِ أحزاباً، ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمِه، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسَمَه... ألا وقد قطعتم قيد الإسلام وعَطَّلتُم حُدودَه، وأَمَتُّم أحكامَه ).
ثمّ احتدمت الحرب ـ في مسيرة الإصلاحات ـ بين الإمام ومخالفيه، وكانوا من أهل القبلة، واختفت الغنائم في هذه الحرب فلم تَعُد على الناس بنفع مادّي، لذا نلحظ أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو يشير إلى صعوبة الحرب مع أهل القِبلة، ويبيّن أنّ أصحاب البصائر هم وحدهم الذين يمكنهم تشخيص الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل.
يقول (عليه السّلام) في الخطبة 173:
( قد فُتح بابُ الحرب بينكم وبين أهل القِبلة، ولا يَحمل هذا العَلَم إلاّ أهلُ البَصَر والصبر والعِلم بمواضع الحقّ، فامضُوا لما تُؤمَرون به، وقِفوا عندما تُنهَون عنه، ولا تَعجَلوا في أمرٍ حتّى تتبيّنوا ).
وعلى أيّ حال، فقد تزايدت الشبهات خلال هذه الحروب المدمّرة التي راح ضحيّتها عدد كبير. وكان معاوية يستعمل الدين كذريعةٍ ليس إلاّ، وكان من مصلحته ـ لذلك ـ أن تزداد الشبهات لدى أهل العراق. وكانت هناك أرضيّة ـ بطبيعة الحال ـ لرواج مثل هذه الشبهات؛ فقد شهد الناس حضور زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حرب الجَمَل، كما شاهدوا في صفّ خصوم أمير المؤمنين (عليه السّلام) صحابيَّين من كبار صحابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هما: طلحة والزبير. وكان مثيرو الشبهات لا يبرحون يقولون: انظروا كيف يُعامَل أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)!
وأدّى تزايد الشبهات واستحكامها في النفوس إلى تفرّق الناس عن الحقّ، وكان عدد أنصار أمير المؤمنين (عليه السّلام) يتناقصون بمرور الأيّام، ولا ينبغي نسيان الحِيَل التي كان معاوية وأعوانه يستخدمونها في إلقاء الشبهات وفي بثّ بذور التفرقة في صفوف الإمام عليّ (عليه السّلام)، كما لا ينبغي ـ من جانب آخر ـ تناسي روحيات أهل الكوفة الذين كان من أبرز سماتهم الاندفاع والتدخّل في شؤون الحكومة وعدم رعاية أسرارها.
وكان لرؤساء القبائل دور رئيسي في تسيير الناس والتأثير عليهم في الانحياز إلى أحد أطراف المواجهة. وكان الناس في ذلك العصر ـ ونقصد بالناس المستضعفين ذوي الوعي القليل ـ قد ابتعدوا عن الإسلام باعتباره المحور الأساسي للتحرّك، بل تخلّوا عن أهل البيت أحد الثقلَين اللذين أوصى بهما رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ثمّ جاءوا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) يبايعونه وينتظرون منه أن يسير بهم سيرة ( عمر )، فيفضّل أشراف المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يدركون الأبعاد الحقيقية لأمير المؤمنين (عليه السّلام) باعتباره إمام أهل البيت (عليهم السّلام). يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام):
( قد خاضُوا بِحارَ الفِتَن، وأَخذوا بالبِدَع دون السُّنَن، وأرَزَ المؤمنون، ونَطَق الضالّون المُكذِّبون. نحنُ الشِّعارُ والأصحاب، والخَزَنة والأبواب، ولا تُؤْتى البُيوت إلاّ مِن أبوابِها، فمَن أتاها مِن غَير أبوابِها سُمِّي سارِقاً ).
وكان لحضور الناس وكثرتهم أهميّة في نظر الإمام (عليه السّلام) في قبوله تحمّل المسؤولية في قيادتهم، أمّا إذا عجز الإمام ـ وهو القائد ـ عن الانتصاف للمظلوم وعن تطبيق أحكام الدين، فإنّ الرغبات المنحرفة لأكثريّة الناس لن يكون لها في نظره أيّ اعتبار، وحكومتهم على هذا الأساس ستكون لديه أدنى من عَفطة عَنز ـ كما في تعبيره الرائع (عليه السّلام)، فإنّ العارف برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبأهل بيته عليهم السّلام حقّ المعرفة إذا مات على معرفته، كان من الفائزين ولو مات على فراشه.
يقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة 190:
( الزَموا الأرض، واصبِروا على البلاء، ولا تُحرِّكوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتِكم، ولا تستعجلوا بما لم يُعجلّه اللهُ لكم، فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفةِ حقِّ ربّه وحقِّ رسولهِ وأهلِ بيته، مات شهيداً ووقع أجرُه على الله ).
الدعوة إلى الإصلاح، ونكوص الناس:
بدأ الإمام عليّ (عليه السّلام) حركته الإصلاحية الواسعة، وخصّص أكثر خُطَبه في بيان معرفة الله ورسوله وأهل بيته، وسعى دائباً ـ في المرتبة اللاحقة ـ إلى تحذير الناس من الميول الدنيويّة الهابطة، وجاهد في إحياء السنّة النبويّة، وفي القضاء على الظلم والفساد، وفي إرساء قواعد العدل والقضاء على الامتيازات الظالمة.
يُشير علم النفس الاجتماعي إلى أنّ الفساد إذا ساد مجتمعاً ما، ولمس أفراد المجتمع الأضرار المترتّبة على ذلك الفساد، وعانَوا منه الأمرَّين، فإنّهم سيقفون إمام الفساد الجديد، ويتّجهون إلى الإصلاح ويتبعون المُنادين به، أمّا ذا قلّت معاناة أفراد المجتمع من الفساد، فإنّهم ـ على العكس ـ سيعارضون مَن يحارب الفساد ويُنادي بالإصلاح. ولذلك يعمد أصحاب الحيلة والمكر إلى دراسة الظروف السائدة في المجتمع في فترة معيّنة، ويتعرّفون على رغبات الناس، ثمّ ينظّمون شعاراتهم على أساس تلك الرغبات، فيكسبون الناس إلى جانبهم.
لقد كان المجتمع قبل خلافة الإمام (عليه السّلام) في طريقه التدريجي إلى الانحراف، وكانت الفتوحات قد أثمرت غنائم وجواري وعبيداً، وكان الكثير ممّن ثاروا على عثمان إنما يطالبون بحصتهم من تلك الغنائم، ويستنكرون استئثار بني أُميّة بكلّ شيء.
وكان هؤلاء يتصوّرون أنّ الإمام علياً (عليه السّلام) ـ وقد استُخلف الآن ـ سيقدّم لرؤساء قبائل العراق ( الذين ثاروا على عثمان ) ما استأثر به بنو أميّة. وكان الهدف الأساس للكثير منهم هو أصلاح الوضع السائد في عهد عثمان، لا العودة إلى السيرة النبويّة الأصيلة التي نادى بها الإمام، وكان ذلك هو السبب في رفض الإمام (عليه السّلام) في البداية للتصدّي لمقام الخلافة، ولم يقبل بها إلاّ بعد أن عاهدوه على إجراء السيرة النبويّة.
وكان إصرار الإمام (عليه السّلام) على العودة إلى السيرة النبويّة يسلتزم الدعم الجماهيريّ، فقد كان بعض الناس يصرّح بأنّ على الإمام أن يسير بسيرة من سبقه من ( الخلفاء )، أي أن يلتزم بسياسة التفرقة بين العرب والعجم التي سار عليها من سبقه، بذريعة أنّ العرب هم أُسّ الإسلام وأساسه، وأنّ الأعاجم أدنى منهم في الدين.
ولذلك كان كلّما زاد وتعالى نداء الإمام بالإصلاح، تباعد عنه مَن حوله وتشتّتوا وقد شاهدنا أنّ طلحة والزبير اللذين وقفا بالأمس القريب ضدّ عثمان، كانا يتوقّعان من الإمام (عليه السّلام) أن يُشركهما في الحكم، فلّما رأيا إصراره على الالتزام بالسيرة النبويّة، ابتعدا عنه ـ مع أنّهما يفتخران بصُحبتهما وسابقتهما ـ وأثارا عليه العوامّ. ومن العجب أنّ المُناداة بشعار الإصلاح تجعل أكثر الناس يفرون. تماماً كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ) إذ ليس المقصود بهذه الآية أنّ القرآن ـ نعوذ بالله ـ سبب لإضلال الناس، بل يعني أنّ مَن يحبّ الفساد سينفر من دعوة الحقّ، فينغمس في الباطل والفساد أكثر فأكثر.
وفي مثل هذه الظروف، فإنّ دعوة الناس إلى الهداية كلّما زادت قلت استجابتهم لها، بل إذا أدرك هؤلاء الناس أنّ هذا المنادي يقصد هدايتهم وإصلاحهم فإنّهم سيفرّون منهم فرارهم من الأسد.
وقد أظهرت تجربة حكومة أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّ الناس قد وقفوا بالتدريج في وجه حكومة الإمام عليّ (عليه السّلام) العادلة على الرغم من انثيالهم عليه بادئ الأمر وإصرارهم على مبايعته، نقمةً منهم على فساد عثمان، ذلك أنّ ترجيحهم للدَّعة والراحة لم يسمح لهم أن يكونوا في ركاب الإمام (عليه السّلام) لتحقيق أهدافه الكبيرة، لأنّهم تعوّدوا على الباطل وألِفوه، أكثر ممّا أحبّوا السنّة ورغبوا فيها.
يقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة 176 في تقسيم الناس إلى قسمين:
( وإنّما الناس رَجُلان: مُتَّبِعٌ شِرعَةً، ومُبتدعٌ بِدعةً، ليس معه مِن الله سبحانه بُرهانُ سُنّةٍ ولا ضياءُ حُجّة ).
وليسَت هذه البدع التي يُشير إليها الإمام (عليه السّلام) إلاّ المسيرة المنحرفة التي وُجدت في عصر الخلفاء قبله. وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السّلام) الناسَ في خطبه بمجانبة الحقّ والانحياز إلى صفّ الباطل، وكان يدعوهم إلى التزام الحقّ ولو رأوا في الباطل نفعاً دُنيويّاً عاجلاً.
يقول (عليه السّلام) في الخطبة 125:
( إنّ أفضلَ الناسِ عندَ اللهِ مَن كانَ العملُ بالحقّ أحبَّ إليه ـ وإنْ نَقَصَهُ وكَرَثَهُ ـ من الباطلِ وإنْ جَرَّ إليه فائدةً وزادَهُ. فأينَ يُتاهُ بكم ؟! ومِن أين أُتِيتم ؟!... ما أنتم بوَثيقةٍ يُعلَقُ بها، ولا زَوافِرَ عِزٍّ يُعتَصَمُ إليها. لَبِئسَ حُشّاشُ نارِ الحربِ أنتم! أُفٍّ لكمّ! لقد لَقِيتُ منكم بَرَحاً، يَوماً أُناديكم ويوماً أُناجيكم، فلا أحرارَ صِدقٍ عند النِّداء، ولا إخوانَ ثِقَةٍ عِند النَّجاء ).
ونلاحظ أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) يستعمل أحياناً تعبيرات شديدة في وصف اختلاف الناس وتفرّقهم عن الحقّ، وكان ذلك منه (عليه السّلام) في وقتٍ كان يرى فيه معاوية على شُرف الانتصار في الحرب، ويرى أصحابه يَعصُون أمره، فكان يناديهم بـ ( أشباه الرجال )، لأنّه كان يشاهد عياناً أنّ معاوية على وشك الهجوم على العراق، وأنّه (عليه السّلام) استنفر أهل الكوفة فلم يجتمع له منهم ـ بشقّ الأنفس ـ إلاّ أقلّ من ألف نفر، فخطبهم (عليه السّلام) ( الخطبة 131 ) قائلاً:
( أيّتها النُّفوسُ المختلفة، والقُلوبُ المُتشتِّتة، الشاهِدةُ أبدانُهم، والغائبةُ عنهم عُقولُهم، أَظْأَرُكُم على الحقِّ وأنتم تَنفِرون عنه نُفورَ المِعزى مِن وَعوعةِ الأسد! هَيهاتَ أنْ أطلَعَ بكم سَرارَ العَدل، أو أُقيمَ اعوِجاج الحَقّ).
والخطب التي تتحدّث عن فرار الناس عن الحقّ كثيرة، جاء في الخطبة 175 قوله (عليه السّلام):
( أيُّها الغافلون... مالي أراكُم عن اللهِ ذاهبين، وإلى غَيرهِ راغبين ؟! ).
وفي الخطبة 39 قوله (عليه السّلام):
( مُنِيتُ بمَن لا يُطيعُ إذا أمَرتُ، ولا يُجيبُ إذا دَعَوتُ، لا أبا لَكُم! ما تَنتظرونَ بنَصرِكم ربّكم ؟! أمّا دِينٌ يَجمعكم، ولا حَميّة تُحْمِشُكم ؟! ).
وفي الخطبة 180 قوله (عليه السّلام) في ذمّ أصحابه:
( أيتّها الفِرقةُ التي إذا أَمَرتُ لم تُطِعْ، وإذا دَعَوتُ لم تُجِبْ، إنْ أُمْهِلتُم خُضْتُم، وإن حُوربتُم خُرْتُم، وإن اجتمعَ الناسُ على إمامٍ طَعَنتُم، وإن أُجِبْتُم إلى مُشَاقّةٍ نَكَصْتُم... ما تَنتَظِرون بنَصْرِكم والجهاد على حقِّكم ؟! المَوتَ أو الذُّلَ لكم! فواللهِ لَئِن يَومي ـ ولَيَأتِيَنّي ـ لَيُفَرّقَنّ بيني وبينكم وأنا لصُحبتكم قالٍ... للهِ أنتم! أمّا دِينٌ يَجمعُكم! ولا حَمِيّةٌ تَشْحَذُكم! أَوَ لَيس عَجَباً أنّ مُعاويةَ يدعو الجُفاةَ الطَّغامَ فيتّبعونَهُ على غير مَعونةٍ ولا عَطاءٍ، وأنا أدعوكم ـ وأنتم تَريكةُ الإسلام وبَقيّةُ الناس ـ إلى المعونةِ أو طائفةٍ من العطاء، فتَفَرّقون عَنّي وتَختلِفون عَلَيّ ؟! ).
الحسرة على الرجال الصادقين الراحلين:
تطرّق الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أواخر أيّامه ـ ضمن انتقاده الأشخاص الذين خذلوه في مسيرته لتحقيق الأهداف الإسلاميّة الأصيلة ـ إلى الكلام عن الرجال الصادقين الذين عاصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكانوا في إيمانهم وأعمالهم فُرسانَ ساحة الإسلام والإنسانية، وكان يتحسّر لفراقهم، ليس لكونهم الأكثريّة، بل لسبقهم إلى الحقّ، وتسابقهم إلى التضحية والفداء من أجل المبدأ.
يقول (عليه السّلام) في الخطبة 121:
( أين القَومُ الذين دُعُوا إلى الإسلام فَقَبِلُوه، وقَرأوا القرآنَ فأحكموه، وهِيجوا إلى الجهادِ فَولِهوا وَلَهَ اللِّقاح إلى أولادِها، وسَلَبوا السُّيوفَ أغمادَها، وأَخَذوا بأطراف الأرضِ زَحفاً زَحفاً وصَفّاً صفّاً؛ بَعضٌ هَلَك وبعضٌ نَجا، لا يُبَشَّرون بالأحياءِ، ولا يُعَزَّوْنَ عن المَوتى، مُرْهُ العُيونِ من البُكاءِ، خُمْصُ البُطونِ من الصِّيام، ذُبلُ الشِّفاهِ من الدُّعاء، صُفْرُ الألوانِ من السَّهَر، على وُجوههم غَبَرَةُ الخاشِعين. أُولئك إخواني الذاهبون، فحَقَّ لنا أن نَظمأَ إلَيهم، ونَعَضَّ الأَيدي على فِراقِهم. إنّ الشَّيطانَ يُسَنِّي لكم طُرُقَهُ، ويُريدُ أن يَحُلَّ دِينَكم عُقْدةً عُقدة، ويُعطيكم بالجماعةِ الفُرقَة، وبالفُرقةِ الفِتنةَ، فاصْدِفوا عن نَزَغاتِه ونَفَثاتِه، واقْبَلُوا النَّصيحةَ مِمَّن أهداها إليكم، واعقِلوها على أنفُسِكم ).
وقد بيّن (عليه السّلام) في خطبته المفصّلة 182 نقاطاً مهمّة، حيث يقول نَوْف البَكاليّ:
خَطَبنا بهذه الخطبة أميرُ المؤمنين عليّ (عليه السّلام) بالكوفة، وهو قائم على حجارةٍ نصَبها له جعدة بن هُبَيرة المخزوميّ، وعليه مِدرَعة من صوف، وحَمائلُ سَيفه لِيفٌ، وفي رِجلَيه نَعلانِ من لِيف، وفي جبينه ثَفنة من أثر السُّجود:
( ما ضَرَّ إخوانَنَا الذين سُفِكَت دِماؤُهم ـ وهُم بصِفِّين ـ أَلاّ يكونوا اليومَ أحياءَ ؟! يُسيغون الغُصَصَ ويَشربونَ الرَّنِقَ! قَد ـ واللهِ ـ لَقُوا اللهَ فوَفَّاهُم أُجورَهم، وأحلَّهُم دارَ الأمنِ بعدَ خَوفِهم .
أين إخواني الّذين رَكبوا الطَريقَ، ومَضَوا على الحقّ ؟! أَين عمّار ؟! وأين ابنُ التَّيِّهان ؟! وأين ذُو الشهادتَين ؟! وأين نُظَراؤهم مِن إخوانهِمُ الذين تَعاقَدوا على المَنِيّة، وأُبْرِدَ برُؤوسِهم إلى الفَجَرةِ ؟!).
قال: ثمّ ضَرَب بيده على لِحيته الشريفة الكريمة فأطال البُكاء، ثمّ دعاهم إلى الجهاد.
وقد سبق أن ذكرنا أنّ أتباع الإمام كانوا صِنفَين من الناس: عامّة الناس، وهم الذين تركوا أمير المؤمنين (عليه السّلام) وانحازوا إلى معاوية خلال عواصف المسيرة ومنعطفاتها. وشيعته المخلصون ـ وكان يُدعَون بشَرَطَة الخميس ـ وهم الذين اعتمد عليهم الإمام في حركته التغييرية الكبيرة، وقد خاطبهم (عليه السّلام) في الخطبة 118 بقوله:
( أنتم أنصارُ اللهِ على الحقّ، والإخوانُ في الدِين، والجُنَن يَومَ البأسِ، والبِطانةُ دُون الناس. بكم أضرِبُ المُدبِرَ، وأرجو طاعةَ المُقبِل، فأَعينوني بمُناصَحَةٍ خَلِيّةٍ من الغِشّ، سَليمةٍ من الرَّيب. فو اللهِ إنّي لأَولى النّاسِ بالنّاسِ ).
وهؤلاء الأتباع المخلصون هم الذين وقفوا إلى جانب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في جهاده العظيم، وكانوا يقبلون النصيحة ويَفُون بالعهد الذي عاهدوا عليه إمامهم (عليه السّلام) في أحلك الأوقات. وكان الشيعة الحقيقيّون يلمسون عياناً السيرةَ النبويّة وقد تجسّدت في السيرة العَلَويّة، فيحفظون مودّتهم ونُصرتهم لعليّ (عليه السّلام) وأهل بيته على هذا الأساس.
تَعارُض الرغبات:
ولابدّ من الحديث عن مَعلَم آخر في السيرة العلويّة، وهو أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يسعى في شرح مواقفه وآرائه للناس ـ وكان وقد رأى عصيانهم وتخاذلهم ـ أن لا يحملهم على ما يريد بالقوة والإكراه، ويتجلّى ذلك في قوله (عليه السّلام) في الخطبة 208:
( لقد كنتُ أمسِ أميراً فأصبحتُ اليومَ مأموراً، وكنتُ أَمسِ ناهياً فأصبحتُ اليومَ مَنْهِيّاً، وقد أحبَبْتُمُ البَقاء، وليس لي أن أحمِلَكم على ما تَكرهون ).
معاوية ومُداراة الناس:
تمكّن معاوية بدهائه من جذب عامّة الناس إلى معسكره، فحفظ منافع الشام لنفسه، وكسب رضا الناس، فمنحوه طاعتهم وأسلَسوا إليه قِيادَهم.
وإذا كانت الأكثريّة في صفّ معاوية، والأقليّة في صفّ الإمام عليّ (عليه السّلام)، فما هو الفارق الأساس بينهما ؟
لقد أجاز معاوية لنفسه استخدام سلاح الترغيب والترهيب في كسب الناس إلى صفّه، بينما رفض أمير المؤمنين (عليه السّلام) هذا الأسلوب ولم يُجِز لنفسه أتباعه، فقال (عليه السّلام):( أأطلُبُ النصرَ بالجَور) ؟!
أمير المؤمنين (عليه السّلام) المدافع عن حقوق الناس:
ولا يُنافي جميع ما ذكرناه كَون الحكومة مكلّفة بالدفاع عن حقوق الناس المشروعة، وحقيقة كون أمير المؤمنين (عليه السّلام) المُدافعَ الحقيقي عن تلك الحقوق المشروعة التي تستتبع كونهم مواطنين، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الذمّة. وقد عدّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أهم واجبات الإمام: رعاية أحوال الناس وإجراء العدالة بينهم، وتوعيتهم على أحكام الدين. وكان (عليه السّلام) يأمر جميع ولاته برعاية الناس وكسب ودّهم، حيث قال (عليه السّلام) في هذا الشأن:
( إنّ أفضلَ قُرّةِ عَينِ الوُلاة: استقامة العَدلِ، وظُهورُ مَوَدّةِ الرَّعِيّة ).
وكَتَب (عليه السّلام) إلى أحد ولاته على الأمصار:
( أنْصِفِ اللهَ وأنصِفِ الناسَ مِن نفسِك ومِن خاصّة أهلِك، ومَن لك فيه هَوىً من رَعيّتك، فإنّكَ إلاّ تَفعلْ تَظْلِم، ومَن ظَلَم عِبادَ اللهِ كان اللهُ خَصْمَه دُون عِباده ).
وعدّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة 136 مهمّته الأساسيّة: الانتصاف للمظلوم من الظالم، على شرط أن يُعينه الناس في ذلك، حيث يقول:
( أيُّها الناسُ، أَعينوني على أنفُسِكم، وأَيْمُ اللهِ لأُنصِفَنَّ المظلومَ مِن ظالِمِه، ولأَقُودنَّ الظالمَ بخزامَتِه حتّى أُورِدَه مَنْهَلَ الحقِّ وإن كان كارهاً ).
ولأمير المؤمنين (عليه السّلام) خُطب كثيرة تحدّث فيها عن العدالة وعن رعاية حقّ الناس، ورد معظمها في كتاب ( الغُرَر والدُّرَر) للآمُدي.
وكان (عليه السّلام) يعتبر أنّ من واجبات الإمام أن يجعل حياته في مستوى أدنى طبقات المجتمع وأفقرها، حيث قال (عليه السّلام) ـ وقد استكثر عليه البعض زُهدَه المتناهي ـ:
( وَيْحَكَ! إنّي لستُ كأنتَ؛ إنّ اللهَ فَرَض على أئمّة العَدْل أن يُقَدِّروا أنفُسَهم بضَعَفةِ الناس لِكَيْلا يَتَبَيّغَ بالفقير فَقْرُه ).
لقد دافع أمير المؤمنين (عليه السّلام) طوال حياته الثرّة الطافحة بالبركة عن حقوق الناس، وعن المستضعَفين منهم على الخصوص، وواسى فقيرَهم وعطف على أراملهم وأيتامهم، لكنّهم ظلموه وغمطوا حقّه ولم يَفُوا معه بعهده، حتّى قال (عليه السّلام):
( ولَقَد أصبَحتِ الأُمَمُ تخافُ ظُلْمَ رُعاتِها، وأَصْبَحتُ أخافُ ظُلْمَ رَعِيّتي! )