الذي يثير الانتباه جيداً هنا هو أن الله سبحانه حين ابتلي آدم عليه السلام بالأكل من الشجرة، وظهرت عليه عوارض البشرية، التي لا تتناسب مع الحياة في تلك الجنة..
أصبحت اللحظات الحرجة تمر عليه ببطء شديد، وتثاقل مرهق وقاس، ويتعاظم لديه الشعور بالضيق، وأصبح يتلهف للخروج مما هو فيه بأية صورة، وأصبح يحس باللحظات التي تمر، وكأن كل لحظة دهراً.. وصح التعبير من أجل ذلك بكلمة [ثُمَّ]، الدالة على التراخي، في قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ}..
الجائزة الكبرى للناجحين:
نعم، في هذه اللحظات بالذات شملته الرحمة الإلهية العارمة، حتى قبل أن يتفوه عليه السلام بأي كلمة ـ كما هو ظاهر السياق القرآني. وحباه جل وعلا بوسام الشرف والاستحقاق، وأعطاه جائزة سنية قبل أن يهبطه إلى الأرض، حين أناله مقام الاجتباء الإلهي.. المتمثل بعوده عليه بالألطاف والرحمات، والمواهب الجليلة. فقد قال تعالى:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}..
والجائزة إنما تعطى للناجح المميَّز الذي أنجز عملاً مرضياً، وخطيراً، ولا تعطى لمن عصى وتمرد، أو لمن فشل وسقط في امتحان الجدارة..
وذلك كله يشير إلى: أن لهذا العصيان الذي ذكر في الآية الكريمة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}.. معنى لا يتضارب مع إعطاء الجائزة على نفس هذا العصيان بالذات، وكانت الجائزة هي الاجتباء، والاصطفاء الإلهي له عليه السلام..
معنى الاجتباء:
والاجتباء كما قاله الراغب هو:
[الجمع على طريق الاصطفاء]..
وقال أيضاً: [اجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي، ليتحصل منه أنواع من النعم، بلا سعي من العبد. وذلك للأنبياء، وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء].. (1).
وليتأمل المتأمل هنا كيف جاء التعبير في الآية المباركة بكلمة [اجْتَبَاهُ]، وكأنها تريد أن تلمح إلى ما كان يعاني منه آدم عليه السلام من توزع مضنٍ، وانتشار وامتداد من موقع الحاجة والعجز، والضعف، في مختلف جهات حياته، فأصبح يجوع، ويعرى، ويمرض، ويعاني من الحر والبرد، ويضعف ويقوى، و.. و..
وأصبح بحاجة إلى من يساعده على جمع ذلك الشتات، ولملمة ذلك الانتشار، وسد هاتيكم الثغرات، وتقوية ضعفه، ورفع عجزه بما يناسب ذلك كله، وبما يتطلبه من تهيئة حاجات ومرافق، وما يفرضه من هدايات ودلالات.
كما أن بعض الأعلام قد ألمح إلى أن المراد: أن الله قد اجتبى آدم عليه السلام، أي جمعه إليه سبحانه وسلك به إلى نفسه، لا يشاركه فيه غيره، بما أعطاه من هدايات تيسّر له ذلك، من حيث أنه تعالى هو الرحيم بعباده، العائد عليهم بألطافه وعناياته..(2)
وخلاصة القول:
إن النبي آدم عليه السلام قد بادر إلى التضحية الحسية والواقعية بكل ما لديه في سبيل الوصول إلى مقامات جليلة وعظيمة عند الله، وقد ظهرت آثار هذه التضحية في البلاء الذي واجهه..
وبذلك يكون قد أثبت خلوصه، وكونه صفوة الله، فاستحق أن يجمعه الله إليه، وأن يصطفيه لنفسه، وأن يمنحه وسام الإجتباء لنجاحه في الإمتحان.. الذي لا ينجح فيه إلا صفوة الخلق..
فما صنعه الله له، ليس مجرد معونة لمن احتاج إلى المعونة، بل الموضوع موضوع مكافأة، وإعلان لمقام الاجتباء الرفيع، الذي يحتاج إلى أسباب كامنة في ذات الشخص المجتبى..
النبي آدم (عليه السلام) يتلقى الكلمات:
وقد حدثنا الله سبحانه: أنه سبحانه في غمرة هذا الحدث، وبعد الهبوط مباشرة، قد أعطى عبده آدم عليه السلام، كلمات تعقبتها التوبة عليه مباشرة، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}..
ولبيان ذلك نقول:
إن هذه الآية قد ألمحت إلى الأمور التالية:
1ـ دلالات قوله تعالى {فَتَلَقَّى}:
إن الله سبحانه لم يترك آدم عليه السلام يواجه المصاعب وحده، بل أمده مباشرة وبدون إمهال بأسباب الخلاص مما هو فيه. وكان آدم عليه السلام ينتظر هذه الأسباب، ويهيء نفسه لها ـ كما تشير إليه كلمة {فَتَلَقَّى} ـ التي جاءت بفاء التفريع، التي تفيد التعقيب من دون مهلة.
كما أنه لم يقل: فألقى إليه كلمات، بل قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}.. لأن التعبير بالتلقي يؤكد على هذا الانتظار من قبل النبي آدم عليه السلام لتلك الكلمات، مع استعداد وتهيؤ لاستقبالها، بما يليق بها ويناسبها، من وعي، وسمو روحي، وعرفان، لأنها كلمات شريفة وعالية، لا بد أن تتوفر فيه القابلية لنيلها، والوصول إليها، وإدراك ما يمكنه إدراكه، من حقائقها وحالاتها..
ويكون نفس وصولها إليه، وحلولها في قلبه ووعيه، وروحه، سبباً في رفع مشكلاته، وقضاء حوائجه، لأنه يصبح مستحقاً لذلك بنفس هذا النيل لتلك الكلمات..
فالتلقي إذن ملازم لفهم تلك الأسماء الدالة على حقائق تلك الموجودات الشريفة، والأسماء التي تشير إلى أصل وجودها، وتساعد على رسم صورة لها في وعيه..
ولأجل ذلك نقول: إنه إذا قال القائل: تلقيت فلاناً، فمعنى ذلك: أنه قد استعد وتهيأ، ليلاقيه بما يناسب حاله ومقامه..
2ـ التلقي للكلمات كان: {مِن رَّبِّهِ}..
ويلاحظ: أن هذه الكلمات قد تلقاها آدم عليه السلام من موقع الربوبية التي توحي بالرعاية والتنشئة الحريصة على مصلحته، والمهتمة بحفظه. على وفق الحكمة، والتدبير الصحيح، وتحت رعاية عين العلم الثاقبة والنافذة إلى الأعماق، والمحيطة بأسرار كل هذا الوجود، ومن هنا نجده تعالى يقول: {مِن رَّبِّهِ}.. ولم يقل من الله..
ولا بد أن تكون الكلمات المذكورة كلمات عظيمة، كما ربما تلمح إليه كلمة التلقي.
وكما يشير إليه تنوين التنكير الذي جيء به ـ في ما يظهر ـ لإفادة التعظيم.
بالإضافة إلى كونها آتية إليه من جانب العزة الإلهية، والفيض الربوبي، الذي ينتظره، وهو في أمس الحاجة إليه، بعد أن حدث له ما حدث..
3 ـ عظمة الكلمات التي تلقاها آدم (عليه السلام):
ثم جاءت التوبة عليه بعد تلقيه تلك الكلمات مباشرة، كما ألمح إليه التعبير بالفاء في قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ}، مما يعني أن هذا التلقي الكريم لتلك الكلمات، ووضعها في موقعها اللائق بها، وإدراك النبي آدم لمعانيها قد نتج عنه أن أصبح النبي آدم مؤهلاً للتوبة عليه، ولتلقي الرحمات الإلهية..
ولعل هذا التلقي للكلمات هو الذي نتج عنه الإجتباء، أو هو نفسه الإجتباء، أو ملازم له.. فإن الآية قد جعلت توبة الله على النبي آدم نتيجة للإجتباء تارة، ولتلقي الكلمات أخرى.. مما يعني أنهما أمران متلازمان على أقل تقدير، فإن الإجتباء مستلزم لرفع مستوى النبي آدم، وتقريبه إليه سبحانه، وجمعه شتاته، واصطفائه، وهذا ملازم لمزيد من الرقي في الوعي والرسوخ في الإيمان، وغير ذلك له عليه السلام..
ووعي تلك الكلمات هو الذي يجسد ذلك الرقي الذي ينتج عنه عودة الله سبحانه على آدم عليه السلام بلطفه وعونه ورعايته، ولهذا فإن الله لم يقل: دعا آدم ربه، فتاب عليه، بل قال: إن نفس تلقي النبي آدم للكلمات استتبع عود الله عليه..
الكلمات ليست مجرد قراءة دعاء:
وإن عظمة هذه الكلمات، ثم تفريع التوبة على تلقيها يشير إلى أن دورها في حياة آدم عليه السلام، من حيث كونها "كلمات"، تدخل في دائرة التلفظ المستتبع للتوبة.
وذلك يشير إلى أنها كانت مادة أساسية ومحورية في دعائه عليه السلام.. فهي إذن ليست مجرد قراءة دعاء، حتى لو كان هذا الدعاء هو:
[لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي، وأنت خير الغافرين.
لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فارحمني، وأنت خير الراحمين.
لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم]
لا، ليس المقصود بها خصوص هذا الدعاء، بل هي كلمات أخرى تحتاج إلى تعليم..
وهي كلمات لها شرف ومقام كريم عند الله، تحتاج إلى استعداد وتهيؤ لاستقبالها ولتلقيها.
أما مجرد التجاء المحتاج والمنكوب إلى الله سبحانه، والاعتراف أمامه بالقصور، وبالتقصير، وطلب العون، والستر، والمغفرة منه، كما تضمنته فقرات هذا الدعاء، فلا يحتاج إلى التعليم الإلهي، إذ إن ذلك هو ما تسوق إليه طبيعة الإنسان العارف بالله، الواقف أمام جلاله وعظمته، المدرك لمدى عجزه في مقابل قدرته تعالى، وضعفه مقابل قوته تعالى، وفقره وحاجته أمام غناه وكرمه سبحانه..
فليس هذا الدعاء إلا ذلك الخطاب المألوف، والواقعي، والطبيعي جداً، ولا يحتاج إلى تعليم. وليس هو بالأمر المغفول عنه، بل ينساق إليه المحتاج إلى الله في مواقع الشدة، خصوصاً من هو مثل النبي آدم عليه السلام، في معرفته بالله سبحانه، بفطرته وسجيته..
وذلك كله يجعلنا لا نقتنع بقول من يقول: إن الكلمات هي خصوص هذا الدعاء، بل لا بد أن يكون معه أيضاً ـ أو بالاستقلال عنه، ما هو أعظم وأهم وهي ـ أسماء أهل البيت عليهم السلام، وهم محمد، وعلي، وفاطمة، والحسنان صلوات الله عليهم أجمعين، ليكونوا شفعاءه ووسيلته، كما دلت عليه الروايات الشريفة،.(3).
وهذه الأسماء هي التي كان الله قد علمه إياها، في وقت سابق وذلك حينما أمر الملائكة بالسجود له، وأراد تعالى أن يظهر لهم عظمة آدم، وأنه لابد أن يوصل الكون إلى كماله من خلال معرفة خاصة تتناسب مع حقيقة تلك الموجودات العالية..
وليس للملائكة مثل هذه القدرات ـ نعم لقد علمه الله هذه الأسماء ـ ثم عرضهم على الملائكة، ورأى أنوارهم وشاهد مقاماتهم، وعرف أنهم هم الشفعاء الكرماء، الذين لا بد أن ينتظر مساعدتهم، فتهيأ واستعد لاستقبال الكلمات الدالة على عظيم شأنهم من ربه تبارك وتعالى..
4 ـ العلامة الطباطبائي (رحمه الله)، يؤيد ويؤكد:
هذا.. وقد ذكر العلامة الطباطبائي (قده) هنا، ما يؤيد ويؤكد على ما نقول. وهو أن الملائكة قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا}.. (4).
فهذا يعني: أنه تعالى قد أقام الحجة على الملائكة بتعليمه لآدم عليه السلام هذه الأسماء، مما يعني أنها أسماء من شأنها حل كل المشكلات، وإزالة كل آثار الظلم والمعاصي، ودواء كل داء، وإصلاح كل فاسد، فأسكتهم بذلك، وأقام الحجة عليهم.
وذلك معناه: أنها أسماء موجودات عالية، لا يتم كمال المستكمل إلا ببركاتها، وهي كما دلت عليه الأخبار أسماء أهل البيت (عليهم السلام).
أما قول بعضهم إن الكلمات هي قول آدم عليه السلام:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}..
فقد رده العلامة الطباطبائي (قده):
أولاً: بأن آيات سورة البقرة قد دلت على أن التوبة وقعت بعد الهبوط إلى الأرض. وهذه الكلمات قد صدرت من آدم عليه السلام قبل الهبوط كما في سورة الأعراف.
ثانياً: بل الظاهر هو أن قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}.. تذلل وخضوع قبال ندائه تعالى، وليس دعاء بالكلمات المتلقات (5).
ثم ذكر أخيراً.. أنه تعالى حين يعود إلى آدم عليه السلام ليستنقذه بلطفه، ويمده بعونه، ويقوي ضعفه، ويرفع عجزه، فإنما يفعل ذلك من حيث هو تواب كثير العودة إلى عباده، لمساعدتهم، وسد الخلل الذي يعانون منه، وإن عودته هذه إليهم إنما هي من موقع رحيميته بهم، التي يحتاجونها، لتقوي ضعفهم، ولتسدّ الخلل، وترفع النقص..
آثـار.. ونـتـائـج
ذاقا.. أكلا.. أزلهما عنها:
واللافت: أن الآيات الكريمة قد عبرت تارة بـ {ذَاقَا}.. وأخرى عبَّرت بـ {أَكَلا مِنْهَا}.. وثالثة بـ {أَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}..
وواضح: أن ثمة عناية خاصة في إبراز بعض الخصوصيات من خلال هذا التنوع في التعابير.
فهو حين يقول: {ذَاقَا}.. فإنه يكون قد بين أن الأكل لم يكن مجرد إيصال جزء من تلك الشجرة إلى جوف آكليه، فإن ذلك قد لا يكون هو المؤثر في سقوط الحجاب، وظهور السوءات. بل المؤثر هو التفاعل مع حقيقتها، والإحساس بخصوصيتها، من خلال تذوق طعمها..
ولذلك جاء التعبير ليعطي أن ما حصل كان اختراقاً، وخروجاً، وتجاوزاً للحدود المرتبطة بالشأن التكويني {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}.. وقوله: {فَأَزَلَّهُمَا}.. يشير إلى الاسترسال والجري، وفق السجية، واعتماداً على ظاهر الحال..
وإذا كانت هذه الحدود هي حدود التكوين، فإن اختراقها وتجاوزها سوف يترك أثره التكويني، من خلال حتمية الخضوع لنواميس الخلق والتكوين، التي أودعها الله في الخلق والخليقة، رحمة منه تعالى بها، ووفق مقتضيات التدبير والحكمة البالغة.
وحين قال: {أَكَلا مِنْهَا}.. فإنما أراد أن يحدد الطريقة التي حصل بها ذلك التفاعل مع حقيقة الشجرة، وأن الأكل كان هو سبب ظهور السوءات، وعوارض البشرية عليهما.. فهو يريد التأكيد على الارتباط المباشر بين هذين الأمرين..
وأما التعبير بـ: {أَزَلَّهُمَا}.. فإنه يريد أن يحدد لنا نتائجه الكلية المناسبة لطبيعة التعبير بالعنوان العام الذي هو الاسترسال، والاعتماد على ظاهر الحال، وأنه ينتج الخروج مما كانا فيه، والانتقال إلى موقع آخر، ليواجها حالاته وعوارضه..
السوءات؟!
والآيات الكريمة تكاد تكون صريحة في أن السوءات التي بدت، قد كانت مستورة عن آدم وزوجه عليهما السلام، لا أنها لم تكن ثم كانت..
وهذا يشير إلى أن المراد بالسوءات في الآيات ليس هو العورة بمعناها المعروف.. إذ لا شك في أن آدم عليه السلام كان يعرف أن له عورة، وكان يحس بها، ويعرف أنه رجل، ويعرف أن زوجه أنثى، ويعرف الفرق بين الرجل والأنثى، ويدرك معنى الزوجية بينهما.
ولكن جاء التعبير بالسوءات التي كانت كامنة، وغير بادية للكناية عن تلك الأحوال الصعبة التي من شأنها إذا ظهرت من كمونها، أن تدخل الخلل إلى حياته، وتوصل المساءة إليه، ويحصل له بسببها الشقاء الذي أشار تعالى إليه بقوله: {فَتَشْقَى}.. ثم كأنه فسره بقوله بعده: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}.
وقد عبر عن هذه السوءات بصيغة الجمع، لا بصيغة الإفراد والتثنية، ربما ليشير بذلك إلى كثرتها وتنوعها.
كما أنه قد أضاف كلمة [لَهُمَا] فقال: بدت لهما، ليتأكد أن المراد بالسوءات ليس هو العورة، لأن ظهور عورتيهما لهما مما لا ضير فيه، إذ الإنسان يشعر بعورة نفسه، ويراها. ولا ضير أيضاً في أن تبدو له عورة زوجه أيضاً..
ينزع عنهما لباسهما:
وقد كانت تلك الأحوال الصعبة التي عبر الله عنها بالسوءات على درجة من الخفاء والكمون، إلى حد أن آدم وزوجه عليهما السلام لم يكونا يريانها، لأنها كانت مواراةً أي مستورة عنهما بساتر وحجاب.
وتمثلت مشكلة آدم وزوجه عليهما السلام في أوجها وعنفوانها في أن إبليس قد استطاع أن ينزع عنهما لباسهما، ليريهما سوءاتهما.. وكان زوال هذا الستر قد حصل بفعل أنهما قد ذاقا الشجرة. مما يعني أن التفاعل الجسدي الناشئ عن هذا الأكل.. هو الذي أسقط ذلك الساتر عن السوءات..
وقد حاولا أن يستفيدا من سواتر الجنة، فلم تنفعهما بشيء {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}.. ولم يكن يمكنهم الاكتفاء بها، فإن الأمر يحتاج إلى سواتر من سنخ آخر، فكان لا بد لهما ـ من الناحية التكوينية ـ من الخروج إلى عالم جديد، يجدان فيه ما يسد الخلل، ويواري السوءات.
نعم لقد كان على آدم عليه السلام أن يعيد سائر الأحوال التي ظهرت عليه إلى ما كانت عليه من الكمون والخفاء ـ وقد أشارت بعض الروايات إلى ذلك، وإلى أن لباس الجنة لم يعد صالحاً لهما، وإلى أنهما قد اضطرا إلى حرث الدنيا ومطعمها، حيث قالت:
[.. وسقط عنهما ما البسهما الله من الجنة، وأقبلا يستتران من ورق الجنة] (6).
وفي نص آخر:
[بدت لنا عوراتنا، واضطررنا إلى حرث الدنيا ومطعمها] (7)..
فالجوع يحتاج إلى ستره بالشبع، والعري باللباس، والمرض بالدواء، والخوف بما يوفر الأمن، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحوال التي لا بد من إعادتها إلى حالة الكمون والخفاء..
مناقشة كلام الطباطبائي (قده):
نعم.. وهذا هو الأوفق بالسياق القرآني، ولأجل ذلك فنحن لا نرتضي ما ذكره العلامة الطباطبائي (قده) في تفسيره؛ حيث يقول:
[.. وآدم عليه السلام وزوجته، وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية، ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيراً، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوءاتهما، ولا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا، واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة.
وأنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما، ولما ينفصلا، ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة.
والدليل على ذلك قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا}، ولم يقل: ما كان ووري عنهما، وهو مشعر بأن مواراة السوأة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة، وإنما تمشت دفعة ما، واستعقب ذلك بإسكان الجنة، فإظهار السوءات كان مقضياً محتوماً في الحياة الأرضية، ومع أكل الشجرة الخ..] (8).
وقد ذكرنا فيما تقدم ما يشير إلى عدم إمكان قبول هذا السياق التفسيري من العلامة الطباطبائي رحمه الله.
ونضيف إلى ما قدمناه ما يلي:
أولاً: إنه لا دليل على ما ذكره (رحمه الله) من أن آدم عليه السلام وزوجه لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيراً..
ثانياً: قوله: إنهما لم يمهلا كثيراً ليدركا في الدنيا سوآتهما غير مقبول، إذ إنه لا دليل على أنهما لم يدركا في جنة الدنيا سوءاتهما، كما لم يدركا غيرها من لوازم الحياة الدنيا.. وأن عدم الإدراك هذا قد استمر إلى أن دخلا الجنة.
ثالثاً: قوله: إنهما حين أدخلهما الله الجنة لما ينفصلا، ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة.
غير ظاهر المراد..
فإنه إذا كان [قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية] على حد تعبيره، فما هو الدليل على أن إدراكهما كان متصلاً بعالم الروح والملائكة..
رابعاً: سلمنا اتصال إدراكهما بعالم الروح والملائكة، لكن كيف يثبت أن هذا الاتصال بقي مستمراً إلى حين دخولهما الجنة؟!..
خامساً: إنه حين خاطبهما بأن الأكل من الشجرة يستلزم الشقاء، ووعدهما بعدم الجوع، والعري، والظمأ، والضحى. هل فهما أقواله هذه؟ أم لم يفهماها؟. فإن كانا قد فهماها، وعرفا معانيها، فإنه يكون قد عرفهما بوجود عري، وجوع، وظمأ، ونحوها.. ووجود ما يستر العري، ويشبع الجوع، ويروي الظمأ، ويقي من حر الشمس في الضحى..
سادساً: قوله: إن مواراة السوأة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة، وإنما تمشت دفعة ما، ثم أعقب ذلك سكناه الجنة..
لا مجال لتأكيده، فإنه إذا أمكن ستر السوأة مقداراً ما فإنه يمكن سترها مقداراً أطول.. خصوصاً إذا لم يأكلا من الشجرة.. فإن إظهارها مشروط بذلك، فإذا أمكن أن يعيش في الحياة الدنيا من دون أن يأكل من الشجرة التي تظهر كوامن وجوده، فإنه سيبقى مستوراً.
ناداهما.. تلكما:
ويلاحظ أيضاً: أنه سبحانه حين حدث لآدم عليه السلام ما حدث لم يقل: [قال لهما ربهما]، بل قال: {نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا}.
ولعل ذلك يشير إلى أن ثمة حالة من البعد قد حصلت لآدم عليه السلام، لأن النداء إنما يكون من بعيد، والخطاب يكون للقريب.
ولعل سبب ذلك هو أن نفس الأكل من الشجرة قد جعله في موقع آخر، ليس هو الموقع الذي يفترض أن يكون فيه، ولأجل ذلك فقد أصبح بعيداً عن الشجرة أيضاً، وتبدل الخطاب منه تعالى من: {لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}.. وكلمة {هَذِهِ}.. تستعمل للقريب، إلى قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة}.. و {تِلْكُمَا}.. تستعمل للبعيد، منسوباً إليه وإلى زوجه..
فهذا البعد قد كان هو الأثر الطبيعي التكويني لذلك الأكل. وقد حصل ذلك قبل أن تصدر عن الله سبحانه أية إشارة تحكي حالة الرضا على النبي آدم، أو حالة الغضب، أو تشير إلى الأسف لما أصابه، أو تلومه على ما صدر منه.
فلما حصل الاصطفاء، والاجتباء، عاد النبي آدم ليحتل أقرب مواقع الرضا، واللطف الإلهي، كما أشرنا إليه أكثر من مرة..
هبوط إبليس:
وقد أهبط الله إبليس لعنه الله حتى من تلك الجنة التي في هذه الدنيا، عقوبة، وخزياً، وطرداً له من رحمة الله، وكان قد سبق ذلك هبوط آخر لإبليس من المقام الذي كان فيه مع الملائكة، سواء أكان ذلك الهبوط الأول، من جنة الخلد أو من مواقع القرب والزلفى في السماء حيث كان في مواقع الشرف مع الملائكة.. وهو ما عبر عنه بالخروج، المفيد للطرد المهين له في قول الله تعالى له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}.. (9).
وحتى لو كان النبي آدم في جنة الخلد، فإن هبوط إبليس معناه: أنه وإن كان قد طرد من الجنة ـ أولاً حين لم يسجد لآدم عليه السلام ـ لكنه ـ ربما ـ كان قادراً على الدنو منها، بحيث يسمع صوت من بداخلها.. فيكون هبوطه هذا بسبب هذا الجرم الحادث الذي ارتكبه في حق آدم وزوجه عليهما السلام هو بمعنى حرمانه حتى من الدنو والاقتراب منها.
ومن الواضح: أن بشرية النبي آدم عليه السلام، قد فرضت بروز تلك الحالات الكامنة فيه، كالجوع والعطش والانفعال بالحر والبرد، والتعرض للآلام والأمراض، وما إلى ذلك. لمجرد أنه ذاق الشجرة..
أما إبليس لعنه الله، فإنه بحسب طبيعة تكوينه، لا تعرض له نفس هذه الحالات.
فكان هبوطه يمثل إبعاداً له عن ساحة الرحمة الإلهية، وحرماناً له من مقام الكرامة الربانية.
هبوط النبي آدم (عليه السلام) في الأحاديث الشريفة:
وقد صرحت الروايات الشريفة بأن هبوط النبي آدم عليه السلام، قد كان بمعنى الانتقال إلى عالم جديد يتناسب مع الحالة التي استجدت له.
فقد روي أنه عليه السلام قال مخاطباً ربه:
[.. وبدت لنا عوراتنا، واضطرنا ذنبنا إلى حرث الدنيا، ومطعمها، ومشربها] (10).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:
[أخرجه الله، لأنه خلق خلقة، لا يبقى إلا بالأمر والنهي، والغذاء واللباس] (11).
فانتقال آدم عليه السلام من الجنة يشبه انتقال الجنين من عالم الجنينية بالولادة إلى هذا العالم الجديد بالنسبة إليه، حيث لم يعد يمكنه العيش فيه لاحتياجه إلى أمور لا يتحملها عالمه الأول، ولا يستجيب، ولا يستطيع تلبيتها له.
بخلاف هبوط إبليس، فإنه طرد وإبعاد وعقوبة له..
اهبطا.. واهبطوا:
ويبقى هنا سؤال: وهو أنه تعالى قد قال في سورة طه الآية 123: [اهْبِطَا] ولكنه في سورة الأعراف الآية 24، وفي سورة البقرة الآية 38 قال: [اهْبِطُواْ] فما هو السبب في ذلك؟!..
ونقول في الجواب:
إنه تارة يكون المقصود هو: إفهام كل واحد من المخاطبين أنه يتحمل المسؤولية بصورة مباشرة، وأن أي فرد آخر مهما كان موقعه، وأياً كانت طبيعة العلاقة معه، وخصوصية الصلة به، فإن ذلك ليس له أي تأثير في التخفيف من تبعات ما يقدم عليه.. ففي مثل هذه الحال، يحسن أن يوجه الخطاب لجميع الأفراد، ليشعر كل واحد منهم أنه مطالب ومؤاخذ ومسؤول.. وهذا هو ما تكفلت به آيات سورة البقرة، فيما يظهر..
وتارة يكون المقصود هو: الحديث مع فريقين لهما نهجان مختلفان، أحدهما سبيل هداية ونجاة، والآخر، سبيل ضلالة وهلاك.. فيأتي التعبير بصيغة المثنى: اهبطا، ليقرر: أن باب الخيار مفتوح أمام الأفراد أيضاً، للأخذ بهذا السبيل أو بذاك، فمن اتبع منهم طريق الهدى، فلا يضل ولا يشقى. وهذا هو ما ورد في سورة طه..
وتارة ثالثة: يراد الجمع بين كلا الحالتين، فمن جهة يراد الإلماح إلى أن الأفراد هم الذين يتحملون مسؤوليات أعمالهم أولاً، فيؤمر كل فرد بالهبوط إلى موقعه المناسب له، ليكون فيه..
ثم يشار من جهة ثانية: إلى أن هؤلاء الهابطين فريقان، يعادي كل منهما الآخر.. وإن كان فريق أهل الإيمان لا يعادي بعضهم بعضاً، بل هم إخوان على سرر متقابلين..
وربما يظهر ذلك: من ملاحظة سورة الأعراف الآية 24..
هدايتان:
وقد أشارت الآيات الشريفة إلى وجود هدايتين تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى..
أولاهما: هداية الله تعالى للنبي آدم عليه السلام قبل هبوطه، وقد أشير إليها بقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}..
الثانية: هدايته له تعالى بعد هبوطه، قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}..
فالهداية الأولى: تتمثل بمعارف، وآفاق يفتحها الله أمام أوليائه، وأنبيائه، على حد قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}..(12). أو {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}..(13). أو: [علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب]..
ومنها تلقى النبي آدم عليه السلام، الكلمات من ربه، ومعرفته بحقائقها، ومقاماتها..
والهداية الثانية: هي الهداية التكوينية، والفطرية، والإلهامية، والتشريعية، والعقلية، التي يحتاج إليها الإنسان في مسيرته في الحياة الدنيا.. كما أشرنا إليه في كتاب [تفسير سورة هل أتى] في أكثر من موضع..
المصادر :
1- المفردات في غريب القرآن ص87 و88.
2- تفسير الميزان ج14 ص 223.
3- الكافي وتفسير الميزان ج1 ص147 و148 عنه وعن الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم.
4- الآيتان 30 و31 من سورة البقرة.
5- تفسير المنير ج1 ص148 و149 وراجع ص133 و134.
6- تفسير الميزان ج1 ص139 عن تفسير القمي..
7- تفسير البرهان ج1 ص84 والبحار ج11 ص183 عن تفسير العياشي.
8- تفسير الميزان ج1 ص127.
9- الآيتان 34 و35 من سورة الحجر.
10- تفسير البرهان ج1 ص84 والبحار ج11 ص183 عن تفسير العياشي.
11- تفسيرالقمي ج1 ص43 والبحار ج11 ص161 وتفسير البرهان ج1 ص80 وج2 ص6.
12- الآية الأولى من سورة الإسراء.
13- الآية 18 من سورة النجم.