عربي
Wednesday 27th of November 2024
0
نفر 0

القدرية

القدرية أول الفرق الإسلامية المخالفة وقد ظهرت في بداية عهد الخليفة الأموي - عمر بن عبد العزيز وتبناها غيلان القدري وقد قتله الخليفة هشام بن عبد الملك بصلبه على أبواب الشام، القدرية نسبة إلى القدر وهو (تقدير الله للكائنات حسب ما سبق به علمه واقتضه حكمته) والإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وقد قال عبدالله بن عمر (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر)(1)
ولا يصح الإيمان بالقدر حتى يؤمن العبد بمراتب القدر الأربع وهي:
1- أن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي وعلم مقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (2)
2- أن الله سبحانه وتعالى كتب جميع الأشياء من خير وشر وطاعة ومعصية وآجال وأرزاق وغير ذلك كما قال تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (3)
3- أن الله سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته كما قال تعالى (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (4)
4- أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء من ذوات وصفات وأفعال فالجميع خلق الله سبحانه، وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته، فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله وأفعالهم تنسب إليهم فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها، والعبد فاعل حقيقة وله مشيئة وله قدرة قد أعطاه الله إياها، والله سبحانه هو خالقه وخالق أفعاله، وقدرته ومشيئته.

نشأة القدرية
أول ‌من قال بالقدر معبد الجهني البصري في آواخر عهد الصحابة، وأخذ عنه غيلان ‌الدمشقي، وقد تبرأ منهم من سمع بهم من الصحابة كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن ‌عباس وأنس بن مالك وعبد الله بن أوفى وعقبة بن عامر الجهني وغيرهم.‌
وفي صحيح مسلم عن يحي بن يعمر قال (كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد ‌الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا ‌أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فسألنا عما يقول هؤلاء في القدر، ‌فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب… فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ‌ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر ‌أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريئ منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به ‌عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن ‌بالقدر)(5)

وانقسمت القدرية اثنتي عشرة فرقة
الأحمرية وهي التي زعمت أن شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم ويحول بينهم وبين معاصيهم
الثنوية وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من إبليس
المعتزلة هم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا الرؤية
الكيسانية هم الذين قالوا لا ندري هذه الأفعال من الله أم من العباد ولا نعلم أيثاب الناس بعد الموت أو يعاقبون
الشيطانية قالوا إن الله لم يخلق شيطانا
الشريكية قالوا إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر
الوهمية قالوا ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات ولا للحسنة والسيئة ذات
الراوندية قالوا كل كتاب أنزل من الله فالعمل به حق ناسخا كان أو منسوخا
البترية زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته
الناكثية زعموا أن من نكث بيعة رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فلا إثم عليه
القاسطية فضلوا طلب الدنيا على الزهد فيها
النظامية تبعوا إبراهيم النظام في قوله من زعم أن الله شيء فهو كافر
و بحسب بعض كتب الدكتور محمد عمارة في هذا الموضوع، فمن بين أوائل القائلين بالقدر هم معبد الجهني (ت 80 هـ) وغيلان الدمشقي وابن مكحول.

طوائف القدرية
1- القدرية النفاة: وهم الذين يطلق عليهم أكثر العلماء اسم (القدرية) وهم الذين ورد فيهم الحديث عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) (6)
وحقيقة مذهبهم أنهم يقولون: إن أفعال العباد، وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فأثبتوا قدرة الله على أعيان المخلوقات وأوصافها، ونفوا قدرته على أفعال المكلفين، وقالوا: إن الله لم يردها ولم يشأها منهم، بل هم الذين أرادوها وشاءوها، وفعلوها استقلالاً بدون مشيئة الله.
ويزعمون: أنهم بهذا القول ينزهون الله عن الظلم، لأنه لو قدر المعاصي عليهم، ثم عذبهم عليها، لكان ظالما لهم، وللزم من إثبات قدرة الله على أفعالهم الجبر، الذي هو باطل بالشرع والعقل، كما تقدمت الإشارة إليه.
وسموا (مجوس هذه الأمة) لأنهم أشبهوا (المجوس) الذين أثبتوا خالقاً للخير وهو الله، وخالقاً للشر وهو إبليس .
2- القدرية المجبرة: وهم (غلاة الجهمية) الذين إمامهم في هذا وغيره (جهم بن صفوان) وهم يزعمون أن عموم مشيئة الله، وعموم إرادته تقتضي:
* أن العبد مجبور على أفعاله، مقسور مقهور على أقواله وأفعاله.
* لا قدرة له على شيء من الطاعات، ولا على ترك المعاصي.
* ومع أنه لا قدرة له على ذلك عندهم، فهو مثاب معاقب على ما لا قدرة له عليه.
وهذا القول من أشنع البدع وأخبثها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأئمة المهتدين، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
2- القدرية المشركون: وهم الذين اعتذروا عن شركهم وتحريمهم ما أباح الله بالمشيئة وجعلوا مشيئة الله هي محبته فقالوا (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)(7)
یقول الشيخ جعفر السبحاني في کتابه بحوث في الملل والنحل(8):
تكرّر لفظ «القدريّة» في كلمات أهل الحديث و المتكلّمين و مؤلّفي الفرق والملل والنحل، ورويت حولها أحاديث وهي إحدى المصطلحات الدارجة بينهم، وتحاول كلّ طائفة أن تتبّرأ منها وتتّهم مخالفها بها. نتحدّث عن سند الحديث أوّلاً، ودلالته ثانياً على وجه الإجمال، وإليك متن الحديث بصوره:
1- روى أبو داود عن عبدالله بن عمر أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال : «القدريّة مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم».
2- وروى أيضاً عن عبدالله بن عبّاس أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم».(9)
3- روى الترمذي عن عبدالله بن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم:«صنفان من اُمّتي ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة، و القدرية»(10)
إذا عرفت متن الحديث فإنّ الكلام يقع في موردين:
الأوّل: في سند الحديث. فهل روي بسند صحيح يمكن الاحتجاج به أو لا؟
الثاني: فما هو المقصود من القدريّة على فرض صحّته؟
أمّا من ناحية السند، فيكفي في ضعف الأوّل ما قاله المنذري: «إنّه منقطع لأنّه يرويه سلمة بن دينار عن ابن عمر، ولم يدركه، وقد روى عن ابن عمر من طرق لا يثبت منها شيء».
و يكفي في ضعف سند الثاني وجود «حكم بن شريك الهذلي البصري» فيه وهو مجهول لم يعرف.
و في ضعف سند الثالث وجود «محمّد بن فضيل بن غزوان» وهو ضعيف(11)
أضف إلى ذلك أنّ جمعاً من الحفّاظ عدّوا أصل الحديث من الموضوعات. منهم سراج الدين القزويني قال: إنّه موضوع و تعقّبه ابن حجر(12)
و قال أبوحاتم: «هذا الحديث باطل»، وقال النسائي: «هذا الحديث باطل كذب»،وقال ابن الجوزي: «حديث لعن القدريّة لا شكّ في وضعه»(13)
هذا وضع السند، وأمّا الدلالة، فقد اختلف النّظر في مفاده، كلّ من المجبّرة والعدليّة يتبرّأ منه، ويريد تطبيقه على خصمه. فأهل الحديث و الحشويّة والسلفيّة والأشعريّة الّذين يتّسمون بسمة الجبرالجليّ أو الخفيّ، يفسّرون القدريّة بنفاة القدر، من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه، والمعتزلة و أسلافهم، أعني دعاة الحريّة و الاختيار يتّهمون الجبرية بالقدريّة، لأنّهم قائلون بالقدر و التقدير، وأنّ كل شيء يتحقّق بتقدير من الله سبحانه و لا محيص عمّا قدّر وقُضي.
وهناك كلمة للعلاّمة محمّد بن علي الكراجكي (م 449) من تلاميذ الشيخ المفيد لا بأس بنقلها، قال : «ولم نجد في أسماء الفرق ما ينكره أصحابه و يتبرّأ منه سوى القدرية».
فأهل العدل يقولون لأهل الجبر : أنتم «القدريّة»، وأهل الجبر يقولون لأهل العدل: «أنتم القدريّة»،و إنّما تبرّأ الجميع من ذلك لأنّهم رووا ـ من طريق أبي هريرة ـ عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه لعن القدرية وقال : «إنّهم مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم»(14)
وقد حاول الأشعري تطبيق الحديث على المعتزلة وقال : «زعمت القدريّة ـ يريد بها المعتزلة وأسلافهم ـ أنّا نستحقّ اسم القدر، لأنّا نقول: إنّ الله عزّ و جلّ قدّر الشرّوالكفر، فمن يثبت القدر كان قدريّاً دون من لم يثبته».
ثمّ أجاب عن استدلال المعتزلة وقال : «القدريّ من يثبت القدر لنفسه دون ربّه عزّ و جلّ، وأنّه يقدّر أفعاله دون خالقه، وكذلك هو في اللّغة، لأنّ الصائغ هو من زعم أنّه يصوغ دون من يقول إنّه يصاغ له، فلمّا كانت المعتزلة تزعم أنّهم يقدّرون أعمالهم ويفعلونها دون ربّهم، وجب أن يكونوا قدريّة، ولم نكن نحن قدريّة لأنّا لم نضف الأعمال إلى أنفسنا دون ربّنا ولم نقل : إنّا نقدّرها دونه. قلنا إنّك تقدّر لنا»(15)
يلاحظ عليه: أنّ القضاء و القدر من الكلمات الواردة في الكتاب والسنّة بكثرة. والفاعل في الجميع هو الله سبحانه و تعالى، لا الإنسان قال تعالى : (والّذي قدّر فهدى)(16) وقال : (إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر) (17). فلو أطلق «القدريّة» يراد به المعتقد لما جاء في المصدرين من قضاء الله و قدره، لا المعتقد بأنّ الإنسان هو الّذي يقدّر أفعاله و أعماله.
وأعجب من ذلك قياسه اسم الفاعل على المصادر المنسوبة، فالأوّل كالصائغ يراد منه الفاعل أي من يصوغ، دون الثانية. بل يراد منها المعتقد بالمصدر الّذي نسب إليه، كالجبريّة : من يعتقد بالجبر، والعدليّة : من يعتقد بالعدل، وهكذا.
ثمّ إنّ هنا محاولات اُخرى لأجل تطبيق الحديث على عقيدة دعاة الحريّة والاختيار غير ما عرفته من كلام الأشعري من أنّ الإنسان هو المقدّر لأعماله، كما عرفت ضعفه وإليك بيانها:
1- القدريّة منسوبة إلى «القدرة» بمعنى الاستطاعة، فمن قال بتأثير قدرة الإنسان في فعله و أنّها المصدر له، فهو قدريّ.
يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ هذا الوجه لوجب ضمّ الفاء دون فتحها، والمشهور هو الأوّل ولم يسمع الثاني.
أضف إليه أنّ المناسب على هذا الوجه هو التعبير «بالقادرية» لا «القدرية» بضمّ الفاء الّذي هو غير مأنوس للأذهان و الأفهام.
2- إنّ الحديث من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه، أي نفاة القدر و منكروه، وسيأتي في حديث أحمد ما يوافق ذلك.
يلاحظ عليه: أنّه لم ير مثله في أمثالها، فلا تطلق الجبريّة، ولا العدليّة على نفاة الجبر والعدل.
أضف إليه أنّه لم يظهر من هؤلاء ـ أعني معبداً الجهني ولا غيلان الدمشقي ـ إنكار التقدير بالمعنى الصحيح، غير المنافي للحريّة والاختيار، فإذا أردنا أن نعرف مذهبهم في مجال القضاء و القدر، فيلزم علينا الرجوع إلى مذهب خصومهم، فإنّ الاُمور تعرف بأضدادها، و حاشا أن يكون المسلم الواعي منكراً للقضاء والقدر الواردين في الكتاب و السنّة، غير السالبين للاختيار و الحريّة، غير المنافيين لصحّة التكليف و بعث الرسل. و إنّما أنكروا القدر بالمعنى الّذي كان البلاط و مرتزقته ينتحلونه لتبرير أعمالهم الإجراميّة، ولا يرون للإنسان ولا لأنفسهم أيّة مسؤوليّة فيها، و يرفعون عقيرتهم بأنّ كلّ ما في الكون من خير و شرّ، وكظّة وسغب، إنّما يرجع إلى إرادته سبحانه. فلايصحّ الاعتراض على جوع المظلوم و شبع الظالم. وهؤلاء الأحرار قد قاموا في وجهالأمويين وأنكروا القدر بهذا المعنى الّذي يعرّف الإنسان كالريشة في مهبّ الريح.ونفي القدر بهذا المعنى، غير نفيه بالمعنى الصّحيح سواء فسّر بالعلم والارادة الأزليين، أم بتقدير الأشياء و القضاء على وجودها و تقدير الإنسان بينهما موجوداً مختاراً مسؤولاً عن فعله، والقضاء على ما يصدر منه بهذه الصورة على ما أوضحناه في محلّه.
3- ما نقله الشيخ أبو زهرة عن الشيخ مصطفى الصبري شيخ إسلام (تركيا) السابق وهو مقاربة رأيهم بعض عقائد المجوس، فالمجوس ينسبون الخير إلى الله والشرّ إلى الشيطان و كذلك هؤلاء القدريّة يفرقون بين الخير و الشر فيسندون الخير إلى الله والشرّ إلى الشيطان(18)
يلاحظ عليه: أنّ نسبة الثنوية بالمعنى الّذي ذكره شيخ إسلام تركيا إلى المعتزلة رجم بالغيب، فإنّ المعروف من مذهب المعتزلة فضلاً عن أسلافهم هو نسبة الخير و الشرّ إلى الإنسان نفسه لا التّفريق بينهما.
وهذا كلام قاضي القضاة عبد الجبّار، يمنع بتاتاً عن انتساب فعل الإنسان إلى الله خيره و شرّه و يقول : «إنّ أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنّها من الله و من عنده و من قبله، وذلك واضح، فإنّ أفعالهم حدثت من جهتهم و حصلت بدواعيهم و قصودهم، واستحقّوا عليها المدح و الذّم، والثواب و العقاب فلو كانت من جهته تعالى أو من عنده أو من قبله لما جاز ذلك ...»(19)
ولو أنّ الرّسول يعدّ القدريّة في هذا الحديث مجوس هذه الاُمّة، ففي بعض ما روي عن ابن عمر عن الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عدّت نفاة القدر مجوس الاُمّة، وإليك نزراً منه:
روى أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : «لكلّ أُمّة مجوس، ومجوس أُمّتي الّذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم»(20)
وروى الترمذي و أبو داود عن نافع مولى ابن عمر أنّ رجلاً جاء ابن عمر فقال: «إنّ فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال ابن عمر : بلغني أنّه قد أحدث التكذيب بالقدر،فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني السّلام فإنّي سمعت رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول : «ويكون في هذه الأُمّة، أو في أمّتي ـ الشكّ منه ـ خسف و مسخ و ذلك بالمكذّبين بالقدر»(21)
ولا يخفى وجود التعارض الصّريح بين كون القدريّة مجوس الاُمّة، و كون نافي القدر مجوسها. و تفسير الأوّل بنفاة القدر تفسير بلا دليل، بل تفسير على خلاف اللّغة والعرف.
و يكفي في ضعف الحديث الثاني أنّه وقع التكذيب و صدر الشك في القدر في العصور الماضية، ولم يعمّ الخسف والمسخ للمكذّبين و الشاكّين فيه.
إنّ السابر في كتب الحديث والتاريخ والملل والنحل يرى العناية التامّة من أصحاب الحديث و غيره لمسألة القدر. و قد كانت تحتلّ في تلك العصور، المكانة العليا بين المسائل العقيديّة حتّى كان مدار الإيمان و الكفر فكان المثبت مؤمناً و النافي كافراً.
هذا مع أنّ الرسول الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام آلاف القائلين بالشهادتين من دون أن يسألهم ولو في مورد عن القضاء والقدر، وأنّه هل يعتقد القائل، بأنّ الله سبحانه يقدّر أفعال الإنسان و أعماله، فيحكم عليه بالإسلام أو لا، فيحكم عليه بالكفر.
إذن فما معنى هذه العناية الحادثة بعد رحلة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بهذه المسألة؟
أليس هذا يدفع الإنسان إلى القول بأنّها كانت مسألة مستوردة، زرعها الأحبار والرّهبان، وغذّتها السلطة الأموية و ... وبالتالي شقّ بها عصا المسلمين و صاروا يكفّر بعضهم بعضاً.
هذا و إنّ الشيخ البخاري يروي عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزّكاة والحجّ وصوم رمضان»(22)
وروى عبادة بن الصامت و كان شهد بدراً و هو أحد النقباء ليلة العقبة: أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال ـ وحوله عصابة من أصحابه ـ : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً و لا تسرقوا و لا تزنوا و لا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم و أرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله و من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له، و من أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه و إن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك(23)
فلو كان للاعتقاد بالقدر، تلك المكانة العظمى، فلماذا لم يذكره رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّمولو في مورد، ولماذا تركه سبحانه عند أمره رسوله بأخذ البيعة عن النساء؟(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(24)
كلّ ذلك يشرف الإنسان على القطع بأنّ البحث عن القدر و المغالاة فيه، كان بحثاً سياسياً وراء ه غاية سياسية لأصحاب السلطة و الإدارة. و إلاّ فلا وجه لأن يتركه الوحي في أخذ البيعة عن النساء. ولا الرسول الاكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في عرض الإسلام و تبيينه وقبوله من الآلاف المؤلفة من المتشرفين بالإسلام.
المصادر :
1- صحيح مسلم 8
2- العنكبوت 64
3- الحج 70
4- التكوير 28-29
5- صحيح مسلم 8
6- رواه ‌أبو داود (4691) والحاكم (1/85) وحسنه الألباني
7- الأنعام 148
8- بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 124 ـ 130
9- كذا في جامع الاُصول ولكن في سنن أبي داود، «عمر بن الخطاب» مكان «عبد الله بن عباس»، لاحظ: ج 4، ص228، الحديث 4710.
10- جامع الاُصول: ج 10 ص 526.
11- جامع الاُصول: ج 10 ص 526.
12- جامع الاُصول: ج 10 ص 526
13- الموضوعات لابن الجوزي: ج 1 ص 275 ـ 276 واللئالي المصنوعة للسيوطي، ج 1، ص 258
14- كنز الفوائد: ج 1 ص 123 ط بيروت
15- الابانة: ص 146
16- الأعلى/3
17- القمر/49
18- تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 124
19- شرح الاُصول الخمسة: ص 778
20- مسند أحمد: ج 2 ص 86
21- جامع الاُصول: ج 10 ص 526 ـ 527
22- صحيح البخاري: ج 1 ص 7 من كتاب الايمان
23- صحيح البخاري: ج 1 ص 8 ـ 9 من كتاب الايمان
24- الممتحنة / 12

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الأحكام الثابتة والمتغيّرة
حقوق الأبوين في القرآن الكريم والسنة النبوية
و الصحه الصوم
الفاكهـــة و فـــوائدهــــا
السيد محمد قلي اللكهنوي
الألفة والحبّ
عندما تتعب الروح ما هو العلاج؟
آية الله الآصفي: من سمع مظلوما يستغيث فلم يغثه ...
تربية الأطفال بين الهدف والوسيلة
زيارة عاشُوراء غَير المشهُورة

 
user comment