ليس فوق قول أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قول لأحدٍ - بلاغةً وصدقاً وحكمةً - إذا استثنينا قول الله تبارك وتعالى، وقول رسوله (صلّى الله عليه وآله)، لأنهم من أفصح من نطق بالضّاد، ومن أبرز من تكلّم بالصدق، ومن أصدق من جاهر بالحقّ.. فما في حكمهم منفذ لاعتراض معترض، إلاّ أن يردّ الإنسان على الله سبحانه وعلى رسوله - والعياذ بالله - لأنّ قولهم منزل من المنزل ما حادوا فيه حرفاً عن القرآن الكريم، ولا عدوا فيه لفظةً عن السنّة النّبويّة الشريفة، لأنّهم عدل القرآن وحملة السنّة؛ بل القرآن هو القرآن الصامت، وهم - هم - القرآن الناطق والسنّة المبيّنة.
ونحن نتحدّى ذوي الأفهام، وأرباب العلم والفضل، أن يطعنوا في قولٍ قالوه، أو حكم أصدروه، أو بيان فصّلوه، أو حكمةٍ نطقوا بها، أو أن يجدوا في جميع ذلك معارضةً لما نزل من عند الله عزّ وعلا، أو اختلافاً عمّا جاء به رسوله محمد (صلّى الله عليه وآله)، في جميع ما أحلّوه وسائر ما حرّموه.. وقد أجاد من قال في كلام جدّهم أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق!.
ولإمامنا أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ، الهادي (عليه السلام)، كلام في التوحيد، والتشبيه، وصفات الله الثّبوتيّة، وفي الخلق والإيجاد، والتكليف، والجبر والتفويض وغير ذلك من الحكم البليغة.. نضع بين أيدي قرّائنا الكرام ما وقع منه في يدنا ليروا بلاغة القول وصدقه ودقّته وحقيقته:
قال الفتح بن يزيد: (سألته عن أدني المعرفة؟
فقال: الإقرار بأنّه لا إله غيره، ولا شبيه ولا نظير، وأنّه قديم، مثبت، موجود غير فقيدٍ، وأنّه ليس كمثله شيء)(1).
وقال حمزة بن محمد: (كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الجسم والصورة؟
فكتب: سبحان من ليس كمثله شيء، لا جسم ولا صورة)(2).
وقال محمد بن الفرج الرّخجي: (كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) عمّا قال هشام بن الحكم في الجسم، وهشام بن سالم في الصورة؟
فكتب: دع عنك حيرة الحيران، واستغذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قال الهشامان)(3).
وهذان الهشامان كانا من أجلّ أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليه السلام). وما نسب إليهما من التجسيم مكذوب عليهما فيه، وقد رميا بهذه الفرية للحطّ من منزلتهما. وقد دافع السيد المرتضى - قدّس الله سره - عنهما وبرّأ ساحتهما من هذه التّهمة وذلك الدسّ الرّخيص، في كتابه (الشافي) ومن شاء فليراجع حججه الدامغة وبيانه القاطع.
وقال الصقر بن دلف: (سألت أبا الحسن، عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى - بن الرّضا (عليهم السلام) - عن التوحيد، وقلت له: أقول بقول هشام بن الحكم؟
فغضب ثم قال: ما لكم ولقول هشام؟، إنّه ليس منّا من زعم أنّ الله عزّ وجلّ جسم؛ ونحن منه براء في الدّنيا والآخرة!.
يا بن دلف: إنّ الجسم محدث، والله محدثه ومجسّمه. وأنا أذكر الدليل على حدوث الأجسام في باب الدليل على حدوث العالم من هذا الكتاب، إن شاء الله)(4).
وفي هذا الكتاب المختصر نكتة خفيّة في غاية الدقّة والعمق. فمن المسلّم به المتسالم عليه أنّ العالم محدث، ولا نزاع في ذلك البتّة. وعلى هذا الأساس لفت (عليه السلام) نظر صاحبه إلى حدوث الأجسام من خلال حدوث العالم بدون أن يخوض معه في حديثٍ طويل. فالله سبحانه وتعالى قد أفاض الوجود عن محض إرادته بعد أن كان في كتم العدم، وكذلك أفاض وجود الأجسام وجميع الكائنات؛ فهو ليس بجسمٍ، بل هو مجسّم الأجسام كلّها؛ وهو مصوّرها ومحدثها.
وقد ثبت عنه وعن أبيه سلام الله عليهما أنهما قالا: (من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة ولا تصلّوا وراءه)(5). ذلك أنه يكون من المشبّهة الذين أضلّهم الشيطان فتصوّروا له جسماً وصورة.. تعالى الله عن أن يتصوّر في الأوهام أو أن يتخيّل في العقول..
وقال محمد بن عيسى:
(كتبت إلى أبي الحسن، عليّ بن محمد (عليه السلام): أنّ الله في موضعٍ دون موضعٍ على العرش استوى؟ وأنّه ينزل في كلّ ليلةٍ في النصف الأخير من اللّيل إلى السماء الدّنيا. وروي أنّه ينزل في عشيّة (عرفة) ثم يرجع إلى موضعه!. فقال بعض مواليك في ذلك: إذا كان في موضع دون موضع، فقد يلاقيه الهواء ويتكنّف عليه. والهواء جسم رقيق يتكنّف على كلّ شيءٍ بقدره. فكيف يتكنّف عليه جلّ ثناؤه على هذا المثال؟!.
فوقّع (عليه السلام): علم ذلك عنده، وهو المقدّر له بما هو أحسن تقديراً. واعلم أنه إذا كان في السماء الدّنيا فهو كما هو على العرش، والأشياء كلّها له سواء: علماً، وقدرةً، وملكاً، وإحاطة)(6).
وقد علّق عليه في (الكافي). قائلاً: (أي علم كيفيّة نزوله عنده سبحانه، وليس عليكم معرفةً ذلك. ثم أشار إشارةً خفيّةً إلى أنّ المراد بنزوله وتقديره، نزول رحمته وإنزالها بتقديره بقوله: (وهو المقدّر له بما هو أحسن تقديراً) ثم أفاد أنّ ما عليكم علمه أنه لا يجري عليه أحكام الأجسام والمتحيّزات من المجاورة والقرب المكانيّ، والتمكّن في الأمكنة، بل حضوره سبحانه حضور وشهود علميّ، وإحاطة بالعلم والقدرة والملك بقوله (عليه السلام): (واعلم أنّه إذا كان في السماء الدّنيا، فهو كما هو العرش، والأشياء كلّها له سواء: علماً، وقدرةً، وملكاً، وإحاطة). وهو تعليق أيضاً جيد متين في غاية الجودة.
وقال أحمد بن إسحاق:
(كتبت إلى أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ العكسريّ أسأله عن الرؤية - أي إمكان رؤية الله عزّ وجلّ عن ذلك - وما فيه الخلق؟
فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر. فمتى انقطع الهواء، وعدم الضيّاء، لم تصحّ الرؤية. وفي جواب اتّصال الضّياءين: الرائي والمرئيّ، وجوب الاشتباه. والله تعالى منزّه عن الاشتباه، فثبت أنه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالأبصار، لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات)(7).
وورد عنه (عليه السلام)، بلفظ (..لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر. فإذا انقطع الهواء وعدم الضيّاء بين الرائي والمرئيّ لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه، لأنّ الرائي متى ساوى المرئيّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية، وجب الاشتباه وكان في ذلك التشبيه، لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات)(8).
فمن لقّنك الفيزياء وعلم الطبيعة يا سيّدي وقد كنت بين الجواري السّود في طفولتك، ورهن الرقابة والقيود في يفاعك، وحبيس السجون والسدود منذ مطلع فتوّتك وشبابك؟!. من علّمك هذا وأنت في مرصدٍ من العيون المتفتّحة عليك والأنياب المكشرة التي لو أتيح لها لنهشت لحمك وعرّقت عظمك منذ بزوغ نجمك حتى تدرّجك نحو الكهولة؟!.
قد علّمك ذلك ملهم العلوم كلّها لجدّك أمير المؤمنين، باب مدينة علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولجدّك الإمام الصادق ولسائر أبائك من قبله ومن بعده عليهم الصلاة والسلام.. فأنتم ذريّة أولها كآخرها، وصغيرها ككبيرها، يدور العلم على ألسنتكم كما يدور الخاتم في الخنصر، وتتدفّق الحكمة من ألسنتكم والرحمة من قلوبكم كما يتدفّق الماء الزّلال من النبع الثّرّار!. ولقد كان الأحرى بمن نازعوكم حقّكم وأزواجكم عن مراتبكم، أن يستفيدوا من علمكم وحكمتكم بعد أن ألقيتم دنياهم في نحورهم وعكفتم على نشر الدّين وإعلاء أوامر الدّيان.
فسبحان من علّمكم علم ما كان وعلم ما بقي، ووهبكم الفضل كلّه، والرحمة كلّها فعملتم على إنقاذ النّاس من ظلمات الجهل والضلال، ودللتموهم أن الخالق تبارك وتعالى قد احتجب عن خلقه، وعزّ عن أن يتصوّر في الأوهام، أو أن يتخيّل في القلوب والبصائر، فضلاّ عن أن يرى بالأبصار!. قد تنزّه عن التجسيم، وسما عن الرؤية بالعيون، ولم يكن محدوداً بحدّ ولا مشبهاً لندٍّ، بل هو الحيّ القيّوم الذي (لاّ تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير)(9) وإنه لو أدركه بصر لنزل عن مرتبة الألوهيّة، ولزالت عنه هالة الرّبوبيّة، ولشبّهناه ووصفناه.. ولصار - إذاً - محدوداً يفوت علمه ما كان خارج حدوده ومكان وجوده.. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
وسئل (عليه السلام) عن التوحيد فقيل له: لم يزل الله وحده لا شيء معه، ثم خلق الأشياء بديعاً، واختار لنفسه الأسماء، ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة؟
فكتب: لم يزل الله موجوداً. ثم كوّن ما أراد. لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه.. تاهت أوهام المتوهّمين، وتقصّر طرف الطارفين، وتلاشت أوصاف الواصفين، واضمحّلت أقاويل المبطلين عن الدّرك لعجيب شأنه، أو الوقوع بالبلوغ على علوّ مكانه. فهو بالموضع الذي لا يتناهى، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة ولا عبارةٍ.. هيهات، هيهات)(10).
فهو سبحانه موجود قبل القبل إذ لم يكن قبله شيء. ثم يبقى إلى ما بعد البعد حيّاً سرمديّاً، دائماً أبديّاً وكلّ ما سواه محدّث، وهو تعالى قديم أوجد بقدرته ما أراد من الكائنات.
وقال إبراهيم بن محمد الهمداني:
(كتبت إلى الرجل - أي إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) -: إنّ من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد: فمنهم من يقول: جسم!. ومنهم من يقول: صورة!.
فكتب (عليه السلام) بخطّه: سبحان من لا يحدّ، ولا يوصف!. ليس كمثله شيء، وهو السّميع العليم - أو قال: البصير - )(11).
وروي مثله عن بشر بن بشّار النيسابوري بزيادة: (.. سبحان من لا يحدّ، ولا يوصف، ولا يشبهه شيء، إلخ..)(12).
فقد نفى عن الخالق تعالى الحدّ - أي التجسيم - ونزّهه عن أن يحتويه مكان، أو أن يشغل حيّزاً، ثم نزّهه عن الوصف والتشبيه والتصوّر.
وتكلّم في علم الله تبارك وتعالى.
فقد قال أيوب بن نوح رحمه الله: (إنّه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله عزّ وجلّ: أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها، فعلم ما خلق عندما خلق، وما كوّن عندما كوّن؟
فوقّع (عليه السلام) بخطّه: لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء)(13).
فسبحان من أحاط بكل شيءٍ كان لا يعلمه، ولا يزيد في علمه ما يحدثه ويكوّنه لأنه يفيض عن مشيئة حين إحداثه كما كان قدّره في سابق علمه به.
وقال جعفر بن محمد بن حمزة.
(كتبت إلى الرجل - أبي الحسن (عليه السلام) - أسأله: إنّ مواليك اختلفوا في العلم. فقال بعضهم: لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء. وقال بعضهم لا نقول: لم يزل الله عالماً لأن معنى: يعلم: يفعل، فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً!. فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه.
فكتب (عليه السلام) بخطّه: لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره..)(14).
فإنه صلوات الله عليه وتحيّاته وبركاته، مع اختصاره للجواب، بيّن أنّه تعالى لم يزل عالماً، ثم نفى أزليّة الأشياء بإهمال ذكرها، لأنّه سبحانه واحدٌ أحديّ أزليّ سرمديّ لا يشاركه في ذلك شيء.
وقال الفتح بن يزيد الجرجاني:
(سمعته يقول:هو اللطيف الخبير السّميع البصير، الواحد الأحد الفرد الصّمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.. لو كان كما يقول المشبّهة، لم يعرف الخالق من المخلوق.وفي توحيد الصدوق زاد.. ولم يكن له كفواً أحد. منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصور الصّور.. لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ. فرّق بين من جسّمه، وصوّره، وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً.
قلت: أجل، جعلني الله فداك، لكنّك قلت: الأحد الصّمد، وقلت: لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً. والله واحد، والإنسان واحد. أليس قد تشابهت الوحدانيّة؟
قال: يا فتح، أحلت ثبّتك الله - أي أتيت بالمحال - إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا الأسماء فهي واحدة، وهي دالّة على المسمّى - أو: دلالة على المسمّى - وذلك أنّ الإنسان وإن قيل: واحد، فإنّما تخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين. والإنسان نفسه ليس بواحدٍ لأنّ أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة. ومن ألوانه مختلفة غير واحد، وهو أجزاء مجزّاة ليست بسواءٍ: دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر الخلق. فالإنسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى.
والله جلّ جلاله هو واحد في المعنى، لا واحد غيره. لا اختلاف فيه، ولا تفاوت، ولا زيادة ولا نقصان.. فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع، المؤلّف من أجزاءٍ مختلفةٍ وجواهر شتّى، غير أنّه بالاجتماع شيء واحد (15).
قلت: جعلت فداك، فرّجت عنّي، فرّج الله عنك. فقولك: اللطيف الخبير، فسّره لي كما فسّرت الواحد. فإنّي أعلم أنّ لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل - أي للفرق الطاهر بينه وبين خلقه - غير أنّي أحب أن تشرح ذلك لي.
فقال: يا فتح، إنّما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف. أولا ترى - وفّقك الله وثبّتك - إلى أثر صنعه في النّبات اللطيف وغير اللطيف؟ وفي الخلق اللطيف من الحيوان الصّغار والبعوض والجرجس - البعوض الصغير - وما هو أصغر منهما ولا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يتبين لصغره الذّكر من الأنثى، والحدث المولود من القديم؟!.
فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه، واهتدائه للسّفاد - المناكحة - والهرب من الموت، والجمع لما يصلحه، وما في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار، والمفاوز والقفار، وفهم بعضها عن بعض منطقها، وما يفهم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، ثم تأليف ألوانها حمرةً مع صفرةٍ، وبياضاً مع حمرة، وما لا تكاد عيوننا تستبينه بتمامٍ لدمامة خلقها، ولحقارة أجسامها وشدّة صغرها، ولا تراه عيوننا، ولا تلمسه أيدينا، علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف، لطف في خلق ما سمّيناه بلا علاج، ولا أداةٍ، ولا آلةٍ، وأنّ صانع كلّ شيءٍ فمن شيءٍ صنع، والله الخالق الجليل، خلق وصنع لا من شيء)(16).
وليس بعد هذا البيان بيان أدق منه وألطف، ولا أشمل منه ولا أكمل.. والتعليق عليه يحطّ من قيمته وقدره مهما بالغ الكاتب في التفكير والتقدير ودقّة التعبير..
وعن الفتح بن يزيد الجرجاني أيضاً، أنّه (عليه السلام) قال:
إنّ لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتمٍ، وإرادة عزم.
ينهى وهو يشاء.. ويأمر وهو لا يشاء.
أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة، وشاء ذلك..
ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى.
وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق - إسماعيل على الأصحّ - ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء، لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى)(17).
وقد علّق السيد الطباطبائي على هذا الكلام بما يلي:
(المشيئة والإرادة انقسام إلى الإرادة التكوينيّة الحقيقيّة، والإرادة التشريعيّة الاعتباريّة. فإنّ إرادة الإنسان التي تتعلّق بفعل نفسه نسبة حقيقيّة تكوينيّة تؤثّر في الأعضاء الانبعاث إلى الفعل، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلاّ لمانع.
وأمّا الإرادة التي تتعلّق منّا بفعل الغير، كما إذا أمرنا بشيءٍ أو نهينا عن شيءٍ، فإنها إرادة بحسب الوضع والاعتبار لا تتعلّق بفعل الغير تكوينيّاً.
فإنّ إرادة كلّ شخصٍ إمّا تتعلّق بفعل نفسه من طريق الأعضاء والعضلات، ومن هنا كانت إرادة الفعل أو التّرك من الغير لا تؤثّر في الفعل بالإيجاد والإعدام، بل تتوقّف على الإرادة التكوينيّة من الغير بفعل نفسه حتى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله، لا عن اختيار آمره وناهيه.
إذا عرفت ذلك، علمت أن الإرادتين يمكن أن تختلفا من غير ملازمة. كما أنّ المعتاد بفعلٍ قبيح ربّما ينهى نفسه عن الفعل بالتلقين، وهو يفعل من جهة إلزام ملكته الرذيلة الراسخة. فهو يشاء الفعل بإرادة تكوينيّةٍ، ولا يشاؤه بإرادة تشريعيّة، ولا يقع إلاّ ما تعلّقت به الإرادة التكوينيّة.. والإرادة التكوينيّة هي التي يسمّيها (عليه السلام) بإرادة حتم، والتشريعيّة هي التي يسمّيها بإرادة عزم.
وإرادته تعالى التكوينيّة تتعلّق بالشيء من حيث هو موجود؛ ولا موجود إلاّ وله نسبة الإيجاد إليه تعالى بوجوده بنحو يليق بساحة قدسه تعالى. وإرادته التشريعيّة تتعلّق بالفعل من حيث إنّه حسن وصالح غير القبيح الفاسد. فإذا تحقّق فعل موجودٍ قبيحٍ، كان منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التكوينيّة بوجهٍ، ولو لم يرده لم يوجد، ولم يكن منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التشريعيّة، فإن الله لا يأمر بالفحشاء.
فقوله (عليه السلام): إن الله نهى آدم (عليه السلام) عن الأكل، وشاء ذلك، وأمر إبراهيم (عليه السلام) بالذّبح ولم يشأه، أراد بالأمر والنّهي التشريعيّين منهما، وبالمشيئة وعدمها التكوينيّين منهما.
واعلم أنّ الرواية مشتملة على كون المأمور بالذّبح إسحاق، دون إسماعيل، وهو خلاف ما تضافرت عليه أخبار الشيعة)(18) وهو بيان جيّد.
وقال الفتح بن يزيد الجرجاني في حديثٍ طويل: (ضمّني وأبا الحسن (عليه السلام) الطريق حين منصرفي من مكة إلى خراسان، وهو سائر إلى العراق، فسمعته وهو يقول:
من اتّقى الله يُتّقى، ومن أطاع الله يطاع - أي من اتّقي الله يخافه كلّ شيء - .
فتلطّفت في الوصول إليه. فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، وأمرني بالجلوس. وأول ما ابتدأني به أن قال:
يا فتح، من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقَمِن أن يسلّط الله عليه سخط المخلوق - وفي نسخةٍ: فأيقن أن يحلّ به الخالق سخط المخلوق - . وإنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه. وأتّى يوصف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به؟!. جلّ عمّا يصفه به الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون. نأي في قربه - وقرب في نأيه - فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد.. كيّف الكيف فلا يقال: كيف؟ وأيّن الأين فلا يقال: أين؟ إذ هو منقطع الكيفيّة والأينيّة - الكينونيّة والأينونيّة -(19).
هو الواحد الأحد، الفرد الصّمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فجلّ جلاله.
أم كيف يوصف بكنهه محمد (صلّى الله عليه وآله) وقد قرنه الجليل باسمه، وشركه في عطائه، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته إذ يقول: (وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله..)(20) وقال - يحكي قول من ترك طاعته، وهو يعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها -: (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسولا)(21).
أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولى الأمر منكم..)(22) وقال: (ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولى الأمر منهم..)(23) وقال: (إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها)(24). وقال: (فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون)(25).
يا فتح، كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله، والرسول، والخليل، وولد البتول، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا!. فنبيّنا أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاّء، ووصيّه أفضل الأوصياء. واسمها - أي البتول (عليها السلام) أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى وأجلاها.
لو لم يجالسنا إلاّ كفوء، لم يجالسنا أحد!. ولو لم يزوّجنا إلاّ كفوء، لم يزوّجنا أحد!.
أشدّ الناس تواضعاً - يقصد النبيّ ووصيّه صلوات الله عليهما وأعظمهم حلماً، وأنداهم كفّاً وأمنعهم كنفاً، ورث عنهما أوصياؤهما علمهما؛ فاردد إليهم الأمر وسلّم إليهم.
قال فتح: فخرجت.. فلمّا كان من الصباح تلطّفت في الوصول إليه، فسلّمت عليه، فردّ علّي السلام، فقلت: يا بن رسول الله، أتأذن لي في مسألةٍ اختلج في صدري أمرها الليلة؟
قال: سل، وإن شرحتها فلي، وإن أمسكتها فلي. فصحّح نظرك وتثبّت في مسألتك، وأصغ إلى جوابها سمعك. ولا تسأل مسألة تعنيتٍ، واعتن بما تعتني به، فإنّ العالم والمتعلّم شريكان في الرشد، مأموران بالنّصيحة، منهيّان عن الغش.
وأمّا الذي اختلج في صدرك ليلتك، فإن شاء العالم - أي الإمام - أنبأك:
إنّ الله لم يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول. فكلّ ما كان عند رسول الله، كان عند العالم. وكلّ ما اطّلع عليه الرسول، فقد اطّلع أوصياؤه عليه لئلاّ تخلو أرضه من حجّةٍ يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته.
يا فتح، عسى الشيطان أراد اللّبس عليك فأوهمك في بعضٍ ما أودعتك، وشكّكك في بعض ما أنبأتك، حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم فقلت: متى أيقنت أنّهم كذا، فهم أرباب؟!.
معاذ الله!. إنّهم مخلوقون، مربوبون، مطيعون لله، داخرون، راغبون.. فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به.
فقلت: جعلت فداك، فرّجت عنّي، وكشفت ما لبّس الملعون عليّ بشرحك؛ فقد كان أوقع في خلدي أنّكم أرباب.
قال: فسجد أبو الحسن وهو يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي، داخراً، خاضعاً.
قال: فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي، ثم قال: يا فتح، كدت أن تهلك وتُهلك!. وما ضرّ عيسى إذا هلك من هلك - ممّن قالوا بربوبيته - فاذهب إذا شئت، رحمك الله.
قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عنّي من اللّبس بأنّهم هم. وحمدت الله على ما قدرت عليه.. فلمّا كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متّكئ وبين يديه حنطة مقلوّة - منضجة على النّار - وهو يعبث بها. وقد كان أوقع الشيطان في خلدي أنّه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفةً، والإمام غير مؤوفٍ - غير ذي آقةٍ - .
فقال: اجلس يا فتح، فإنّ لنا بالرّسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق. وكلّ جسم مغذوّ بهذا، إلاّ الخالق الرازق فإنّه جسّم الأجسام، وهو لم يجسّم ولم يجزّأ بتناهٍ، ولم يتزايد ولم يتناقص. مبرّأ من ذاته ما ركّب في ذات مَن جسّمه. الواحد الأحد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. منشئ الأشياء، مجسّم الأجسام، وهو السّميع العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرّحيم، تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً. لو كان كما وصف ولم يعرف الرّب من المربوب ولا الخالق من المخلوق، ولا المنشئ من المنشأ، ولكن فرّق بينه وبين من جسّمه، وشيّأ الأشياء إذ كان لا يشبهه شيء يرى، ولا يشبه شيئاً)(26).ويلاحظ أنّه سلام الله عليه قد أجاب الفتح بن يزيد الجرجانيّ عمّا دار في خلده في المرّتين بدون أن يسأله، لأنّه كان مطّلعاً على ما يجول في خاطره من إشكالات بمجرّد دخوله عليه، فقد أنبأه الله العليم الخبير العالم بما توسوس به الصّدور، وعرّفه حالتي الشكّ عند صاحبه، لتكون حجّته قاطعة، وليكون قوله الصادق مقبولاً وليثبت أنّه لم يتكلّم من عنده، بل ذكر ما أعلمه به ربّه سبحانه وتعالى بواسطةٍ سماويّة لا قدرة لنا على تحديدها بالدّقة المتناهية. ولذلك فإنه (عليه السلام)، نفى في المرّة الأولى ما لبّس الشيطان على صاحبه من أنّ الأئمّة أرباب، وفي المنزلة الثانية ظهر لصاحبه جالساً يعبث بالقمح المقلوّ لا بداعي العبث الذي جلّ عنه وسما، بل ليبيّن للفتح بن يزيد أنه يأكل ويشرب ويفتقر إلى الغذاء وما يقيم الأود، في حين أنّ الرّبّ سبحانه يجلّ عن ذلك ويتعالى علوّاً كبيراً.
وقال محمد بن عيسى بن عبيد:
(سألت أبا الحسن، عليّ بن محمدٍ العسكريّ (عليهما السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسّماوات مطويّات بيمينه)(27).
فقال: ذلك تعبير الله تعالى لمن شبّهه بخلقه. ألا ترى أنّه قال: (وما قدروا الله حقّ قدره)(28) إذ قالوا: إن (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسّماوات مطويّات بيمينه)(29) كما قال عزّ وجلّ: (وما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر مّن شيء!)(30) ثم نزّة عزّ وجلّ نفسه عن البضة واليمين فقال - في آخر الآية -: (سبحنه وتعالى عمّا يشركون)(31).
وورد في مصدر آخر بهذا اللفظ:
(فقال (عليه السلام): ذلك تعبير الله تبارك وتعالى لمن شبّهه بخلقه، ألا ترى أنّه قال: (وما قدروا الله حقّ قدره)؟ ومعناه: (إذ قالوا أنزل الله على بشر مّن شيءٍ).. ثم نزّه نفسه عن القبضة واليمين فقال: (سبحنه وتعالى عمّا يشركون)(32).
فقد أوضح - سلام الله عليه - أنّ الله تبارك وتعالى كأنه قال: وما قدر الله حقّ قدره من قال: إنّ الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، فإن ذلك قول المجسّمة، وقد تعالى الله سبحانه عمّا يشركون به.
وقال عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضوان الله عليه:
سمعت أبا الحسن، عليّ بن محمدٍ العسكري يقول: معنى الرّجيم، أنّه مرجوم باللّعن، مطرود من مواضع الخير، لا يذكره مؤمن إلاّ لعنه.
وإنّ في علم الله السابق، أنّه إذا خرج القائم (عليه السلام)، لا يبقى مؤمن في زمانه إلاّ رجمه بالحجارة كما كان قبل ذلك مرجوماً باللّعن)(33).
فالشيطان الرّجيم معناه - لعنه الله - أنه المطرود من رحمة الله بعد معصيته حين لم يطع أمر ربّه بالسجود لآدم (عليه السلام). وقد صار منذئذ ملعوناً من سائر المؤمنين بقول الله: وهم يرجمونه بالحجارة في منىً أيام الحج رامزين بذلك إلى طرده ودحره لأنه عدوّ بني آدم الذي يغريهم بالفساد. وفي أيام القائم عجّل الله تعالى فرجه يسلم أهل الأرض ويرجمونه جميعاً بالحجارة بعد الإفاضة من عرفات والمزدلفة، علامةً على إيمانهم، بما جاء من عند الله، وإشارةً إلى عداوته لهم وإلى إبعاده عنهم برميه بالحجارة.
وقال العباس بن هلال:
سألت أبا الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، عن قول الله عزّ وجلّ: (الله نور السّماوات والأرض..)(34)؟.
فقال (عليه السلام): يعني: هادي من في السّماوات ومن في الأرض)(35).
نعم، وما الهدى سوى ذلك النّور الذي يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده لينقذهم من ظلمات الجهل والكفر، ويهديهم إلى الحقّ والإيمان.. الذي يعمر القلب وينير الدّرب.. ولذلك قال تبارك وتعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - أي التسليم له بالرّبوبيّة والوحدانيّة - ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاٍ كأنّما يصّعّد في السّماء..)(36) فهو يشرح صدر من يهديه بنور هداه، ويبقي صدر الضالّ مظلماً تائهاً في الضلالة، لاهثاً وراء جهله، ضائقاً بأمره، متعباً كالذي يمشي طلوعاً نحو السماء..
وفي عهد سلام الله عليه - عهد الفتن والخلافات حول المذاهب وغيرها - كثر الجدل حول خلق القرآن أو قدمه، وخاض النّاس في ذلك أيّ خوض حتى خرجوا عن حدّ المعقول لشدّة ما انحرف بهم الكلام.. فحذّر إمامنا (عليه السلام) شيعته من النزول إلى تلك المعركة التي ضلّ فيها الجدلّيون ضلالاً كبيراً؛ فلم يشترك الشيعة في ذلك النزاع حول صنع الله عزّ وجلّ وحول كلامه الكريم. وقد قال محمد بن عيسى بن عبيد - اليقطيني:
(كتب عليّ بن محمد بن علي بن موسى الرّضا (عليه السلام) إلى بعض شيعته ببغداد:
بسم الله الرّحمن الرّحيم: عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فقد تعظم بها نعمة، وإلاّ يفعل فهي الهلكة.
نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطي السائل ما ليس له، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه؛ وليس الخالق إلاّ الله عزّ وجلّ، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله.. لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين.
جعلنا الله وإيّاك من (الّذين يخشون ربّهم بالغيب وهم مّن السّاعة مشفقون)(37).
فما أبلغ ما جاء في هذا الكتاب الكريم المختصر الذي يجتثّ تلك البدعة من أصولها، ويقرّر رأي الإمام (عليه السلام) بأوضح بيانٍ وأقوى دليلٍ، إذ الله تعالى وحده هو الخالق وما سواه مخلوق قد فاض عن إرادته سبحانه ومشيئته، والكلام خارج هذا الإطار لغو ولهو وضلالة تؤدّي بالسائل إلى الوقوع في المحذورات حين يتكلّم بما هو من شأن الخالق عزّ وجلّ، وتؤدّي بالمجيب إلى التكلّم رجماً بالغيب إذ يقرّر أفعال ربّه سبحانه بحسب موازين عقله المطفّفة.. وكلاهما غير مكّلفين بما يقومان به سواءً أكان حقّاً أم لغواً.
ومن جملة المسائل الهامة التي ثار الجدل حولها - أيضاً - في ذلك العصر، وكثر الأخذ والردّ مسألة الجبر والتفويض التي أدّت إلى انقسام المسلمين انقساماً كان ذا خطرٍ دخل في صميم العقيدة، إذ نسبت فئة منهم، وقوع الذنب من العبد، إلى الله - والعياذ بالله من ذلك - محتجّة بأنّ الذنب يقع بعلمه تعالى وتقديره، وبإقدار العبد على ذلك بما خلق له من آلاتٍ يباشر الذنب بواسطتها، وبأنّ العبد لا اختيار له في تجنّب الذنب لأنه محمول عليه قد كتبه الله تعالى وقضى به عليه!. ثم أنكرت فئة أخرى ذلك، وقالت بأنّ للعبد أن يختار، وهو الذي يرتكب الذنب بتمام إرادته، وبكامل اختياره، وبواسطة الآلات الّتي منحه الله تعالى إيّاها لطاعته لا لمعصيته.
وقد تكلّم إمامنا (عليه السلام) في هذا الموضوع الهامّ - كما تكلّم آباؤه - وجدّاه الصادق والرّضا بالخصوص (عليه السلام) جميعاً، لئلاّ يقع شيعته في فخّ الكفر وزخرف القول الذي يحاول الإقناع بأنّه لا اختيار للعبد في تصرّفاته لأنها مكتوبة عليه.. ولم يدع شيعته نهب تلك الفوضى التي تجرّأ فيها القائلون على الله عزّت قدرته جرأةً عظيمةً، فمالت بهم الأهواء عن سواء القصد؛ ثم بدأ حديثة معهم بأنّه إذا لم يكن للعبد اختيار ولا تدخّلّ فلم اختاروا خليفة الرسول وانصرفوا عن اختيار الله لهم، وعن نصّ القرآن الصريح، وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الفصيح؟!. فإمّا أن يكون العبد مختاراً في كلّ شيءٍ، وإمّا أن لا يكون له اختيار في شيءٍ.. ثم تكلّم في الجبر والاختيار كلاماً بليغاً يقطع كلّ جدلٍ ونقاش، فكان كأنّه يغترف من بحرٍ، أو أنّه ينهمر كالقطر!.
وهذا نصّ رسالته (عليه السلام) في الردّ على أهل الجبر والتفويض، وإثبات العدل بين المنزلة والمنزلتين:
(من عليّ بن محمدٍ: سلام عليكم وعلى من اتّبع الهدى، ورحمة الله وبركاته.فإنّه ورد عليّ كتابكم(38) وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر، ومقالة من يقول منكم بالجبر، ومن يقول بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم، وفهمت ذلك كلّه.
اعلموا رحمكم الله أنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار، فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممّن يعقل عن الله عزّ وجلّ، لا تخلو من معنيين: إمّا حقّ فيتّبع، وإمّا باطل فيجتنب.
وقد أجمعت الأمّة قاطبةً، لا اختلاف بينهم، أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم، مقروناً بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون مهتدون: وذلك بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا تجتمع أمّتي على ضلالة.. وأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأمّة كلّها حقّ. هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً.
والقرآن حقّ لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه. فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه، وأنكر الخبر طائفة من الأمّة، لزمهم الإقرار به ضرورةً حين اجتمعت في الأصل على تصديق الكتاب. فإن هي جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملّة.
فأول خبرٍ يعرف تحقيقه من الكتاب، وتصديقه والتماس شهادته عليه، خبر ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم، حيث قال: إنّي مخلّف فيكم الثّقلين: كتاب الله، وعترتي - أهل بيتي - لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما. وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.
فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصّاً مثل قوله جلّ وعزّ: (إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون)(39) وروت العامّة أخباراً لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه تصدّق بخاتمه وهو راكع، فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه؛ فوجدنا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أتى بقوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه. وبقوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي. ووجدناه يقول: عليّ يقضي ديني، وينجز موعدي، وهو خليفتي عليكم من بعدي.
فالجزء الأول الذي استنبطت منه هذه الأخبار، خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم، وهو أيضاً موافق للكتاب.
فلمّا شهد الكتاب بصدق الخبر، وهذه الشواهد الأخر، لزم على الأمّة الإقرار بها ضرورةً، إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة، ووافقت القرآن والقرآن وافقها. ثم وردت حقائق الأخبار عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، عن الصادقين (عليهم السلام)، ونقلها قوم ثقات معروفون، فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً على كلّ مؤمن ومؤمنةٍ، لا يتعدّاه إلاّ أهل العناد. وذلك أنّ أقاويل آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متّصلة بقول الله، وذلك مثل قوله في محكم كتابه: (إنّ الّذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مّهيناً)(40). ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من آذى عليّاً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن ينتقم منه!.. وكذلك قوله (صلّى الله عليه وآله): من أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله؛ ومثل قوله (صلّى الله عليه وآله) في بني وليعة: لأبعثنّ اليوم رجلاً كنفسي يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله؛ قم يا عليّ فسر إليهم. وقوله (صلّى الله عليه وآله) يوم خيبر: لأبعثنّ إليهم غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّارٍ، لا يرجع حتّى يفتح الله عليه.. فقضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالفتح قبل التوجيه، فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فلمّا كان من الغد دعا عليّاً (عليه السلام) فبعثه إليهم، فاصطفاه بهذه المنقبة(41) وسمّاه كرّاراً غير فرّارٍ، فسمّاه محبّاً لله ورسوله، وأخبر أنّ الله ورسوله يحبّانه.
وإنّما قدّمنا هذا الشرح والبيان، دليلاً على ما أردناه، وقوّةً لما نحن مبيّنوه من أمر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين. وبالله العون والقوّة، وعليه نتوكّل في جميع أمورنا.
فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادق (عليه السلام): لا جبر ولا تفويض، ولكن منزلة بين المنزلتين: وهي صحّة الخلقة، وتخلية السّرب، والمهلة في الوقت، والزاد، مثل الراحلة، والسبب المهيّج للفاعل على فعله.
فهذه خمسة أشياءٍ جمع بها الصادق (عليه السلام) جوامع الفضل. فإذا نقص العبد منها خلّةً، كان العمل عنه مطروحاً بحسبه. فأخبر الصادق (عليه السلام) بأصل ما يجب على النّاس من طلب معرفته، ونطق الكتاب بتصديقه، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله، لأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وأهل بيته (عليهم السلام)، لا يعدو شيء من قوله وأقاويلهم حدود القرآن.
فإذا وردت حقائق الأخبار، والتمست شواهدها من التنزيل، فوجد لها موافقّاً وعليها دليلاً، كان الاقتداء بها فرضاً لا يتعدّاه إلاّ أهل العناد، كما ذكرنا في أول الكتاب.
ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله الصادق (عليه السلام) من المنزلة بين المنزلتين، وإنكاره الجبر والتفويض، وجدنا الكتاب قد شهد له وصدّق مقالته في هذا.
وخبر عنه أيضاً موافق لهذا: أنّ الصادق (عليه السلام) سئل: هل أجبر الله العباد على المعاصي؟
فقال الصادق (عليه السلام): هو أعدل من ذلك.
فقيل له: فهل فوّض إليهم؟
فقال (عليه السلام): هو أعز وأقهر لهم من ذلك!
وروي عنه أنّه قال: النّاس في القدر على ثلاثة أوجه:
رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليه، فقد وهّن الله في سلطانه، فهو هالك.
ورجل يزعم أنّ الله جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصي وكلّفهم ما لا يطيقون، فقد ظلم الله في حكمه، فهو هالك.
ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون. فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ.
فأخبر (عليه السلام) أنّ من تقلّد الجبر والتفويض ودان بهما، فهو على خلاف الحقّ.
فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، وأنّ الذي يتقلّد التفويض يلزمه الباطل، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.
ثم قال (عليه السلام): وأضرب لكلّ بابٍ من هذه الأبواب مثلاً يقرّب المعنى للطالب ويسهّل له البحث عن شرحه، تشهد به محكمات آيات الكتاب، وتحقّق تصديقه عند ذوي الألباب، وبالله التوفيق والعصمة.
فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ، فهو قول من زعم أنّ الله جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها!. ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه، وكذّبه وردّ عليه قوله (ولا يظلم ربّك أحداً)(42) وقوله: (ذلك بما قدّمت يداك وأنّ الله ليس بظلّم للعبيد)(43)، وقوله: (إنّ الله لا يظلم النّاس شيئاً ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون)(44) مع آيٍ كثيرةٍ بذكر هذا.. فمن زعم أنّه مجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله، وقد ظلمه في عقوبته. ومن ظلم الله فقد كذّب كتابه، ومن كذّب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الأمّة.
ومثل ذلك مثل رجلٍ ملك عبداً مملوكاً، لا يملك نفسه ولا يملك عرضاً من عرض الدّنيا، ويعلم ذلك مولاه منه. فأمره، على علمٍ منه، بالمصير إلى السّوق لحاجةٍ يأتيه بها، ولم يملّكه ثمن ما يأتيه به من حاجته. وعلم المالك أنّ على الحاجة رقيباً، لا يطمع أحد في أخذها منه إلاّ بما يرضى به من الثّمن. وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنّصفة وإظهار الحكمة، ونفي الجور. وأوعد عبده إن لم يأتيه بحاجته أن يعاقبه، على علم منه بالرّقيب الذي على حاجته أنّه سيمنعه، وعلم أنّ المملوك لا يملك ثمنها ولم يملّكه ذلك.
فلمّا صار العبد إلى السوق، وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها، وجد عليها مانعاً يمنع منها إلاّ بشراءٍ، وليس يملك العبد ثمنها!. فانصرف إلى مولاه خائباً، بغير قضاء حاجته، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه!. أليس يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه وهو يعلم أنّ عبده لا يملك عرضاً من عروض الدّنيا ولم يملّكه ثمن حاجته؟ فإن عاقبه كان ظالماً متعدّياً عليه، مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته!. وإن لم يعاقبه كذّب نفسه في وعيده إيّاه حين أوعده بالكذب والظّلم اللّذين ينفيان العدل والحكمة!. تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً.
فمن دان بالجبر، أو ما يدعو إلى الجبر، فقد ظلم الله ونسبه إلى الجور والعدوان، إذا أوجب على من أجبره العقوبة. ومن زعم أنّ الله أجبر العباد، فقد أوجب على قياس قوله: إنّ الله يدفع عنهم العقوبة. ومن زعم أنّ الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب، فقد كذّب الله في وعيده حيث يقول: (بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خلدون)(45) وقوله: (إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)(46)، وقوله: (إنّ الّذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إنّ الله كان عزيزاً)(47) مع آيٍ كثيرةٍ في هذا الفنّ ممّن كذّب وعيد الله. ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر، وهو ممّن قال الله: (أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافلٍ عمّا تعملون)(48).
بل نقول: إنّ الله جلّ وعزّ جازى - يجازي - العباد على أعمالهم، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها. فأمرهم ونهاهم بذلك - أي بالاستطاعة وبما يطيقون - ونطق كتابه: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسّيّئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون)(49). وقال جلّ ذكره: (يوم تجد كلّ نفس مّا عملت من خير مّحضراً وما عملت من سوءٍ تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه)(50) وقال: (اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم..)(51) فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به.
ومثلها في القرآن كثير، اختصرنا ذلك لئلاّ يطول الكتاب، وبالله التوفيق.
وأمّا التفويض الذي أبطله الصادق (عليه السلام)، وخطّأ من دان به وتقلّده، فهو قول القائل: إنّ الله جلّ ذكّره فوّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم!. وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقّته.
وإلى هذا ذهب الأئمّة المهديّون عترة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنّهم قالوا: لو فوّض إليهم على جهة الإهمال، لكان لازماً له رضى ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب - به الثواب - ولم يكن عليهم فيه العقاب، إذا كان الإهمال واقعاً.. وتنصرف هذه المقالة على معنيين:
إمّا أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورةً، كره ذلك أم أحبّ، فقد لزمه الوهن!. أو يكون جلّ وعزّ عجز عن تعبّدهم بالأمر والنهي على إرادته، كرهوا أو أحبّوا، ففوّض أمره - ونهيه - إليهم، وأجراهما على محبّتهم إذ عجز عن تعبّدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان!.
ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه، وادّعى مالك العبد أنّه قاهر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه ووعده على اتّباع أمره عظيم الثّواب، وأوعده على معصيته أليم العقاب؛ فخالف العبد إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره ونهيه، فأيّ أمر أمره، أو أيّ نهي نهاه عنه، لم يأته على إرادة المولى. بل كان العبد يتّبع إرادة نفسه واتّباع أمره ونهيه إليه، ورضي منه بكلّ ما فعله، على إرادة العبد، لا على إرادته، ففوّض اختيار حوائجه وسمّى له الحاجة، فخالف على مولاه وقصد لإرادة نفسه واتّبع هواه.
فلمّا رجع إلى مولاه، نظر إلى ما أتاه به، فإذا هو على خلاف ما أمره به!. فقال له: لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟
فقال العبد: اتّكلت على تفويضك الأمر إليّ فاتّبعت هواي وإرادتي، لأنّ المفوّض إليه غير محظورٍ عليه.. فاستحال التفويض.أو ليس يجب على هذا السبب إمّا أن يكون المالك للعبد قادراً يأمر عبده باتّباع أمره ونهيه على إرادته، لا على إرادة العبد، ويملّكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمرٍ ونهاه عن نهيٍ عرّفه الثواب والعقاب عليهما: وحذّره ورغّبه بصفةٍ ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملّكه من الطاقة - من الطاعة - لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، فيكون عدله وإنصافه شاملاً له، وحجته واضحةً عليه للإعذار والإنذار؛ فإذا اتّبع العبد أمر مولاه جازاه، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه.. أو يكون عاجزاً غير قادرٍ، ففوّض إليه أحسن أم أساء، أطاع أم عصى، عاجزاً عن عقوبته وردّه إلى أتّباع أمره.
وفي إثبات العجز نفي القدرة والتّألّه، وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب، ومخالفة الكتاب إذ يقول: (ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)(52)، وقوله عزّ وجلّ: (اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مّسلمون)(53)، وقوله: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ما أريد منهم من رّزقٍ وما أريد أن يطعمون)(54)، وقوله: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)(55)، وقوله: (أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون)(56).
فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده، وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافلٍ عمّا تعملون)(57)، تعالى الله عمّا يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً.لكن نقول: إنّ الله جلّ وعزّ خلق الخلق بقدرته، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها. فأمرهم ونهاهم بما أراد(58)، فقبل منهم اتّباع أمره ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذمّ من عصاه وعاقبه عليها. ولله الخيرة في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهى عمّا يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملّكها عباده لاتّباع أمره واجتناب معاصيه، لأنّه ظاهر العدل والنّصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجّة بالإعذار والإنذار، وإليه الصّفوة يصطفى من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده: اصطفى محمداً (صلّى الله عليه وآله) وبعثه برسالاته إلى خلقه، فقال من قال من كفّار قومه حسداً واستكباراً: (لولا نزّل هذا القرآن على رجل مّن القريتين عظيم)(59) يعني بذلك أمية بن أبي الصلت، وأبا مسعود الثقفي، فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول: (أهم يقسمون رحمت ربّك نحن قسمنا بينهم مّعيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريّاً ورحمت ربّك خير مّمّا يجمعون)(60). ولذلك اختار من الأمور ما أحبّ، ونهى عمّا كره، فمن أطاعة أثابه، ومن عصاه عاقبه. ولو فوّض اختيار أمره إلى عباده لأجاز لقريشٍ اختيار أميّة بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمدٍ (صلّى الله عليه وآله).
فلمّا أدّب الله المؤمنين بقوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)(61). فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم، ولم يقبل منهم إلاّ اتّباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه. فمن أطاعه رشد، ومن عصاه ضلّ وغوى ولزمته الحجّة بما ملّكه من الاستطاعة لاتّباع أمره واجتناب نهيه. فمن أجل ذلك حرمه ثوابه وأنزل به عقابه.
وهذا القول بين القولين ليس بجبرٍ ولا تفويض؛ وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعيّ الأسديّ حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام):
سألت عن الاستطاعة، تملكها من دون الله أو مع الله؟
فسكت عباية؛ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): قل يا عباية.
قال: وما أقول؟!.
قال (عليه السلام): إن قلت إنّك تملكها مع الله قتلتك!. وإن قلت تملكها دون الله قتلتُك!
قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟!.
قال (عليه السلام): تقول إنّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك. فإن يملّكها إياّك كان ذلك من عطائه، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه.. هو المالك لما ملّكك، والقادر على ما عليه أقدرك. أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة حين يقولون: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله؟!.
قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟
قال (عليه السلام): لا حول عن معاصي الله إلاّ بعصمة الله، ولا قوّة لنا على طاعة الله إلاّ بعون الله.
قال: فوثب عباية فقبّل يديه ورجليه.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله، قال: أي أمير المؤمنين بم عرفت ربّك؟
قال (عليه السلام): بالتمييز الذي خوّلني، والعقل الذي دلّني.
قال: أمجبول أنت عليه؟
قال: لو كنت مجبولاً لما كنت محموداً على إحسان، ولا مذموماً على إساءة، وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء. فعلمت أنّ الله قائم باقٍ، وما دونه حدث حائل زائل. وليس القديم الباقي، كالحدث الزائل.
قال نجدة: أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين.
قال: أصبحت مخيّراً، فإن أتيت السيئة مكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال لرجلٍ بعد انصرافه من الشام، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا بخروجنا إلى الشام، بقضاءٍ وقدر؟
قال (عليه السلام): نعم يا شيخ، ما علوتم تلعةً ولا هبطتم وادياً إلاّ بقضاءٍ وقدرٍ من الله.
فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟
فقال: مه يا شيخ، فإنّ الله قد عظّم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون. ولم تكونوا في شيءٍ من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرّين!.
لعلّك ظننت أنّه قضاء حتم وقدر لازم؟! لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعيد، ولما ألزمت الأشياء أهلها - الأسماء أهلها - على الحقائق. ذلك مقالة عبدة الأوثان وأولياء الشيطان.
إنّ الله جلّ وعزّ أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السّماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنّ الّذين كفروا فويل للّذين كفروا من النّار!.
فقام الشيخ فقبّل رأس أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنشأ يقول:
أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته يوم النّجاة من الرحمن غفرانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً جزاك ربّك عنّا فيه رضوانا
فليس معذرةً في فعل فاحشةٍ قد كنت راكبها ظلماً وعصيانا
فقد دلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على موافقة الكتاب، ونفي الجبر والتفويض اللّذين يلزمان من دان بهما وتقلّدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر. ولسنا ندين بجبرٍ ولا تفويض، لكنّا نقول بمنزلةٍ بين المنزلتين، وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكنا الله وتعبّدنا بها على ما شهد به الكتاب، ودان به الأئمة الأبرار من آل الرّسول صلوات الله عليهم.
ومثل الاختيار بالاستطاعة، مثل رجلٍ ملك عبداً وملك مالاً كثيراً، أحبّ أن يختبر عبده على علم بما يؤول إليه، فملّكه من ماله بعض ما أحبّ ووقفه - وافقه - على أمورٍ عرّفها العبد، فأمره أن يصرف ذلك المال فيها، ونهاه عن أسبابٍ لم يحبّها، وتقدّم إليه - أمره - أن يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها؛ والمال يتصرّف في أيّ الوجهين.. فصرف في اتّباع نهيه وسخطه. وأسكنه دار اختيارٍ أعلمه أنّه غير دائمٍ له السّكنى في الدار، وأنّ له داراً غيرها وهو مخرجه إليها، فيها ثواب وعقاب دائمان. فإن أنفذ العبد المال الذي ملّكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنّه مخرجه إليها؛ وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه، جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود. وقد حدّ المولى في ذلك حدّاً معروفاً وهو المسكن الذي أسكنه في الدار الأولى. فإذا بلغ الحدّ استبدل المولى بالمال وبالعبد، على أنه لا يزال مالكاً للمال والعبد في الأوقات كلّها، إلاّ أنه وعده أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الأولى، إلى أن يستتمّ سكناه فيها؛ فوفى له لأنّ من صفات المولى العدل والوفاء والنّصفة والحكمة. أو ليس يجب إن كان العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب، وتفضّل عليه بأن استعمله في دارٍ فانيةٍ وأثابه على طاعته فيها نعيماً دائماً في دارٍ باقيةٍ دائمة؟!.
وإن صرف العبد المال الذي ملّكه مولاه أيّام سكناه تلك الدار الأولى في الوجه المنهيّ عنه وخالف أمر مولاه، كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذّره إيّاها، غير ظالم تقدّم إليه وأعلمه وعرّفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده، بذلك يوصف القادر القاهر.
وأمّا المولى فهو الله جلّ وعزّ.
وأمّا العبد فهو ابن آدم، المخلوق، والمال قدرة الله الواسعة.
ومحنته - أي اختباره - إظهاره الحكمة والقدرة، والدار الفانية هي الدّنيا، وبعض المال الذي ملّكه مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم.
والأمور التي أمر الله بصرف المال إليها الاستطاعة لاتّباع الأنبياء، والإقرار بما أوردوه عن الله جلّ وعزّ.
واجتناب الأسباب التي نهى عنها هي طرق إبليس، وأمّا وعده فالنّعيم الدائم، وهي الجنّة، وأمّا الدار الفانية فهي الدّنيا، وأمّا الدار الأخرى فهي الدار الباقية، وهي الآخرة.
والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة التي ملك العبد.
وشرحها في الخمسة الأمثال التي ذكّرها الصادق (عليه السلام)(62)، أنّها جمعت جوامع الفضل، وأنا مفسّرها بشواهد من القرآن والبيان إن شاء الله.
تفسير صحّة الخلقة: أمّا قول الصادق (عليه السلام) كمال الخلق للإنسان، وكمال الحواسّ، وثبات العقل، والتمييز، وإطلاق اللّسان بالنّطق، وذلك قول الله: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم مّن الطّيّبات وفضّلناهم على كثير مّمّن خلقنا تفضيلاً)(63). فقد أخبر عزّ وجلّ عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم، والسّباع، ودوابّ البحر، والطّير، وكلّ ذي حركةٍ تدركه حواسّ بني آدم بتمييز العقل والنّطق. وذلك قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)(64) وقوله: (يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم * الّذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أيّ صورةٍ مّا شاء ركّبك)(65) وفي آياتٍ كثيرة.
فأول نعمةٍ على الإنسان صحة عقله، وتفضيله على كثيرٍ من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان، وذلك أنّ كلّ ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسّه، مستكمل في ذاته. ففضّل بني آدم بالنّطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواسّ. فمن أجل النّطق ملّك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمراً ناهياً؛ وغيره مسخّر له كما قال الله: (كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم)(66) وقال: (وهو الّذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها)(67) وقال: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بلغيه إلاّ بشقّ الأنفس..)(68).
فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلى اتّباع أمره، وإلى طاعته، بتفضيله إيّاه باستواء الخلق، وكمال النّطق والمعرفة، بعد أن ملّكهم استطاعة ما كان تعبّهم به بقوله: (فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا..)(69) وقوله: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها)(70) وقوله: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها)(71). وفي آياتٍ كثيرة.
فإذا سلب العبد حاسّةً من حواسّه رفع العمل عنه بحاسّته كقوله: (لّيس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج..)(72) الآية.. فقد رفع عن كلّ من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الأعمال التي لا يقوم بها. وكذلك أوجب على ذي اليسار الحجّ والزّكاة لما ملّكه من استطاعة ذلك، ولم يوجب على الفقير الزّكاة والحجّ في قوله: (ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً)(73) وقوله في الظهار: (والذين يظاهرون من نّسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ - إلى قوله - فمن لمّ يستطع فإطعام ستّين مسكيناً..)(74) كلّ ذلك دليل على أنّ الله تبارك وتعالى لم يكلّف عباده إلاّ ما ملّكهم استطاعته بقوّة العمل به، ونهاهم عن مثل ذلك فهذه صحّة الخلقة.
وأمّا قوله: تخلية السّرب: فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره الله به. وذلك قوله في من استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلةً ولا يهتدي سبيلاً كما قال الله تعالى: (إلاّ المستضعفين من الرّجال والنّساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً)(75) فأخبر أنّ المستضعف لم يخلّ سربه وليس عليه من القول شيء إذا كان مطمئنّ القلب بالإيمان.
وأمّا المهلة في الوقت: فهو العمر الذي يمنّع الإنسان من حدّ ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت. وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحكم إلى أن يأتيه أجله. فمن مات على طلب الحقّ ولم يدرك كماله، فهو على خير، وذلك قوله: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله..)(76) الآية، وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلةٍ ما، لم يمهّله في الوقت استتمام أمره، وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطّفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله: (وقل للمؤمنات يغضضّن من أبصارهنّ..)(77) الآية، فلم يجعل عليهنّ حرجاً في إبداء الزّينة للطّفل، وكذلك لا تجري عليه الأحكام.
وأمّا قوله: الزّاد: فمعناه الجِدَة - أي الغنى والقدرة - والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به، وذلك قوله: (ما على المحسنين من سبيل..)(78)، ألا ترى أنّه قبل عذر من لم يجد ما ينفق وألزم الحجّة كلّ من أمكنته البلغة والراحلة للحجّ والجهاد وأشباه ذلك؟ وكذلك قبل عذر الفقراء، وأوجب لهم حقّاً في أموال الأغنياء بقوله: (للفقراء الّذين أحصروا في سبيل الله..)، فأمر بإعفائهم ولم يكلّفهم الإعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.
وأمّا قوله في السبب المهيّج: فهو النيّة التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال، وحاسّتها القلب - وحاسّته العقل - . فمن فعل فعلاً وكان بدينٍ لم يعقد قلبه على ذلك، لم يقبل الله منه عملاً إلاّ بصدق النيّة، ولذلك أخبر عن المنافقين بقوله: (يقولون بأفواههم مّا ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون)(79). ثم أنزل على نبيّه (صلّى الله عليه وآله) توبيخاً للمؤمنين: (يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون)(80)، فإذا قال الرجل قولاً واعتقد في قوله دعته النيّة إلى تصديق القول بإظهار الفعل؛ وإذا لم يعتقد القول لم تتبيّن حقيقته. وقد أجاز الله صدق النيّة وإن كان الفعل غير موافقٍ لها لعلّة مانعٍ يمنع إظهار الفعل في قوله: (إلاّ من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان)(81) وقوله: (لاّ يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم)(82) فدلّ القرآن، وإخبار الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أنّ القلب مالك لجميع الحواسّ، يصحّح أفعالها؛ ولا يبطل ما يصحّح القلب شيء.
فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق (عليه السلام)، أنّها تجمع المنزلة بين المنزلتين، وهما الجبر والتفويض. فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال، وجب عليه العمل كملاً لما أمر الله عزّ وجلّ به رسوله. وإذا نقص العبد منها خلّة كان العمل عنها - عنه - مطروحاً بحسب ذلك.
فأمّا شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة، ومن ذلك قوله: (ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصّابرين ونبلوَ أخباركم)(83) وقال: (سنستدرجهم مّن حيث لا يعلمون)(84)، وقال: (ألم أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون)(85).
وقال في الفتن التي معناها الاختبار: (ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيّه جسداً ثمّ أناب..)(86)، وقال في قصّة موسى (عليه السلام): (فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السّامرىّ)(87)، وقول موسى: (إن هي إلاّ فتنتك)(88) أي اختبارك. فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض، ويشهد بعضها لبعض.
وأمّا آيات البلوى بمعنى الاختبار، قوله: (ليبلوكم في ما آتاكم)(89)، وقوله: (ثمّ صرفكم عنّهم ليبتليكم)(90) وقوله: (إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة)(91)، وقوله: (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً)(92)، وقوله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ)(93)، وقوله: (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعضٍ)(94)، كلّ ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها فهي اختبار. وأمثالها في القرآن كثيرة؛ فهي إثبات الاختبار والبلوى.
إنّ الله جلّ وعزّ لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدىً، ولا أظهر حكمته لعباً، وبذلك أخبر في قوله: (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا)؟!(95).
فإن قال قائل: فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى اختبرهم؟!!
قلنا: قد علم ما يكون منهم قبل كونه، وذلك قوله: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه)(96) وإنّما اختبرهم ليعلمهم عدله، ولا يعذّبهم إلاّ بحجّةٍ بعد الفعل. وقد أخبر بقوله: (ولو أنّا أهلكناهم بعذاب مّن قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً)(97)، وقوله: (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً)(98)، وقوله: (رسلاً مّبشّرين ومنذرين)(99).
فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملّكها عبده، وهو القول بين الجبر والتفويض. وبهذا نطق القرآن وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرّسول (صلّى الله عليه وآله).
فإن قالوا: ما الحجة في قول الله: (يهدى من يشاء)، و(يضلّ من يشاء)(100) وما أشبهها؟!!
قيل: مجاز هذه الآيات كلّها على معنيين:
أمّا أحدهما: فإخبار عن قدرته، أي أنّه قادر على هداية من يشاء، وضلال من يشاء. وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب، والمعنى الآخر: أنّ الهداية منه، تعريفه، كقوله: (وأمّا ثمود فهديناهم - أي عرفناهم - فاستحبّوا العمى على الهدى)(101). فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلّوا. وليس كلّما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجّةً على محكم الآيات اللّواتي أمرنا بالأخذ بها؛ من ذلك قوله: (منه آيات مّحكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)(102)، وقال: (فبشّر عباد الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه - أي أحكمه وأشرحه - أولئك الّذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)(103).
وفّقنا الله وإيّاكم إلى القول والعمل لما يحبّ ويرضى، وجنّبنا وإيّاكم معاصيه بمنّه وفضله، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل)(104).
ولا يخفى أن التعليق على هذا البيان الكريم يحطّ من شأنه، إذ أنّ أيّ كلامٍ ترعف به الأقلام، يقصّر عن الوصول إلى تحليل بلاغة ما يقول هذا الإمام (عليه السلام) وكلّ إمامٍ من آبائه وأبنائه..
ولن نعرض إلى ما روي عنه (عليه السلام) من أحاديث في مختلف المواضيع وأكثر الأحكام الفقهية خوف الإطالة، فإنه قد أدّى قسطه من نشر أوامر الله تعالى وإحقاق الحقّ، وإنكار الباطل، والوقوف في وجه أهل المروق، ولم يصانع غير وجه ربّه الذي كفاه الوجوه كلّها، ثم أمسك بقلوب شيعته ووجّههم نحو الالتفات حول علمائهم ومراجعهم الّذين تفقّهوا في الدّين وكانوا أهل علمٍ، وفضلٍ، وتقوى، وورعٍ، ليبقوا على الخطّ المستقيم ويكونوا من الفائزين.. ولذلك نكتفي بذكر نزرٍ يسيرٍ ممّا روي عنه (عليه السلام) في مواضع هامّةٍ، كقوله:
لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الدّاعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته ومن فخاخ النّواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله!. ولكنّهم الّذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها - أي مقودها الذي يوجّه سيرها - أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ(105).
ويتضح من قوله الشريف هذا، أنّه قد افتتح عهداً جديداً سيلاقيه شيعته عما قريبٍ وذلك حين تقع غيبة حفيده الإمام الثاني عشر (عليه السلام) وعجّل الله تعالى فرجه، فيلجأ الشيعة إلى المراجع من علمائهم الربّانيّين، ليأخذوا عنهم معالم دينهم فلا يضلّون مع من ضل.. ثم أخذ يهيّئهم لتلك الغيبة والفترة الحيرة وطول الانتظار، ليكونوا على بصيرةٍ من الأمر قبل وقوعه، وليكونوا على مستوى المعرفة بعقيدتهم، والدفاع عنها والبرهنة على صحّتها، وفي مركز الجدارة لحمل المسؤولية في وجه المنكرين والمكابرين.
وقد نبّه - صلوات الله عليه - شيعته إلى ما سيفجأهم من عدم رؤية حفيده القائم بالقسط صلوات الله عليه وتحياته وبركاته، لحكمةٍ اقتضاها الله سبحانه وتعالى، وليهلك من هلك عن بينةٍ، ويحيا من حيّ عن بينة؛ ثم هيّأهم للصبر على ما يلقونه ممّن يناصبهم العداء، ليثبتوا على الحقّ. وكان من جملة ما قاله في ذلك (عليه السلام):
(الخلف من بعدي ابني الحسن. فكيف بكم بالخلف بعد الخلف؟!!
قيل: ولم، جعلنا فداك؟!
قال: لأنّكم لا ترون شخصه، ولا يحلّ لكم ذكر اسمه.
فقيل له: كيف نذكره؟
قال: قالوا: الحجّة من آل محمد)(106).
فهو - تحيات الله ورضوانه عليه - يخبر بذلك، ويهيّئ الأذهان، وينذر، ويخطّط لمستقبل طويلٍ يعانيه الشيعة بعد غيبة حفيده المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه ليقيم العدل في الأرض بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.. وقضى بقيّة فترة شبابه إرشاداً لأصحابه، وتطبيعاً لهم على الحياة في ظلّ إمامٍ غائبٍ مستورٍ عن أعين الظّلمة المتربّصين به لقتله إذا ظفروا به.. ثم أسلم ذلك لولده الإمام العسكريّ (عليه السلام) ليكمل تلك المرحلة من التهيئة والتطبيع.
ومن حكمه وأقواله الكريمة (عليه السلام):
من رضي عن نفسه، كثر السّاخطون عليه.
راكب الحرون أسير نفسه، والجاهل أسير لسانه.
النّاس في الدّنيا بالأموال، وفي الآخرة بالأعمال.
المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان.
الهزل - الهزء - فكاهة السفهاء وصناعة الجهّال!.السهر ألذّ المنام، والجوع يزيد في طيب الطعام. - يريد (عليه السلام) بالسّهر الحثّ على قيام الليل بالعبادة، وصيام النّهار - .
أذكر مصرعك بين أهلك، فلا طبيب يمنعك، ولا حبيب ينفعك.
المقادير تريك ما لا يخطر ببالك.
وقال (عليه السلام) لرجل، وقد أكثر من إفراط الثناء عليه:
(أقبل على شأنك، فإنّ كثرة الملق يهجم على الظّنة. وإذا حللت من أخيك في محلّ الثقة فاعدل عن الملق إلى حسن النيّة. - والملق: التودّد والتذلّل باللسان دون القلب - ).
الحكمة لأنجع في الطّباع الفاسدة.
إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور، فحرام أن تظنّ بأحدٍ سوءاً حتى تعلم ذلك. وإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل، فليس لأحدٍ أن يظنّ بأحدٍ خيراً حتى يرى ذلك منه)(107).
وقال سهل بن زياد: (كتب إليه بعض أصحابنا يسأله دعوةً جامعةً للدّنيا والآخرة، فكتب إليه:
أكثر من الاستغفار والحمد، فإنك تدرك بذلك الخير كلّه.
وقال للمتوكل في جواب كلامٍ دار بينهما:
(لا تطلب الصفاء ممّن كدّرت عليه، ولا الوفاء ممّن غدرت به، ولا النّصح ممّن صرفت سوء ظنّك إليه، فإنّما قلب غيرك كقلبك له).
قال (عليه السلام) لبعض مواليه: (عاتب فلاناً وقل له: إنّ الله إذا أراد بعبدٍ خيراً، إذا عوتب قبل)(108).
وقال (عليه السلام):
إنّ الله بقاعاً يحبّ أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه، والحير - كربلاء - منها.
من اتّقى الله يتّقى، ومن أطاع الله يطاع، ومن أطاع الخالق لم يبال سخط المخلوقين، ومن أسخط الخالق فليوقن أن يحلّ به سخط المخلوقين.
من أمن مكر الله وأليم أخذه، تكبّر حتى يحلّ به قضاؤه ونافذ أمره. ومن كان على بيّنةٍ من ربّه هانت عليه مصائب الدّنيا ولو قُرّض ونشر..
الشاكر أسعد بالشّكر منه بالنّعمة التي أوجبت الشّكر، لأنّ النّعم متاع، والشكر نعم وعقبى.
إنّ الله جعل الدّنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى؛ وجعل بلوى الدّنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدّنيا عوضاً.
إنّ الظالم الحالم يكاد أن يعفّي على ظلمه بحلمه، وإنّ المحقّ السّفيه يكاد أن يطفئ نور حقّه بسفهه.
من جمع لك ودّه ورأيه، فاجمع له طاعتك.
من هانت عليه نفسه، فلا تأمن شرّه.
الدّنيا سوق، ربح فيها قوم، وخسر آخرون..
وقال أبو هاشم الجعفريّ رحمه الله تعالى:
(دخلت على أبي الحسن، صاحب العسكر، (عليه السلام)، فجاء صبيّ من صبيانه فناوله وردةً أو ريحانةً ووضعها على عينيه، ثم صلّى على محمد والأئمة صلوات الله عليهم، كتب الله له من الحسنات مثل رمل عالج، ومحا عنه من السيئات مثل ذلك)(109).
المصادر:
1- الكافي: م 1 ص 86.
2- الكافي: م 1 ص 25.
3- الكافي: م 1 ص 105.
4- توحيد الصدوق: ص 62.
5- توحيد الصدوق: ص 20.
6- الكافي: م 1 ص 126.
7- الاحتجاج: ج 2 ص 449 - 450.
8- توحيد الصدوق: ص 66.
9- الأنعام: 103.
10- الاحتجاج: ج 2 ص 449.
11- الكافي: م1 ص 102 وتوحيد الصدوق: ص 59 وص 60 إلى ص 61.
12- المصدر السابق.
13- الكافي: م1 ص 107 وتوحيد الصدوق: ص 98.
14- الكافي: م 1 ص 107 - 108.
15- وفي هامش الكافي: م1 ص 119.
16- الكافي: م1 ص 118 إلى ص 120 وتوحيد الصدوق: ص 135 - 136.
17- الكافي: م1 ص 151.
18- الكافي: م1 ص 151 في هامش الصفحة رقم(1).
19- الكافي: م1 ص 137 – 138/ تحف العقول: ص 482 مع اختلاف يسير في اللفظ.
20- التوبة:74.
21- الأحزاب: 66.
22- النساء: 59.
23- النساء: 83.
24- النساء: 58.
25- الأنبياء: 7.
26- كشف الغمة: ج 3 من ص 176 إلى ص 178 وبحار الأنوار: ج 50 من ص 177 إلى ص 180.
27- الزمر: 67.
28- الزمر: 67.
29- المصدر السابق.
30- الأنعام: 91.
31- معاني الأخبار: ص 14.
32- توحيد الصدوق: ص 112.
33- معاني الأخبار: ص 139.
34- النور: 35 والخبر في الاحتجاج: ج2 ص 450.
35- المصدر السابق.
36- الأنعام: 125.
37- توحيد الصدوق: ص 174 والآية في الأنبياء: 49.
38- الطبرسي في الاحتجاج: ج2 ص 450.
39- المائدة: 55 - 56.
40- الأحزاب: 57.
41- وفي بعض النّسخ: بهذه الصفة.
42- الكهف: 49.
43- الحج: 10.
44- يونس: 44.
45- البقرة: 81.
46- النساء: 10.
47- النساء: 56.
48- البقرة: 85.
49- الأنعام: 160.
50- آل عمران: 30.
51- المؤمن: 17.
52- الزمر: 7.
53- آل عمران: 102.
54- الذاريات: 56 - 57.
55- النساء: 36.
56- الأنفال: 20.
57- البقرة: 85.
58- الاحتجاج: وملّكهم استطاعة ما تعبّدهم به من الأمر والنهي.
59- الزخرف: 31.
60- الزخرف: 32.
61- الأحزاب: 36.
62- صحة الخلقة، وتخلية السّرب، والمهلة في الوقت، والزاد، والسبب المهيّج.
63- الإسراء: 70.
64- التين: 4.
65- الانفطار: 6 - 7 - 8.
66- الحج: 37.
67- النحل: 14.
68- النحل: 5 - 7.
69- التغابن: 16.
70- البقرة: 286.
71- الطلاق: 7.
72- النور: 61 والفتح: 17.
73- آل عمران: 97.
74- المجادلة: 3 - 4.
75- النساء: 98.
76- النساء: 100.
77- النور: 31.
78- التوبة: 91.
79- آل عمران: 167.
80- الصف: 2.
81- النحل: 106.
82- البقرة: 225.
83- محمد: 31.
84- الأعراف: 182 والقلم: 44.
85- العنكبوت: 1 - 2.
86- ص: 34.
87- طه:85.
88- الأعراف: 155.
89- المائدة: 48 والأنعام: 165.
90- آل عمران: 152.
91- القلم: 17.
92- الملك: 2.
93- البقرة: 124.
94- محمد: 4.
95- المؤمنون: 115.
96- الأنعام: 28.
97- طه: 134.
98- الإسراء: 15
99- النساء: 165
100- إبراهيم: 4 .
101- فصلت: 17.
102- آل عمران: 7.
103- الزمر: 17 - 18.
104- تحف العقول: من ص 458 إلى ص 475 وحلية الأبرار: ج 2 من ص 448 إلى ص 453.
105- إعلام الورى: ص 410 /الاحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 259.
106- الكافي: م 1 ص 341 وهو في عدّة مصادر أخرى.
107- الأنوار البهية: ص 257 - 258.
108- تحف العقول: من ص 481 إلى ص 483.
109- حلية الأبرار: ج 2 ص 457.