یرى الجبریون أنَّ الانسان فی أعماله وأقوله وسلوکه لیس مختاراً وأنَّ حرکات أعضائه أشبه بالحرکات الجبریة فی أقسام جهاز من الأجهزة الألیة.
هذه الفکرة تثیر فی الذّهن هذا السّؤال: ترى کیف تنسجم هذه الفکرة مع الاعتقاد بالعدل الالهی؟ ولعل هذه هی الفکرة التی حدت بالأشاعرة الذین ینکرون الحسن والقبح العقلیین الى القبول بفکرة الجبریین عن انکار عدالة الله، إذ أنَّ مع القبول بفکرة الجبریین لا یعود هناک للعدالة الالهیة أی مفهوم.
ولتوضیح هذا الأمر لا بدّ من التطریق بدقّة الى عدّة من مواضیع:
1- مصدر الاعتقاد بالجبریة
کل شخص یدرک فی قرارة نفسه أنَّه حرّ فی اتخاذ ما یشاء من قرارت. فمثلاً یقرر أنْ یقدم عوناً مادیاً لصدیقه الفلانی، أو لا یقدم له شیئا. أو أنَّه عندما یکون عطشان ویرى الماء امامه، له الحریة فی أنْ یشرب أو لا یشرب. أو أنَّ فلاناً قد أساء الیه، فله أنْ یغفر له أولا یغفر. إنَّ کل شخص یمیز الید التی ترتعش بسبب الشیخوخة، والید التی تتحرک وفق إرادة صاحبها.
إذن، فاذا کانت مسأله حریة الارادة شعور عام فی الانسان، لماذا یذهب بعض الناس مذاهب جبریة؟
بدیهی إنَّ لذلک أسباباً متعددة نورد لکم هنا واحداً منها: یلاحظ الانسان أنَّ للمحیط تاثیراً فی الافراد، وکذلک التربیة، والتلّقین. والاعلام، والثقافة الاجتماعیة. کل هذه تؤثر فی فکر الانسان وروحه. کما أنَّ الحالة الاقتصادیة تکون أحیاناً باعثاً على سلوک معین فی الانسان. ولا یمکن أیضاً إغفال العامل الوارثی.
هذه الظّروف بمجموعها تجعل الانسان یظن أنَّ لا خیار له فیما یفعل. وإنّما هی العوامل الذاتیة من الداخل ومن الخارج تضع یداً بید وتحملنا على القیام ببعض الاعمال التی ربّما لم نکن لنقدم علیها لولا تلک العوامل.
هذه أُمور یمکن أن توصف بأنَّها ولیدة المحیط أو الظروف الاقتصادیة أو التعلیم والتربیة أو الوراثة، وهی من العوامل المهمّة التی تدفع بالفلاسفة نحو الجبریة.
2- النّقطة الرّئیسیة فی خطأ الجبریین
إنَّ النّقطة الرّئیسیة التی یغفل عنها هؤلاء هی أنَّ القضیة لیست قضیة "الدّوافع" و"العلل الناقصة"، بل هی قضیة "العلة التّامة" و بعبارة اُخرى، لا أحد ینکر تاثیر "المحیط" و"الثقافة" و"العامل الاقتصادی" فی تفکر الانسان وأفعاله. ولکن القضیة هی إنَّنا مع کل تلک العوامل نظل قادرین على اتخاذ القرار بغیر إجبار، بل بمحض اختیارنا.
إنَّنا ندرک بکل جلاء أننا حتى فی محیط طاغوتی منحرف ، مثل النظام الطّاغوتی الشاهنشاهی فی ایران سابقاً، حیث توفرت کل وسائل الانحرافات، لم نکن مجبرین على الانحراف، وفی ذلک المحیط وتلک الثقافة کنا نستطیع أنْ لا نرتشی، وأنْ لا نرتاد مواخیر الفساد، وأنْ لا نحیا حیاة متحللة. لذلک علینا أنْ نفصّل بین "الظّروف" و"العلة التّامة".
ولهذا کثیراً ما نرى أشخاصاً ترعرعوا فی محیط عائلی مرفه، أوفی محیط اجتماعی منحط، أو أنَّهم ورثوا موروثات سیئة، ومع ذلک فإنَّهم فصلوا طریقهم عن طریق الآخرین. بل ثار بعضهم حتى ضد المحیط الذی عاش فیه. فلو کان الانسان إبن محیطه وثقافة زمانه و إعلام عصره، لکان على الجمیع أنْ یخضعوا لذلک المحیط، ولما کانت هناک أیة ثورة ضد المحیط فی محاولة لتغییره.
یتضح من هذا أنَّ العوامل المذکورة لیست عوامل مصیریه حاسمة، بل هی عوامل ممهدة، فالمصیر الأصل هو الذی یصنعه الانسان باردته وقراره، وهذا أشبه ما یکون بحالنا فی عزمنا على الصیام فی صیف قائظ حارق، فإنّ کلّ ذرّة فی کیاننا تطلب الماء بالحاح، ولکننا إطاعة لأمر الله، نتغاضى عن کلّ ذلک ونستمر فی صیامنا، وقد یکون هناک من یضعف أمام العطش فلا یصوم.
والخلاصة هی إنَّ وراء، جمیع العوامل والدّوافع عام مصیریاً إسمه حریة الانسان فی اتخاذ قراره.
3- العامل الاجتماعی والسّیاسی فی المذهب الجبری
الحقیقة إنَّ مسألة "الجبر والتفویض" قد أسیء استعمالها إساءة بالغة على امتداد التاریخ، واستطاعت عوامل ثانویة کثیرة أنْ تقوی جانب الجبر وانکار حریة ارادة الانسان من تلک العوامل
أ- العامل السّیاسی
کثیر من الحکام الجبارین المعاندین الذین سعوا لإطفاء مشاعل ثورة المستضعفین لادامة حکمهم غیر المشروع، کانوا یتعهدون فکرة الجبریة ویشیعونها، قائلین: أنَّنا لا نملک حریة الاختیار، و إنَّ ید القدر وجبریة التاریخ تمسک بمصائرنا، فاذا کان بعض أمیراً، وبعض أسیراً، فذاک حکم القضاء والقدر والتاریخ.
لا یخفى ما لهذا الاتجاه فی التفکیر من تأثیر فی تخدیر طبقات الشعب وفی تأیید إستمرار السیاسات الاستعماریة، بینما الحقیقة هی أنَّ مصائرنا ـ عقلا وشرعاً ـ فی أیدینا، وإنَّ القضاء والقدر بمعنى الجبر وسلب الارادة لاوجود له، فالقضاء والقدر الالهی یتعیّن بحسب حرکتنا وإرادتنا وایماننا وسعینا.
ب- العامل النّفسی
هناک أشخاص ضعفاء وکسالى وغالباً ما یکون الاخفاق نصیبهم فی الحیاة، ولکنهم لا یریدون الاعتراف بهذه الحقیقة المرّة، وهی أنَّ کسلهم أو أخطاءهم هی السبب فی اخفاقهم، لذلک ولکی یبرئوا أنفسهم، یتمسکون بأذیال الجبریة، ویضعون أوزارهم على عاتق مصیرهم الاجباری، لعلهم بهذا یعثرون على وسیلة تمنحهم شیئاً من الهدوء الکاذب، فیعتذرون قائلین: ماذا نفعل؟ لقد حیک بساط حظنا منذ الیوم الاول باللون الاسود، ولیس بمقدور میاه زمزم وکوثر أنْ تحیل سواده بیاضاً. إنَّنا کتلة من الهمة والاستعداد، ولکن مع الاسف أنَّ الحظ لا یحالفنا!
ج- العامل الاجتماعی
یحب بعض الناس أنْ یکونوا أحراراً فی التمتع واشباع أهوائهم وارتکاب ما تشاء لهم رغباتهم الحیوانیة من الجرائم والآثام، وفی الوقت نفسه یقنعون أنفسهم بأنَّهم لیسوا مذنبیین، ویخدعون المجتمع بأنَّهم أبریاء. وهنا یلجأون الى عقیدة الجبریة، فیتذرعون فی أعمالهم بأنَّهم غیر مختارین .
ولکننا، بالطبع، نعلم إنَّ کل هذا کذب محض، بل إنَّ الذین یتذرعون بهذا العذر یؤمنون بأنَّه واه ولا اساس له، إلاّ أنَّ انغماسهم فی اللّذائذ الرخیصة لا تسمح لهم باعلان هذه الحقیقة.
لذلک لابدّ لنا فی سعینا لبناء المجتمع بناء سلیماً أنْ نکافح هذه المعتقدات الجبریة والمقولات عن الحتمیة التی یستغلها المستعمرون، وتتخذ وسیلة لتسویغ الاخفاق الکاذب ولإفشاء الفساد فی المجتمع.
الفرق بین الجبر والتفویض
قال الشیخ أبو جعفر رحمه الله: لا جبر ولا تفویض، بل أمر بین أمرین. وروى فی ذلک حدیثا مرسلا قال: فقیل: وما أمر بین أمرین؟ قال: مثل رجل رأیته على معصیة فنهیته فلم ینته فترکته ففعل تلک المعصیة، فلیس حیث لم یقبل منک فترکته کنت أنت الذی أمرته بالمعصیة.
قال الشیخ المفید علیه الرحمة: الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إلیه بالقهر والغلبة، وحقیقة ذلک إیجاد الفعل فی الخلق من غیر أن یکون لهم قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فیه، وقد یعبر عما یفعله الإنسان بالقدرة التی معه على وجه الإکراه له على التخویف والإلجاء أنه جبر والأصل فیه ما فعل من غیر قدرة على امتناعه منه حسب ما قدمناه، وإذا تحقق القول فی الجبر على ما وصفناه کان مذهب أصحاب المخلوق هو بعینه، لأنهم یزعمون أن الله تعالى خلق فی العبد الطاعة من غیر أن یکون للعبد قدرة على ضدها والامتناع منها، وخلق فیه المعصیة کذلک، فهم المجبرة حقا [والجبر مذهبهم على] التحقیق.
والتفویض هو القول برفع الحظر عن الخلق فی الأفعال والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بین هذین القولین أن الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومکنهم من أعمالهم، وحد لهم الحدود فی ذلک، ورسم لهم الرسوم [ونهاهم عن] القبائح بالزجر والتخویف، والوعد والوعید، فلم یکن بتمکینهم من الأعمال مجبرا لهم علیها، ولم یفوض إلیهم الأعمال لمنعهم من أکثرها، ووضع الحدود لهم فیها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبیحها. فهذا هو الفصل بین الجبر والتفویض على ما بیناه.