القدس، عنوان الصراع المحتدم في الشرق الاوسط، وسيظل كذلك الى حين، فهي مهبط الرسالات وملتقى الاديان، وبدلا من ان تكون موضع ائتلاف اتباع تلك الديانات، حولها المحتلون الى بؤرة خلاف واختلاف، ليس بين الفلسطينيين والاسرائيليين فحسب، بل بين اتباع الاديان الثلاثة الكبري، وذلك بسبب فرض الهيمنة الصهيونية عليها.
وفيما اكتفى المسلمون بشعور الانتماء المجرد من الخطط والاجراءات العملية، ثمة جهات تعمل في السر والعلن لتحقيق هدف واحد: بناء الهيكل الثالث مكان الحرم الشريف.
فبالاضافة الى الصهاينة اليهود، هناك فئة اخرى قلما تسلط الاضواء عليها، وتعرف باسم المسيحيين الصهاينة، تعمل منذ اكثر من مائة عام، ولها وجودها القوي في الولايات المتحدة الامريكية.
ووفقا لما يقوله الدكتور العراقي، جعفر هادي حسن، المتخصص في الشؤون العبرية والدراسات اليهودية، فان هذه الفئة تختلف عن المحافظين الجدد الذين يهيمنون على السياسة الخارجية الامريكية منذ وصول الرئيس الحالي الى الرئاسة، فالمنطلق يختلف وإن كانوا يتفقون في كثير من الأهداف.
هذه الفئة تستمد جذورها من اطروحات جون نيلسون داربي (1800 ـ 1882) وهو رجل دين بريطاني من اصل ايرلندي، الذي روج لفكرة جمع اليهود في فلسطين، لتحقيق نبوءة تاريخية تقول ان من شروط ظهور المسيح تجمع اليهود في فلسطين (أرض الميعاد).
فهؤلاء مسيحيون اصوليون (بروتستانت)، أصدروا في الربع الأول من القرن الماضي مجموعة كتيبات مشهورة بعنوان الاصول ووزعوا خمسة ملايين نسخة منه، بعد ان راجت افكار داربي وأثرت على عدد من القساوسة اشهرهم ويليام بلاكستون (1851 ـ 1931).
هذا الشخص كرس حياته لنقل اليهود الى فلسطين، منذ ان اصبح متدينا في مدينة آدمز بالولايات المتحدة، وهو في السابعة عشرة من عمره.
وفي الثمانينات من القرن التاسع عشر عقد بلاكستون مؤتمرا بعنوان: ارجاع اليهود الى فلسطين حضره عدد كبير من القساوسة والمبشرين من اليهود والمسيحيين، أثروا لاحقا على ويليام ماكنلي الذي اصبح رئيسا للولايات المتحدة (1897 ـ 1901).
وبعد المؤتمر أعد بلاكستون عريضة عنوانها ضرورة ارجاع اليهود الى فلسطين وقعها عدد من المسيحيين واليهود وقدمها الى الرئيس الامريكي بنجامين هاريسون (1889 ـ 1893).
وكتب كتابا عنوانه مجيء عيسى ترجم الى عدة لغات.
ويقدر عدد المسيحيين الصهاينة بما يصل الى خمسين مليونا في الولايات المتحدة، ولهم تأثيرهم على الرأي العام خصوصا في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ويختلف هؤلاء عن المحافظين الجدد ذوي النفوذ حاليا على السياسة الخارجية الامريكية، باجندتهم المرتبطة بفلسطين، بينما المحافظون الجدد لهم اجندتهم الامريكية في اساسها.
في 1895 ظهرت الصهيونية اليهودية بقوة وكانت هناك خيارات مطروحة لليهود من بينها اوغندا هرتزل نفسه وافق على ان يقطن اليهود اوغندا؛ ولكن بلاكستون ارسل نسخة من التوراة وأشار الى كل العبارات التي تتحدث عن إسكان اليهود في فلسطين.
وقد احتفظت اسرائيل بهذه النسخة في متحف بتل ابيب.
بلاكستون كان على علاقة وطيدة برئيس المنظمة الصهيونية في الولايات المتحدة الذي قال في مؤتمر يهودي عقد في بداية القرن الماضي بأن بلاكستون هو رجل الصهيونية وليس هرتزل وعندما توفي ترك امواله للصهيونية.
ويقال ان الرئيس نيلسون عندما وافق على وعد بلفور المشؤمة كان متأثرا بعريضة بلاكستون.
تتميز نظرية المسيحيين الصهاينة باللامبالاة ازاء الفساد والدمار المنتشر في العالم، هذه الخلفية تفسر الاصرار الصهيوني، المدعوم امريكيا، على استمرار احتلال فلسطين، والرفض المطلق للتخلي عن القدس.
وما السياسة الامريكية في هذه القضية الا انعكاس للعمل المتواصل من قبل تلك الفئات للتأثير على السياسة الخارجية لواشنطن، وهي سياسة اصبحت مسايرة بشكل شبه كامل للارادة الاسرائيلية.
وقد أدت الضغوط الامريكية في العقدين الاخيرين على الفلسطينيين والحكومات العربية للتخلي التدريجي عن خيار النضال ضد الاحتلال، والغاء مقاطعته، وهي ظاهرة محزنة حقا، ومؤشر للضعف الآخذ في الاستشراء في جسد الامة.
فالاحتلال الاسرائيلي لم يغير شيئا من اساليبه في تكريس الاحتلال وقمع من يقاومه بشتى الاساليب انسحبت قوات الاحتلال الاسرائيلية من قطاع غزة، ولكن بقي الاحتلال في بقية ارض فلسطين، وما تزال الضفة الغربية ترزح تحت ذلك الاحتلال البغيض.
وما تزال مدينة القدس مرتهنة بأيدي المحتلين، بعد ان مضى اكثر من 37 عاما على احتلالها في حرب النكبة 1967.
الذين عاصروا تلك الحرب يتألمون لاوضاع الامة وما انتابها من خور وضعف، وكيف فشلت الدول العربية في توحيد صفوفها وشحذ هممها لمواجهة العدوان وانهاء الاحتلال في تلك الحرب التي حسمت منذ ساعاتها الاولي، وأدت الى توسع الاحتلال ليشمل الضفة الغربية وقطاع غزة.
مدينة القدس هذه، التي حكمها المسلمون وفتحوا ابوابها لأصحاب الديانات الاخرى بدون عصبية او بغضاء للزيارة والعبادة، ما تزال اليوم مرتهنة بأيدي قوات الاحتلال الاسرائيلية، وما تزال تستنهض المسلمين وتستحثهم لانقاذها من براثن العدوان الصهيوني.
لقد قيل الكثير في حق تلك المدينة المقدسة، وألفت الكتب حول تاريخها.
كما تعددت الاطروحات بشأن مستقبلها، ما بين المطالبة بالتحرير الكامل ووضعها تحت اشراف دولي وتقسيمها بين الفلسطينيين والمحتلين.
كما اختلفت مواقف الدول الاخرى بشأن هذه المدينة المقدسة لدى أتباع الديانات الثلاث، ما بين رافض الاعتراف بالهيمنة الصهيونية عليها، والساكت على ذلك، والداعم للاحتلال بالاشارة المتكررة لنقل سفارته اليها.
اما سكانها فمنقسمون ايضا، بين من يشعر بالعدوان والظلامة على ايدي قوات الاحتلال الاسرائيلية، والمطالبين باخلائها من سكانها الفلسطينيين لتبقى خالصة لليهود.
بل ان القدس اصبحت اليوم وسيلة لتمرير اساليب التطبيع مع قوات الاحتلال، اذ يتظاهر البعض بزيارتها كمهمة دينية لكي يزور الاراضي المحتلة الواقعة تحت الهيمنة الاسرائيلية ويلتقي بالصهاينة.
اذن فهي مدينة ليست كالمدن الاخرى، وقضيتها تتقاطع مع القضية الفلسطينية ولكن لها شأنا خاصا، ومعادلة أكثر تعقيدا.
فقداستها تجعلها متميزة في كل شيء، فهي مهبط الاديان، وموطن الانبياء ومعراج الرسول الاكرم عليه افضل الصلاة والسلام الى السماء موقف المسلمين من تلك المدينة المقدسة ثابت لا يتغير، فالقدس عنوان عريض للتاريخ الديني للعالم، وقد اختصرت قضية فلسطين في هذه المدينة، وما يزال هناك اجماع عربي ـ اسلامي على عدم التفريط بها، وعدم السماح لقوات الاحتلال بمصادرتها او تشطيرها الى قسمين: شرقي وغربي، وهو الامر الذي حدث بعد حرب 1967، وتسعى اسرائيل لوضع يدها بالكامل عليها في اية تسوية سلمية مع الفلسطينيين.
وقد التزم علماء المسلمين وقياداتهم حتى الآن بتحريم التنازل عن المدينة، واصروا على تحريرها من الاحتلال الاسرائيلي، لكي يستطيع كافة اتباع الديانات الارتباط بها وبما تحتويه من مقدسات دينية.
وبمناسبة يوم القدس العالمي الذي اعلنه الامام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) بعد بضعة شهور من انتصار الثورة الاسلامية المباركة في ايران يتوقع خروج مسيرات كثيرة في العواصم الاسلامية والعالمية للمطالبة بتحرير المدينة المقدسة.
ففي خطابه في 7 اغسطس 1979 تطرق للقدس قائلا: انني اطلب من جميع مسلمي العالم والحكومات الاسلامية رص الصفوف لقطع يد هذا الغاصب واعوانه.
واناشد المسلمين تخصيص آخر جمعة في شهر رمضان يوما عالميا للقدس .
وفي خطاب آخر اعتبر اسرائيل غدة سرطانية في جسد العالم الاسلامي وطالب بازالتها.
وفي الاسبوع الماضي قال مرشد الثورة الاسلامية في ايران، آية الله العظمى السيد علي خامنئي ان اليوم العالمي للقدس هو يوم الامتحان العظيم للشعوب الاسلاميه مؤكدا ان المسلمين سيقولون كلمتهم في هذا اليوم.
وأضاف ان يوم القدس العالمي لهذا العام يكتسي اهمية كبرى وذلك بسبب ما أسماه الاندحار الصهيوني من قطاع غزة وكذلك المؤامره التي يحيكها الامريكيون والصهاينة وبعض حلفائهم للتعويض عن هذه الهزيمة.
واكد ان المحاولات الجارية بين بعض دول المنطقة لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهوني عمل شنيع لا يجب ان ترضخ له الدول الاسلامية ولا يجب ان تظهر ودا لارضاء امريكا الداعمة لهذا الكيان الغادر والغاصب والظالم الذي يشكل خطرا يتهدد جميع شعوب ودول المنطقة.
هذه الكلمات تعكس عمق قضية القدس لدى علماء الدين في ايران الذين يعتبرونها قضية مبدئية لا تخضع للمساومة او التنازل.
ويكشف هذا الموقف مدى عمق القضية في الوجدان الاسلامي عموما، وبشكل خاص لدى قادة ايران التي كانت قبل سقوط نظام الشاه، معقلا من معاقل الهيمنة الامريكية والاسرائيلية في المنطقة.
وثمة خشية كبيرة من اخضاع مدينة القدس للمزايدات والمساومات السياسية في الفترة المقبلة، خصوصا مع الرغبة الامريكية في تحقيق سلام دائم بين العرب وقوات الاحتلال الاسرائيلية، والاعداد المتواصل لتهيئة ارضية سياسية وثقافية مناسبة في المنطقة لاحتضان اسرائيل كدولة شرق اوسطية تمارس موقعا متقدما في صنع سياساته وتؤثر على تحالفاته وتساهم في تحديد اولوياته.
ظاهرة التطبيع هذه من شأنها ان تؤدي الى واحد من مسارين: فاما القبول المطلق بمسار التسوية والتطبيع، وفي ذلك بداية المشاكل وليس نهايتها، او اثارة الرأي العام الرافض لذلك التطبيع، وفي ذلك مدخل محتمل للمزيد من التوتر السياسي والاجتماعي الذي قد يؤدي الى تغيرات في توازن القوي لغير صالح امريكا و اسرائيل .
وبذلك قد تشهد المنطقة تغيرا جوهريا في الميزان السياسي الاقليمي لغير صالح قوات الاحتلال وداعميها الامريكيين.
ان يوم القدس علامة فارقة في تاريخ الازمة، بعد ان اصبح علامة فارقة في المسيرة الطويلة من اجل التحرير والاستقلال، ويجدر بالعرب والمسلمين ان يعبروا فيه عن موقف مبدئي صلب، واصرار على انهاء الاحتلال، ووقف التطبيع معه، وعدم فتح جبهات اخرى لصرف الانظار عن المخطط الصهيوني للتوسع والهيمنة.
source : http://www.ahl-ul-bayt.org