عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

وصايا ذهب

 أولا - التحذير من الاختلاف:
أمر الله تعالى في كتابه الكريم بعدم الاختلاف في الدين في أكثر من آية، منه قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (1)، وقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا " (2) وقال جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (3) وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) " إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (4).
وحذر تعالى من عاقبة الاختلاف في الدين في أكثر من آية من كتابه الكريم. منه قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ. إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (5)، قال المفسرون: أي أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات والانشعابات المذهبية بعد أن جاءهم العلم، ليسوا على طريقتك التي بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة، إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون. ويكشف لهم حقيقة أعمالهم، والآية عامة. تعم اليهود والنصارى والمختلفين بالمذاهب والبدع من هذه الأمة.
وفي الوقت الذي أمرت فيه الدعوة الإلهية الخاتمة بعدم الاختلاف، أخبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالغيب عن ربه العليم المطلق سبحانه، بأن الأمة ستختلف من بعده وسيتبع بعضها سنن اليهود والنصارى، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) " إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلك إحدى وسبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة، قيل: يا رسول الله من تلك الفرقة؟ قال: الجماعة الجماعة " (6)، أما اتباع سنن الأولين ففي قوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون) (7)، روى ابن جرير أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قال في هذه الآية " حذركم الله أن تحدثوا في الإسلام حدثا وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة، فقال تعالى:
(فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم... الآية). وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وإن الفتنة عائدة كما بدأت " (8)، وروى ابن كثير عن ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، " كالذين من قبلكم " هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، والذي نفسي بيده ليتبعنهم حتى لو دخل الرجل جحر ضب لدخلتموه " (9)، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم " قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (10) وقال المفسرون: إن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض، وإنهم جميعا والكفار ذو طبيعة واحدة في الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الاستمتاع. بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد، والخوض في آيات الله. ثم في حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة والخسران. ومعنى الآيات: أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة وأموال وأولاد، بل أشد وأكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم، وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا وخضتم كما خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون، وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران.
لقد حذرت الدعوة الإلهية عند المقدمة من الاختلاف في الدين، وذكرت أن الاختلاف بعد العلم لا يمكن أن يضع أصحابه على طريقة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، لأنها طريقة بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة، وحذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين أوتوا الكتاب. وبينت برامجهم وأهدافهم، وأخبرت بأنهم يصدون عن سبيل الله. ويعملون من أجل أن تضل الأمة وتتبع طريقتهم في الحياة، ثم أخبر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بالغيب عن ربه بما يستقبل الناس، ومنه: أن الأمة ستفترق وسيتبع بعضها طريقة اليهود والنصارى، والتحذير عند المقدمة فيه أن الصراع قائم بين الحق وبين الباطل، وظهور الذين اتبعوا اليهود والنصارى عند نهاية الطريق، لا يعني سقوط المسيرة، وإنما يعني سقوط الغثاء والزبد الذي لا قيمة له، وأعلام هؤلاء يحملها المنافقين والمنافقات كما ظهر في صدر الآية الكريمة.

ثانيا - التحذير من أمراء السوء:
حذرت الدعوة الخاتمة من الميل إلى الذين ظلموا، لأن على أعتابهم يأتي ضعف العقيدة وفقدان القدوة، وبينت أن قيام الذين ظلموا بتوجيه الحياة العقلية والدينية للأمة. ينتج عنه شيوع المشكلات الزائفة التي تشغل الرأي العام، وتجعله داخل دائرة الصفر حيث الجمود والتخلف، وعلى أرضية الجمود تفتح الأبواب لسنن الأولين، ومعها يختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال، وبهذا يتم التعتيم على نور الفطرة وتغيب الحقيقة تحت أعلام الترقيع والتلجيم التي تلبست بالدين، قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) (11) قال المفسرون: نهى الله تعالى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم. بأن يميلوا إليهم ويعتمدون على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية، لأن الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا، يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير، ويغيرهما عن الوجهة الخالصة، ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل، أو إحياء حق بإحياء باطل، أو إماتة الحق لإحيائه.
والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أخبر بالغيب عن ربه. أن الأمة ستركن إلى هؤلاء، وأمر بأن تأخذ الأمة بالأسباب لأن الله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون، فعن ثوبان قال. قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " (12)، وعن أبي هريرة قال. قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " يهلك أمتي هذا الحي من قريش " قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال " لو أن
الناس اعتزلوهم " (13)، وعن خباب بن الإرث قال: إنا لقعود على باب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " ننتظره أن يخرج لصلاة الظهر، إذ خرج علينا فقال:
إسمعوا. فقلنا: سمعنا، ثم قال: إسمعوا، فقلنا: سمعنا، فقال: إنه سيكون عليكم أمراء فلا تعينوهم على ظلمهم، فمن صدقهم بكذبهم فلن يرد علي الحوض (14)، وعن حذيفة قال. قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): سيكون عليكم أمراء يظلمون ويكذبون. فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم. فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعينهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض (15)، ومن هذه الأحاديث يستنتج أن الأمراء ضد خط أهل البيت، بدليل أنهم لن يردوا على الحوض، وفي الحديث أن أهل البيت مع القرآن ولن ينفصلا حتى يردا على الحوض، ويستنتج أيضا أن أهل البيت لن يكونوا في صدر القافلة وأن هناك أحداث ستؤدي إلى إبعادهم عن مركز الصدارة، بدليل وجود الأئمة المضلين وأمراء الظلم، فلو كان أهل البيت في الصدارة، ما اتخذوا هؤلاء بطانة لهم، لأن أهل البيت مع القرآن والقرآن نهى عن ذلك.
وبالجملة: أخبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بوجود تيار في بطن الغيب سيعمل ضد سياسة أهل البيت، وإن هذا التيار لن يرد على الحوض، لقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) " لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد يوم القيامة عن الحوض " (16)، وقوله لعلي بن أبي طالب " يا علي. معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي " (17) وأمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بمواجهة هذا التيار باعتزالهم وعدم إعانتهم وعدم تصديقهم، وروي عن ابن مسعود. قال.
قال (صلی الله عليه وآله وسلم) " إن رحى الإسلام دائرة، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان، فدوروا مع الكتاب حيث دار، وستكون عليكم أئمة إن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟
قال: كونوا كأصحاب عيسى. نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة. خير من حياة في معصية " (18) وروي عن معاذ قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك. ولا يأخذون بأمرك. فما تأمرني في أمرهم؟ فقال: لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل " (19).
وروي عن ابن مسعود قال. قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل. كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد. فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلى قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم) إلى قوله: (فاسقون) ثم قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا (أي لتردنه إلى الحق)، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم " (20)، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) " مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها.
كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها.
وأصاب بعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها فإننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإن تركوهم غرقوا جميعا " (21) كانت هذه بعض تعاليم النبوة لمواجهة الظلم والجور في وقت ما على امتداد المسيرة، أما بعد استفحال الظلم والجور. نتيجة للثقافات التي سهر عليها المنافقون وأهل الكثاب لإيجاد غثاء مهمته النباح تأييدا للجلادين، والتصفيق للزبانية ومصاصي الدماء، يقول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) " ما ترون إذا أخرتم إلى زمان. حثالة من الناس. قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا. وكانوا هكذا، (وشبك بين أصابعه) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون. ويقبل أحدكم على خاصة نفسه. ويذر أمر العامة " (22)، وفي رواية: إتق الله عز وجل، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك، وإياك وعوامهم (23).
وبالجملة: بين النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أن صنفا من الناس سيحرص على الإمارة من بعده، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) " إنكم ستحرصون على الإمارة. وستصير حسرة وندامة يوم القيامة. نعمت المرضعة وبئست الفاطمة " (24) نعم المرضعة:
لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاد الكلمة وتحصيل اللذات الحسية. وبئست الفاطمة: أي بعد الموت لأن صاحبها يصير إلى المحاسبة. قال (صلی الله عليه وآله وسلم) " ليتمن أقوام ولوا هذا الأمر. أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يولوا شيئا " (25)، وليس معنى هذا أن الإسلام لا يعترف بالقيادة والإمارة. فالإسلام يقوم على النظام وفيه لكل شئ ذروة، والحديث يحذر غير أصحاب الحق من أن ينازعوا الأمر أهله، لأنه في المنازعة ضياع للأمانة. قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " قالوا: كيف أضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله.
فانتظروا الساعة " (26). ويفسر هذا ما روي عن داوود بن أبي صالح. قال؟
أقبل مروان بن الحكم يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال: أتدري ما تصنع؟ وأقبل عليه وإذا هو أبو أيوب الأنصاري. فقال:
نعم جئت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم آت الحجر، سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله. ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله (27).
وبين النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) للأمة أسباب الهدى على امتداد المسيرة. تحت مظلة الامتحان والابتلاء، بين الأسباب في عصر به الصحابة، وبينها في عصر به التابعين، وبينها في عصور جاءت بعد ذلك. والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.

ثالثا - التحذير من ذهاب العلم:
إن كل موجود يحظى بالعلم بقدر ما يحظى بالوجود. والله تعالى يرفع الذين آمنوا على غيرهم في العلم، ويرفع الذين أوتوا العلم منهم درجات، بمعنى أن العلم له مكان في دائرة الذين آمنوا، وهذه الدائرة مراتب ولها ذروة، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (28)، وذروة الذين أوتوا العلم. مع الذين ارتبطوا بكتاب الله ولا ينفصلوا حتى يردوا على الحوض، ومن دائرة الذروة تخرج المعارف الحقة والعلوم المفيدة، لأن الذين في الذروة هم العامل الذي يحفظ الأخلاق ويحرسها في ثباتها ودوامها، ولأن من عندهم تتدفق العلوم التي تصلح أخلاق الناس، ليكونوا أهلا لتلقي المزيد من المعارف الحقة. التي لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلاقه.
وكما أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أمته بأن يمسكوا بحبل الله ليردوا على الحوض، أخبر كذلك بالغيب عن ربه بأن العلم سيرفع، ورفعه هو نتيجة لذهاب أوعيته، عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم). فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أو أن يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شئ، فقال زياد بن لبيد: كيف يختلس منا. وقد قرأنا القرآن. فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى. فماذا تغني عنهم (29)، وفي رواية عن شداد بن أوس قال " وهل تدري ما رفع العلم؟ ذهاب أوعيته " (30) وفي رواية عن أبي إمامة قال " وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يصبحوا يتعلقوا بحرف واحد مما جاءتهم به أنبياؤهم، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته " (31)، وقال في تحفة الأحوازي: ومعنى هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى. أي أن القراءة دون علم وتدبر محل نظر. وقال القارئ: أي فكما لم تفدهم قراءتهما مع عدم العمل بما فيهما فكذلك أنتم (32).
وعلى امتداد المسيرة ظهر ما كان في بطن الغيب، ظهر الذين يقرؤون القرآن لا يعدوا تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وظهر الذين قرؤا ثم نقروا ثم اختلفوا ثم ضرب بعضهم رقاب بعض، وظهر الذين قرؤا ثم اعتزلوا ثم خرجوا على جيرانهم بالسيوف ورموهم بالشرك. بينما كانوا هم إلى الشرك أقرب، وظهر الذين لا يقرؤن القرآن إلا في حفلات النفاق التي يشرف عليها اليهود والنصارى في كل مكان، وعلى أكتاف هؤلاء وهؤلاء. انطلق البعض في طريق التقدم إلى الخلف. وارتبط مصيرهم بمصير الذين سبقوهم، قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) " إن بني إسرائيل إنما هلكت حين كثرت قراؤهم " (33) وأخبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن الذين يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين، وقال " لا يزالوا يخرجون، حتى يخرج آخرهم مع الدجال " (34)، وفي رواية " كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون مع بيضتهم الدجال " (35).
وبالجملة: أقام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الحجة في أول الطريق وانطلقت الحجة مع المسيرة حتى نهاية الطريق، وأمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أمته أن تأخذ بحبل الله حتى لا يضلوا، وقال: ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون وأصحاب. يأخذون بسنته ويقتدون بأمره.
ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف. يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (26)، وقال في الفتح الرباني: الحواريون هم خلصان الأنبياء وأصفيائهم. والخلصان هم الذين نقوا من كل عيب. وقيل: الخلصان هم الذين يصلحون للخلافة بعد الأنبياء (37).
لقد دافع الإسلام عن العلم، ولم يقاتل يوما من أجل الكرسي، وأمر الإسلام بالجهاد للإبقاء على الذروة التي تفيض بالعلم الإلهي ذروة كل العلوم وأشرف العلوم، لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يحملون النور المحمدي، ذلك النور الذي يعتبر برزخا بين الناس وبين النور الإلهي.
الذي تندك له الجبال.

رابعا - العترة بين التحذير والابتلاء:
إن الله تعالى يمتحن الناس بالناس. قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) (38) فدائرة الهدى على امتداد المسيرة البشرية، فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم، فيميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان، والمتبعون للأهواء من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله وسلوك سبيله، وكما أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أمته بأن يتمسكوا بحبل العترة حتى لا يضلوا، وقال " أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي " (39) وقال " إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا. كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (40)، فإنه أخبر أمته بأنهم سيمتحنون بأهل بيته. قال " إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي " (41)، وأخبر بالغيب عن ربه بما سيسفر عنه الامتحان، فقال " إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا " (42).
وأخبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب. بما سيجري له من بعده، وقال له " إن الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي، وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه (يعني لحيته) ستخضب من هذا (يعني رأسه) (43)، وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال له:
ألا أحدثك بأشقى الناس، رجلين، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه (يعني رأسه) حتى تبتل منه هذه (يعني لحيته) (44).
وأخبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الحسين بن علي بما سيجري له من بعده، وروى ابن كثير عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: أشهد لقد سمعت عائشة تقول: أنها سمعت رسول الله نهض يقول: يقتل الحسين بأرض بابل (45) وروى الحاكم عن ابن عباس قال: ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف (46) وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق يقال لها كربلاء. فمن شهد ذلك فلينصره (47)، وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه (48).
والخلاصة: إن الله يختبر الناس بالناس، وعلى هذا الاختبار يظهر أهل الريب من أهل الإيمان، قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة)(49)، وقال سبحانه (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا. أليس الله أعلم بالشاكرين) (50)، وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض. ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) (51)، والدعوة الخاتمة بينت الدرجات. وأمر تعالى بمودة قربى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم). قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (52) وبينت الدعوة أن الذين لا يصلون ما أمر الله به أن يوصل، والذين لم يأخذوا بما أمرهم تعالى به من طاعة وبما نهاهم به من نهي، فهؤلاء خاسرون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) (53)، وقال جل شأنه (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) (54).
وبينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن عدم مودة الذين أمر الله بمودتهم، يفتح الطريق أمام مودة أعداء الفطرة وقد أمروا بعدم مودتهم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) (55). فالآية تنهي عن مودة المشركين والكفار وتنهي أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء. وتفتح الطريق أمام عبادة الأهواء والأوثان. قال تعالى حاكيا عن إبراهيم قوله لقومه (قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) (56) قال المفسرون: وبخهم على سوء صنيعهم في عبادة الأوثان. وقال: إنما اتخذتم هذه ليجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا، وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعين الأتباع.
فالطريق يبدأ بأمر الله ونهيه، وعلى امتداد الطريق يمتحن الله الناس ببعض الناس، فمن سلك فيما أمر الله به نجا، ومن لم يؤخذ بوصايا الله ضل، والله تعالى أمر بصلة الأرحام، وذروة الأرحام عترة النبي الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم)، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) " إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صلبه.
وأن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أي طالب " (57)، وقال " أن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم " (58)، وقال " نحن خير من أبنائنا، وبنونا خير من أبنائهم، وأبناء بنينا خير من أبناء أبنائهم " (59)، وهكذا فكما أن للعلم درجات، فللأرحام درجات، وميزان هذه الدرجات هو التقوى والعلم بالله، فمن التف حول الذين أمر الله بمودتهم شرب من الماء، ومن أبى فتحت عليه مودة أخرى يتهوكون فيها تهوك اليهود في الظلم، ويوم القيامة يعض على يديه، قال تعالى: (يوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني. وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) (60).
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية. قامت طائفة الحق بالدفاع عن الفطرة، ولم يضرها من عاداها أو من خذلها، وفي عهد الإمام علي.
خرج عليه أصحاب الأهواء، فقاتلهم الإمام على تأويل القرآن، وعنه أنه قال " أمرني رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين " (61)، فالناكثين: أهل الجمل، والقاسطين: أهل الشام، والمارقين: الخوارج، وانطلقت مسيرة الإمام رضي الله عنه بأعلام الحمية، وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال له " أنت أخي وأبو ولدي، تقاتل في سنتي وتبرئ ذمتي، من مات في عهدي فهو كنز الله، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية. وحوسب بما عمل في الإسلام " (62)، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية، ومن فاتل تحت راية عمية. يغضب لعصبته ويقاتل لعصبته وينصر عصبته، فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي الذي عهدها، فليس مني ولست منه " (63).
وتحت هذا الضوء انطلقت الأمة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون. لاستحقاق الثواب والعقاب يوم القيامة.
المصادر :
1- سورة آل عمران آية 105.
2- رواه البخاري (كنز العمال 177 / 1).
3- سورة آل عمران آية 103.
4- رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن. والطبراني. وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).
5- سورة الأنعام آية 159.
6- رواه أحمد (الفتح الرباني 6 / 24) والترمذي وصححه (الجامع 25 / 4).
7- سورة التوبة آية 69.
8- تفسير ابن جرير 122 / 10.
9- تفسير ابن كثير 368 / 2.
10- رواه أحمد والبخاري ومسلم (الفتح الرباني 197 / 1).
11- سورة هود آية 113.
12- رواه أحمد ومسلم والترمذي (الفتح الرباني 31 / 27).
13- رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ومسلم (الصحيح 41 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 39 / 23).
14- رواه أحمد (الفتح الرباني 30 / 23) وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 352 / 2).
15- رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 248 / 5).
16- رواه الطبراني (كنز العمال 104 / 12).
17- رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (135 / 9).
18- رواه الطبراني عن ابن مسعود (كنز العمال 216 / 1) ورواه عن معاذ (كنز العمال 211 / 1).
19- رواه عبد الله بن أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 44 / 23).
20- رواه أبو داوود حديث 4337، وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال
21- رواه أحمد والبخاري (الفتح الرباني 177 / 19) والترمذي وصححه (الجامع 470 / 4).
22- رواه الطبراني وفال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 279 / 7).
23- رواه أحمد وإسناده صحيح (الفتح الرباني 12 / 23).
24- رواه أحمد (الفتح الرباني 22 / 23) والبخاري (الصحيح 235 / 4).
25- رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 23 / 23).
26- رواه البخاري (الصحيح 128 / 4).
27- رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح الرباني 132 / 23) (الزوائد 245 / 5) والحاكم وصححه و الذهبي (المستدرك 515 / 4).
28- سورة المجادلة آية 11.
29- رواه الترمذي وقال حديث صحيح (تحفة الأحوازي 412 / 7).
30- رواه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه (النتح الرباني 183 / 1).
31- رواه أحمد والطبراني بسند صحيح (الزوائد 200 / 1).
32- تحفة الأحوازي 413 / 7.
33- رواه الطبراني (كنز العمال 268 / 10) (الزوائد 189 / 1).
34- رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 299 / 6).
35- رواه الطبراني. وإسناده، حسن (الزوائد 230 / 6).
36- رواه مسلم وأحمد (الفتح الرباني 190 / 1) وابن عساكر (كنز العمال 73 / 6).
37- الفتح الرباني 190 / 1.
38- سورة الفرقان آية 20.
39- رواه مسلم (الصحيح 123 / 7).
40- رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
41- رواه الطبراني (كنز العمال 124 / 11).
42- رواه الحاكم ونعيم بن حماد (كنز العمال 169 / 11).
43- أحمد والحاكم وصححه (المستدرك 142 / 3) والدارقطني والخطيب (كنز العمال 617 / 11) والبيهقي (البداية 218 / 6).
44- رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (الزوائد 136 / 9) و الحاكم والبيهقي بسند صحيح (المستدرك 141 / 3، البداية والنهاية 218 / 6، كنز العمال 136 / 13).
45- البداية والنهاية 177 / 8.
46- رواه الحاكم وقال السيوطي سنده صحيح (الخصائص / السيوطي 213 / 2).
47- رواه البغوي وابن السكن والبارودي وابن منده وابن عساكر وأبو نعيم (البداية والنهاية 199 / 8) (كنز العمال 126 / 12) (الخصائص الكبرى 213 / 2) (أسد الغابة 349 / 1) (الإصابة 68 / 1).
48- أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار (الزوائد 188 / 9) والماوردي في أعلام النبوة بسند صحيح ص 83.
49- سورة الفرقان آية 20.
50- سورة الأنعام آية 53.
51- سورة الأنعام آية 165.
52- سورة الشورى آية 23.
53- سورة البقرة آية 27.
54- سورة محمد آية 23.
55- سورة الممتحنة آية 1.
56- سورة العنكبوت آية 25.
57- رواه الطبراني عن جابر، والخطيب عن ابن عباس (كنز 600 / 11).
58- رواه الحاكم وابن عساكر (كنز 98 / 12).
59- رواه الطبراني (كنز 104 / 12).
60- سورة الفرقان آية 27.
61- رواه ابن عدي والطبراني وقال ابن كثير روي عن طرق عديدة (البداية والنهاية 334 / 7) (كنز العمال 292 / 11).
62- رواه أبو يعلى وقال البوصيري رجاله ثقات (كنز العمال 159 / 13).
63- رواه مسلم (كنز العمال 509 / 3) وأحمد (الفتح الرباني 52 / 23).

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام الخميني (ره) أحيا الإسلام وبث روح المقاومة ...
الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بالشيخ صاحب ...
اليك عشر طرق للنوم الهاديء
ما هو الأفضل لديك زوج تحبينه أم يحبك؟
الإسلام يدعو إلى تعليم المرأة
الزواج القانوني
أكبر جلسة قرآن في العالم الاسلامي ستقام بمرقد ...
شبابنا في ظل التربية الإسلامية
الازواج المتقون
العلاقات الزوجية الناجحة تُحسِّن مناخ الأرض

 
user comment