لماذا هذا الترجيح والإختلاف في العالم؟ لماذا تكون بشرة أحدنا بيضاء والآخر سوداء؟! لماذا أحدنا قبيحٌ والآخر جميلٌ؟! لماذا أحدنا معافى والآخر عليلٌ؟! فلماذا لا يكون الجميع متساوين؟ وإذا كان لا بدّ من الإختلاف، فلماذا لا يحصل العكس بأن يكون الأبيض أسودَ والأسود أبيضَ، والجميل قبيحاً والقبيح جميلاً؟
تعتبر الشبهات المطروحة حول مسألة العدل الإلهي من أهمّ وأعقد الإشكالات التي شغلت البشرية بجميع أديانها وفلسفاتها، وتجدر بنا الإشارة إلى بعض المدارس والفلسفات الناجمة عن النظر في هذه الشبهات.
لقد قسَّم الإنسانُ منذ القدم الكونَ إلى قطبين أساسيّين، الخير والشر، ثمّ جعل من نفسه المقياس والمحور للتشخيص، فاعتبر أنّ النور والمطر والشمس والأرض مصاديق للخير، وأنّ القحط والسيول والزلازل والأمراض في قائمة الشر، ثمّ بدأ بالتساؤل عن مبدأ الخير ومبدأ الشر، هل هو واحدٌ؟ أو أنّ لهما مبدأين مختلفين؟
ذهبت الثنوية إلى أنّ للكون مبدأين (خالقين)، إله للخير يخلق الخير دون الشر، وإله للشر لا يخلق إلا الشر.
واعتقد الإيرانيون القدامى بذلك، وسموا إله الخير: (يزدان) وإله الشر: (أهريمن)، إلى أن ظهر زرادشت بشريعة المجوسيّة، التي يبدو من خلال اعتقاد بعض علماء المسلمين بأنّ المجوسَ من أهل الكتاب، أنها عقيدة توحيديّة. إلا أنّ هذه الشريعة لم تستطع أن تقاوم الثنويّة وتقلع الشرك من قلوب الإيرانيين القدامى، فتحوّل الزرادشتيون أنفسُهم إلى الثنوية من جديدٍ، حتى جاء الإسلام العظيم الذي استطاع أن يجعلهم موحّدين، وأن يجتثّ جذور الثنوية والشرك من أفكارهم.
حلّ الشبهات المطروحة حول العدل الإلهيّ:
سوف ننهج في حلّ الشبهة بذكر جوابٍ عامٍ مشتركٍ عن جميع الشبهات المطروحة، ثم نتعرّض لحلّ كل شبهة بجواب خاص بها.
الجواب العام على جميع الشبهات:
إنّ الجواب الإجمالي المشترك عن كل الشبهات شائعٌ عند أهل الإيمان، نابعٌ من إيمانهم- من خلال الأدلة القاطعة- بأنّ الخالق سبحانه وتعالى قادرٌ عليمٌ حكيمٌ، وهو إذ يتّصف بهذه الصفات فلا يُعقل ولا يتصوّر في حقّه الظلم والعدوان، لأنّ الذي يبعث على الظلم أحد أمرين مستحيلين في حقّه تعالى وهما:
1- إما عقدة نفسيّة وحبّ الإعتداء، وهذا يرجع إلى الضعف النفسيّ ووجود أعداء.
2- وإما حاجة معيّنة مهما كان نوعها سواء كان سببها الفقر، أم العجز.
والأمران مستحيلان في حقّ الله عزّ وجل، لأنّه الكمال المطلق فلا يتصف بالضعف، والغنيّ عن العالمين لا يتصوّر في حقّه الحاجة.
والعالم بالنظام الأصلح والأمثل قادر على إيجاد أفضل وأصلح نظام ممكن.وكلّ ما هو شرّ محض وضدّ النظام الأصلح لا يخلقه الله سبحانه. وأمّا ما يحدث في الكون من ظواهر أو في حياة الإنسان، سواء كان بإرادة الإنسان أو دون إرادته، ممّا لا يمكن إيجاد تفسير له وتوجيهه، فذلك لا يوجب نسبة الظلم إلى الله، بل نقول إنّ لتلك الأشياء لوناً من المصلحة المجهولة بالنسبة للإنسان، ولذا يطلق الناس عليها اسم (سرّ القدر)، فهم يُرجعون ما لا يجدون تفسيراً له إلى قصور فهم الإنسان عن الوصول إلى أسرار الكون.
وعلى سبيل المثال لو كنّا نثق بشخص وبخبرته في إدارة الأمور، وقد اتخذ هذا الشخص قراراً أو قام بعمل لا نفهمه أو لا نعرف مغزاه، فإنّنا لا نعتبر ذلك دليلاً على عدم أهليّته وموجباً لفقدان الثقة به، لما لدينا من صورةٍ مسبقةٍ عنه، بل نقول إنّ هناك سرّاً ومصلحةً ما في عمله نحن لا ندركها.
ولعلّ أهل الحديث نحَوا هذا المنحى في الإجابة على مسألة الشرور، لأنهم كما ذكرنا يتعبّدون بما ورد في الأخبار ولا يبدون آراءهم.
وقد أضفى الفلاسفة على هذا الاستدلال التعبدي صبغةً برهانية، وقالوا إنّه كلامٌ يعتمد على التمسك بالعلّة وكمالها ليثبت كمال المعلول، حيث نستدل بصفات الخالق وكماله على كمال ما خلق. وهذا الاستدلال ينطلق من العلّة إلى المعلول ومن السبب إلى المسبب، وهو المعبّر عنه في الفلسفة بـ (البرهان اللميّ)، وبهذا الاستدلال من الأعلى إلى الأسفل تنحلّ المشكلة وتنمحي كلّ الأخطاء المتوهمة والشبهات المطروحة.
وأمّا مَن يسير إلى الله عبرَ النظام الكوني، ومن المعلول إلى العلّة (البرهان الإنّي)، ويرى الله عبرَ الكون، وكذلك أتباع الأسلوب الحسيّ في الإلهيات، فسوف توجِب هذه الإشكالات المطروحة والأمور غير المفهومة في الكون تشويشاً في الرؤية لديهم.
الجواب على شبهة الترجيحات:
أمّا الإشكال القائل: لماذا هذا الترجيح والإختلاف في العالم؟ لماذا تكون بشرة أحدنا بيضاء والآخر سوداء؟ لماذا لا يكون الجميع متساوين؟ وإذا كان لا بدّ من الإختلاف، فلماذا لا يحصل العكس؟ فالجواب عليه يتمّ من خلال التعرّف إلى الفرق بين كلمتي الإختلاف والترجيح:
بين الاختلاف والترجيح:
فالإختلاف: هو التفرقة بين الأشياء غير المتساوية في الإستحقاق.
والترجيح: هو التفرقة بين الأشياء المتساوية في الإستحقاق.
والمثال الذي يوضح الفرق بين الأمرين هو أننا لو أخذنا إناءين يسع كلّ واحدٍ منهما عشرة ليترات، وملأنا أحدهما عشرة ليترات ماءً والآخر خمسة فهذا هو الترجيح، لأنّ سعة كلّ واحد منهما واحدةٌ، لأنّنا متى وضعنا في الأول ماءً أزيد فقد رجحناه على الثاني. وكذلك الحال في معلّم المدرسة إذا كان لديه تلميذان متفوقان فأعطى أحدهما مكافأةً دون الآخر فإنه قد رجّحه عليه. وأما لو كان لدينا إناءان يسع أحدهما عشرة ليترات والآخر خمسة، وملأنا العشرة عشرة والخمسة خمسة فهذا هو الإختلاف، ولا يوجد أي ترجيح فيه، لأنّ قابلية وإستعداد أحدهما غير قابلية وإستعداد الآخر، وكذلك لو كافأ معلم المدرسة المتفوّقَ دون الضعيف فهو لم يرجح بينهما.
والله عزّ وجل تصرّف مع الخلق على أساس إختلافهم فأعطى كلّ واحد ما يستحقه، ولم يرجّح أحداً على أحدٍ. فالله عزّ وجل لم يحرم أحداً من خلقه أمراَ كان يستحقّه وأعطاه للآخرين، وإذا منع إنساناً ما من بعض الفيوضات الإلهية فإنّما هو نتيجة عدم إستحقاقه وعدم قابليّته وإستعداده لهذه الرحمة.
تحليل النظام الكونيّ:
إن الباحث في مجال الرد على هذا الإعتراض في مسألة العدل الإلهي يجد نفسه لا محالة واقعاً في أحضان بحث فلسفي عميق مهما حاول الإبتعاد عنه، ويرى عبارة عميقة للفلاسفة (إنّ إختلاف الموجودات ذاتيٌّ من ذاتياتها ولازمٌ لنظام العلّة والمعلول). وهذه العبارة تصلح جواباً لكنها معقدة بحاجة إلى شرح
وتوضيح ضمن مقدمات ترتبط بتحليل النظام الكوني، والإرادة الإلهية في بداية خلقة الكون، وبالنظام الذي اقتضته هذه الإرادة، وهل تعرّض القرآن الكريم لهذا النظام أم لا.
1- الإرادة الإلهية واحدة:
إن الإرادة الإلهية لم تتعلّق بكلّ موجود على حدة، فلم تتعدّد إرادته بتعدّد الموجودات، فهو سبحانه لم يخلق الموجود الأول، ثم تعلّقت إرادته بالموجود الثاني فخلقه، ثم بالثالث وهكذا، وإنما الكون بأسره من بدايته إلى نهايته تعلّقت به إرادة إلهية بسيطة واحدة، قال تعالى: ﴿إِنَّا كلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر وَمَا أَمْرُنا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمحٍ بالبَصَرِ﴾(1)، وإرادته لوجود الأشياء عين إرادته لوجود نظامها.
2- النظام الطولي:
يوجد في الكون نظامٌ يسمى بالنظام الطولي بين العلّة والمعلول، أي إنّ إرادة الله إقتضت أن تكون الأشياء رتبةً بعد أخرى، وأن تكون كلُّ سابقةٍ علّةً للاحقةٍ، والترتيب هنا ليس بحسب الزمان- لأن الزمان أحد المخلوقات- بل ترتيب الأسبق رتبةً وأنّ وجود الأولى هو علّةٌ لوجود الثانية.
فالله عزّ وجل له صدرُ قائمة الوجود، والملائكة هم المنفذون للأوامر الإلهية، وبين الملائكة أيضاً توجد سلسلةٌ من المراتب، فبعضٌ له مقام الرئاسة والأمر، وبعضٌ يعدّ من الأعوان وآخر من الأنصار كملك الموت عزرائيل عليه السلام وأعوانه الموكّلين بقبض الأرواح، ولكلٍّ منصب معيّن ووظيفة خاصة ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾(2).
ولذا ينسب القرآن الكريم تدبير الكون تارةً إلى الله، قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض﴾(3)، وأخرى إلى الملائكة، قال تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾(4).
وعليه إذا كانت (الف) علّةً لـ (باء) فلأجل خصوصيةٍ موجودةٍ فيها، لا أنها أمرٌ إعتباريٌّ، ولا يمكن أن تنعكس المسألة بأن تصبح (باء) علّةً لـ(ألف)، فوجود كلّ رتبةٍ هو عين حقيقتها، فلم يوكّل ملك الموت بقبض الأرواح إعتباراً بل لخصوصيةٍ فيه، ولقابلية عنده، وكذلك جبرائيل فيه خصوصيةٌ غير موجودةٍ في غيره وهكذا، لا يمكن أن يقوم ملك بوظيفة الآخر، ولا أن يحلّ أحدٌ مكان الآخر. والإنسان لأنه لا يدرك الخصائص الذاتية للأشياء ولا يعرف مراتبها الوجودية ولا علاقتها الواقعية في ما بينها، يسأل لماذا لا يكون الإنسان بدل الحيوان أو العكس؟ وليس هذا إلا قياساً للنظام الذاتي للعالم على النظام الإعتباري الجعلي للإنسان، وبتعبير آخر إنّ هذه الأسئلة تنشأ من قياس الحقائق الذاتية على الإعتبارية الإجتماعية.
3- النظام العرضي:
يوجد في الكون نظامٌ آخر وهو النظام العرضي، وهو يعني أنّ وجود أيّ ظاهرةٍ معينةٍ خاضعٌ لمجموعةٍ من الشروط المادية، وليست هي منفردةً ومستقلةً عن بقيّة الحوادث. والحكمة الإلهية إنمّا تظهر إذا نظر الإنسان إلى الأشياء مع ما ترتبط به، لا إذا ما نظر إليها منفردةً ومستقلةً.
فلو نظرنا إلى رفّاء يرفو سجاّدةً، ثمّ لاحظنا طبيباً يعالج حروق مريضٍ، فسوف لن نجد- لأول وهلةٍ- أي ارتباط بين هذين العملين، ولكننا لو فحصنا جيداً لوجدنا مثلاً أنّ حريقاً كان السبب في إحراق السجادة والمريض معاً، فعملهما إذاً منبعث من مصدر واحد. والنظرة الدقيقة إلى الكون تقنع المرء بأن النظام العرضي هو المسيطر في الكون، لأن كل الحوادث تعود إلى علّة أساسية، ولمّا كانت الضرورة حاكمة بين العلة والمعلول لا بدّ أن تكون الضرورة حاكمة بين جميع الحوادث، وهذا الإرتباط الضروري العام نشأ من أصول أربعة:
أ- إنّ قانون العليّة والمعلولية هو الحاكم، والدليل عليه البداهة، وهو الأساس لكلّ العلوم.
ب- وهذا القانون ضروري، فإذا وجد المعلول فلا يعني أن العلة موجودةٌ فقط، بل إنما اكتسب المعلول ضرورته من ناحية وجود العلة، فوجود العلة ضروري.
ج- ولا بدّ من وجود تناسب وإنسجام تام (سنخية) بين العلّة والمعلول، فلا يصدر المعلول من أيّ علّةٍ، ولا أيّ علّةٍ يمكن أن يصدر منها أيّ معلول، وإلا لصدر أيّ شيءٍ من أيّ شيء.
د- لا بدّ أن ينتهي الكون إلى علّة العلل، وهذا هو أصل التوحيد في مبدأ الوجود.
ومن الأصول الثلاثة الأولى نصل إلى أنّ في الكون نظاماً قطعياً ولا يقبل التبديل، وبضمّ الأصل الرابع نستنتج أنه لا يمكن أن نفصل أيّ ظاهرة تجري في الكون عن سائر الظواهر المحيطة بها، بل جميعها مرتبطةٌ بشكل يقيني في ما بينها.
نظام الكون في القرآن:
إنّ ما يُطلق عليه في الفلسفة إسم (نظام الكون) و (قانون الأسباب) يتحدث القرآن الكريم عنه ويطلق عليه إسم سنّة الله، وهي ثابتةٌ لا تتبدّل، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾(5).
ومثال السُنَن الإلهية التي لا تتبدّل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(6)، فأيّ تغيير لا بدّ وأن يبدأ بنفس الإنسان.
ومن السنن الإلهية كون الفساد مقدّمة للهزيمة، قال تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴾(7).
نتيجة المقدّمات:
إذاً، إن القانون الحاكم في هذا الكون هو نظام العلية. وليس لهذا النظام وجودٌ مستقلٌّ ولم تتعلق به عملية الخلق بشكلٍ منفصلٍ في الخارج، وإنما هو مفهومٌ كليٌّ ينتزعه الذهن من وجود الأشياء في الخارج، حيث يجد نظام العلّة والمعلول. وليس القانون أمراً إعتبارياً يخترعه الإنسان، ولذا فهو لا يقبل التغيير ولا التبديل، وكذلك لا يقبل قانون الكون الإستثناء ولا خرق القانون، لأن كلّ موجود له درجته ورتبته، ولا يمكن أن تتخلّى علةٌ عن موقعها لعلّةٍ أخرى. وأيّ تغيير في الكون يبدو للوهلة الأولى أنه خرق أو إستثناء من القانون, بينما هو في الواقع خاضع لتغيير في الشروط والظروف. وأي تغيير في الشروط يؤدي إلى زوال القانون ويحل مكانه قانون آخر. فالقانون يتغير بحكم القانون لا أنه ينسخ القانون الأول, وبهذا يفترق عن القانون الوضعي الذي يضعه الإنسان, فهو قد يخترق وفيه إستثناءات دائما.
أمّا المعجزة:
فقد يتصور الإنسان أن في بعض الأشياء خرقاً للقانون ولنظام العلة والمعلول وما ذلك إلا نتيجة جهله بالقوانين الحاكمة، فمثلاً قد يعتبر الإنسان المعجزة خرقاً للقانون، مع أنها ليست كذلك، بل هي ضمن القانون وتحكمها قوانين الكون. ولكن ذلك ضمن شروط وظروف جديدة لا نحيط بها نحن. وبفضل إتصال روح النبي الطاهر بقدرة الله اللامتناهية تدخل عوامل أخرى وتتغير الظروف والشروط وتحصل المعجزة. فمثلاً ولادة النبي عيسى عليه السلام لا تعدّ خرقاً للقانون، بل نحن نتصور أنّ الموجود الحيّ يأتي دائماً من أب وأم. ولكن هذا ما يظهر لنا هو قشرة القانون والسنّة الإلهية، وليس هو حقيقة القانون الواقع الموجود. وما يعرفه الإنسان من قوانين للكون هل هي واقع القانون أم قشور القانون؟ فالقشر قد يتخلّف، بينما واقع القانون لا يمكن أن يتخلّف أبداً.
أمّا الدعاء:
ومثل ذلك يقال في الدعاء والصدقة. فقد ورد في العديد من النصوص الحثّ على الدعاء والصدقة وأنّه بهما يُدفع البلاء، كما ورد في رواية عن الأصبغ بن نباتة، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عَدَل من عند حائطٍ مائلٍ إلى حائطٍ آخر، فقيل له، يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ فقال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجل(8). والمستفاد من الرواية أنّ الإنسان إذا عرّض نفسه للخطر وتضرر من ذلك فهذا قانون الله وقضاؤه، وإذا فرّ من الخطر ونجا، فذلك أيضاً من قانون الله وتقديره، ﴿... وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾(9).
النتيجة:
إنّ ما نصل إليه كنتيجةٍ لما تقدّم، هو أنّ الإختلاف ليس هو الترجيح لأنّه إعطاء كلّ شخصٍ ما يستحقه، وحيث كان الكون يُدار بسلسلةٍ من الأنظمة والقوانين التي لا تتغيّر، وهذا النظام الواحد يقتضي تعدد مراتب الوجود وهو السبب في ظهور الإختلافات والنقص والعدم، وهذه الإختلافات ليست مخلوقة بل هي من اللوازم الذاتية للمخلوقات، ولذا لا يصحّ أن ننسب ما يوجد في هذا الكون مما نراه من شرورٍ وترجيحات إلى الله، بل هو من خصوصيات وذاتيات هذا الكون. ولو أردنا أن نرفع هذه الأشياء من شرورٍ وترجيحات لانتفى النظام الكوني من الأساس.
خلاصة
1- من الآثار المترتبة على عدم حلّ الشبهات المثارة حول مسألة العدل، فكرة الثنويّة والإيمان بإله الخير وإله الشر، والتشاؤم في الحياة لدى أتباع الفلسفة الماديّة.
2- الجواب المشترك والعام على الإشكاليات المثارة حول مسألة العدل الإلهي هو: إنّ الله لما كان عليماً حكيماً غنياً، فما خلقه من الكون هو النظام الأفضل والأكمل. وعليه فالإيمان بهذا الخالق بهذه الصفات يحلّ لنا المشكلة، لأنّ كلّ ما في هذا الكون إنمّا هو لمصلحة، وإن كانت مجهولة بالنسبة لنا.
3- إنّ الجواب الصحيح حول مسألة الترجيحات الموجودة في هذا الكون هو بالتفرقة بين الترجيح والإختلاف. والموجود في هذا الكون إنمّا هو الإختلاف، وهو عبارةٌ عن إعطاء كلّ موجود ما يستحقه لا الإعطاء بالتساوي، وأما الإعطاء بحسب السعة والقابلية فهو عين العدل.
4- إذا جاء السؤال بأنّه لماذا خلق الله الأشياء مختلفة من حيث الإستعداد ولماذا لم تكن متساوية في القابليات من الأساس؟ كان الجواب إنّ الاختلاف من ذاتيات النظام الحاكم في الكون. ووجود كلّ شيء محكوم لمجموعة من الشروط والأسباب التي لو تبدّلت لكان ذلك الشيء غيره لا نفسه.
5- قد يتصوّر الإنسان في الكون بعض الأشياء المخالفة للقانون، وذلك نتيجة جهله وعدم معرفته بواقع السنن الحاكمة، ومن ذلك المعجزة وخرق العادة والدعاء، مع أنها كلها طبق النظام الكوني العام الذي لا يتبدل ولا يخرق ولا يجري عليه الإستثناء، وإنما تتدخل قدرة الله اللامتناهية بتغيير الظروف والشروط المحيطة التي لا يدركها الإنسان، إلا أنها كلها بقضاء الله وقدره.
المصادر :
1- القمر:49، 50
2- الصافات: 164
3- السجدة: 5
4- النازعـات: 5
5- الأحزاب:62
6- الرعد:11
7- الاسراء: 4- 8
8- التوحيد للصدوق /369
9- الطلاق: 2 و3