المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة سيدنا محمد وآله الأصفياء أدلة الأرض والسماء.
إن الباحث عن أعظم رجال مروا في تاريخ البشرية ليقف طويلا، وقفة حائرة حول شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وإن المحلق في عوالم البلاغة والفصاحة، ليصعب عليه أن يمر من أمام كتاب عظيم كنهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا يتوقف عنده ليبدأ مسير المعارف التي لا تنتهي بساعة ولا بساعات، ولا في مجلد أو مجلدات فإن هذا الكتاب بحر للمعارف الإسلامية الأصيلة، وكنز لمن أدرك ما يحويه من جواهر ومعادن لا من ذهب ولا فضة بل من علمٍ وأخلاقٍ وآدابٍ.
فمن هذا النبع الهادر الجاري في كل الأزمنة، والمتطلع لكمال الإنسان والإنسانية، نغترف بعض الغرفات، لعلَّ الأرواح العطشى للمعرفة والعلم ترتوي من عذبه الأجاج، سائلين الله تعالى أن يوفقنا للخير والعمل به إنه خير مجيب وإنه سميع الدعاء.
الدرس الأول : (ما هو نهج البلاغة؟)
تعريف بالكتاب :
إن نهج البلاغة أعظم أثرٍ ظهر في القرن الرابع الهجري في كلام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث كان هذا القرن بداية الغيبة الكبرى، حيث اهتمت الشيعة بتأليف الكتب لحفظ ميراث الأئمة عليهم السلام العظيم، وأنشأوا الحوزات العلمية الكثيرة بعد أن شكلت في هذا القرن أول دولة للشيعة على يد آل بابويه سنة (٤٣٣ هـ) بعد فتحهم نجداء فخرج الشيعة من تحت الحصار واستطاعوا ممارسة دورهم وإعلان آرائهم، فكتبت العديد من المصنفات، ولم يكن نهج البلاغة هو كل ما كتب في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام.
المؤلفات في كلام الإمام علي عليه السلام :
لم يكن الشريف الرضي رضوان اللَّه عليه أول من جمع كلام الإمام علي عليه السلام، فإن أصحابه وأتباعه وشيعته قاموا بحفظ خطبه وكلماته، ونقلوها واحداً لواحد منذ القرن الأول الهجري، وكتبها بعضهم في كتبٍ أو كتيبات وصل عددها إلى ما يقرب من مائة وعشرين كتاباً ألفت قبل نهج البلاغة خصص البعض منها لذلك بتمامه، والبعض الآخر بقسم منه، الأمر الذي يدل على المكانة العظيمة التي حظي بها كلام الإمام علي عليه السلام والتي لم يسبق لها مثيل في الجاهلية والإسلام، فدونوه وحفظوه وألفوا فيه كتباً.
أول من جمع كلمات الإمام عليه السلام في كتاب مستقل سماه "خطب أمير المؤمنين عليه السلام" وهو زيد بن وهب الجهني المتوفي عام (١٦هـ)، الذي كان من أصحابه عليه السلام وشهد معه بعض المشاهد، وقام بعده الحارث بن الأعور وهو من أصحاب الإمام عليه السلام أيضاً، وكان من المنقطعين إليه والمجاهرين بحبه، روى عنه، وأخذ من علومه، توفي عام (٥٦هـ).
ومنهم الأصبغ بن نباتة، وهو من خاصة أصحاب الإمام علي عليه السلام أخذ عنه كثيراً، وعمّر بعده حتى توفي أوائل القرن الثاني، وهو الذي روى عهد الإمام عليه السلام للأشتر النخعي لمّا ولاه مصر، ووصيته لولده محمد بن الحنفية.
ومنهم نصر بن مزاحم النقري المتوفى عام (٢٠٢هـ)، وإسماعيل بن مهران المتوفى عام (٥٠٢هـ)، والواقدي المتوفى عام (٧٠٢هـ) ومسعدة بن صدقة حيث جمع كل منهم كتاباً من كلامه عليه السلام.
وقد قال الخطيب الراوندي: سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: "إني وجدت في مصر مجموعاً من كلام علي عليه السلام في نيف وعشرين مجلداً".
وذكر العلامة آقا بزرك الطهراني اثنين وعشرين مؤلفاً في كلام الإمام عليه السلام قبل زمن الشريف الرضي.
وبعد الشريف الرضي قام عدد من العلماء الذين تذوقوا معاني الحكمة والجمال والبلاغة في كلام الإمام علي عليه السلام فجمعوها في مصنفات وكتب يصل عددها إلى ٦٢ كتاباً.
جامع نهج البلاغة :
نسبه : هو محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم اشتهر بالشريف الرضي حتى بات لا يعرف إلا به.
أسباب تأليف نهج البلاغة وتسميته :
يتحدث الشريف الرضي في مقدمة كتابه عن سبب تأليفه للكتاب وسبب تسميته نهج البلاغة فيبين أن سبب ذلك هو طلب بعض أصحابه أن يكتب عن بلاغة الإمام وفصاحته وعجائبهما وما جاء عنه من الحكم الخطب، فكتبه وقد أخذ بعين الاعتبار في تأليفه له حيث أنه كما مر كان أديباً وشاعراً قديراً أن يركز على هذه الناحية من كلامه عليه السلام، وأن الإمام قد حاز الدرجات العلى في الخطابة والأدب والفصاحة والبلاغة بعد سيد البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي زقّه العلم وأرصفه إياه بلسانه قال قدس سره في مقدمة الكتاب في سبب تأليف الكتاب وتسميته بنهج البلاغة : "كنت في عنفوان الشباب، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام، يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلماتهم، وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً عليه السلام.
وعاقه عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان. وكنت قد كتبت وبوبت ما خرج من ذلك أبواباً، وفصلته فصولاً، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة.
فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه، ومتعجبين من فواصحه. وسألوني أن ابتدئ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات عضونه من خطب وكتب ومواعظ وآداب علماً أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثوابت الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرِّع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها...".
ورأيت من بعد تسميته هذا الكتاب "بنهج البلاغة...".
إذن الهدف من تأليف الكتاب وتسميته كما ذكر قدس سره هو جمع الخطب والكلمات التي تميزت بالبلاغة والفصاحة من كلامه عليه السلام ولقد جمع ذلك من مصادر كثيرة ولم يكن قصده جمع كل ما صدر منه صلوات اللَّه عليه من كلام، فقد ذكر المسعودي الذي سبق السيد الرضي بمائة عام في مروج الذهب "إن بين أيدينا الآن أكثر من ٤٨٠ خطبة لعلي عليه السلام".
ونقل الآمدي كما مر في غرر الحكم خمسة عشر ألف كلمة من الكلمات القصار لأمير المؤمنين عليه السلام وقد مر أنه كتبت كتب كثيرة في كلامه عليه السلام أو اشتملت عليه ووصلت إلى مائة وعشرين كتاباً، وقال الخطيب الراوندي : "سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: إني وجدت في مصر مجموعاً من كلام علي عليه السلام في نيفٍ وعشرين مجلداً؟" (هذا في حين أن نهج البلاغة احتوى على أربعمائة وثمانين كلمة فقط).
مصادر نهج البلاغة :
لا شك أن للسند أهميته الخاصة، فهو الذي يجعل الرواية معتبرة ويصحح نسبتها للمعصوم، أو يسقط الرواية عن الإعتبار ويبقيها في خانة الممكن أو الضعيف بشكل يهمش القدرة على الإستفادة العلمية منها، من هنا كان السؤال الذي يسأل عادة عن سند نهج البلاغة فهل نسبة هذه الكلمات للإمام عليه السلام نسبة صحيحة أم لا؟
في البداية لا نشك أن الكتاب الموجود الآن بين أيدينا هو نفس كتاب نهج البلاغة الذي دونّه وجمعه الشريف الرضي رضوان الله عليه، ولم يتعرض لأي نوع من أنواع الضياع، وما زال هناك حتى الآن نسخ خطية معتبرة محفوظة في مكتبات مختلفة، حيث أن نهج البلاغة صار يعد من المصادر الإسلامية العظيمة.
هذه النسخ يصل عددها إلى ١٣٠ نسخة خطية معتبرة بعضها يرجع إلى عصر مؤلفه وتوجد نسخ أخرى كثيرة في مكتبة الآستانة الرضوية في مدينة مشهد المقدسة، ومكتبة آية اللَّه المرعشي النجفي في قم المقدسة.
ولكن يبقى السؤال المطروح: هل أن ما جمعه الشريف الرضي في نهج البلاغة ثابت نسبته لأمير المؤمنين عليه السلام؟ وما هي المصادر التي اعتمد عليها في كتابه هذا؟
إن الزمن الذي عاش فيه هيّأ له المكانة التي كانت لديه حيث أنه كان يتولى نقابة الطالبيين وولاية أمورهم مما هيّأ له المصادر الكافية والظروف المناسبة ليجمع ما ألفه في كتابه نهج البلاغة.
حيث أن أخاه الشريف المرتضى كانت مكتبته تحتوي على ٨٠ ألف كتاب، وكانت مكتبة دار الحكمة في بغداد تحتوي على ١٠ آلاف نسخة خطية وآلاف الكتب الأخرى، وقد عرف القرن الذي عاش فيه بقرن التأليف والترجمة والتدوين للكتب الإسلامية، وقد شهد نشوء الحوزات العلمية الكثيرة، ونشر علوم أهل البيت عليهم السلام في الأقطار الإسلامية.
استفاد الشريف الرضي من كل ذلك ومن مكتبته الشخصية وما احتوته من مصادر كثيرة، إلا أنه لم يذكر هذه المصادر إلا في موارد قليلة، وتركه ذكر المصادر كان يمكن أن يشكل مشكلة على مستوى التوثيق، إلا أن هذه المشكلة تم اجتنابها من خلال كتب شرح نهج البلاغة التي ذكرت المصادر بشكل مفصل، فقد نهض بعض العلماء للتصدي للبحث عن مصادر نهج البلاغة واستخراج أسانيد رواياته منهم :
١- السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه: مصادر نهج البلاغة وأسانيده.
٢- هادي كاشف الغطاء في كتابه: مدارك نهج البلاغة.
٣- السيد هبة الدين الشهرستاني في كتابه: مصادر نهج البلاغة.
٤- محمد الدشتي في كتابه باللغة الفارسية: أسناد ومدارك نهج البلاغة.
مضمون نهج البلاغة :
بعد أن عرفنا سند روايات نهج البلاغة وكيفية جمعها، بقي أن نلقي نظرة عامة على مضمون هذا الكتاب، وذلك من خلال العناوين التالية :
ترتيب نهج البلاغة :
نظم السيد الرضي نهج البلاغة على محاور ثلاثة :
١- الخطب : وعددها مائتان وتسع وثلاثون خطبة، وهي تنقسم بحسب الزمان إلى ثلاثة:
الأول : ما قبل حكم الإمام عليه السلام مثل الخطب التالية: ٥، ٦٧، ١٣٩.
الثاني : فترة قبوله عليه السلام للخلافة مثل الخطب التالية: ٣، ١٢، ١٥، ١٦.
الثالث : في زمن حكمه عليه السلام مثل الخطب التالية: ٢١، ٢٧، ٤٧، ١٠٥، ١٠٨.
٢- الرسائل : وعددها تسع وسبعون رسالة كتبت جميعها في زمان خلافته عليه السلام.
٣- الكلمات القصار، أو قصار الحكم : وعددها أربعمائة وثمانون كلمة في موضوعات شتى.
ميزتان :
تمتاز كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، منذ أقدم العصور بميزتين تعرف بهما، وهي:
أولاً: الفصاحة والجمال :
إن فصاحة أمير المؤمنين عليه السلام وجمال كلماته سحر كل عين طالعت كلماته وأطربت كل أذن سمعتها حتى قيل في مدحه ووصفه الكثير، وللشريف الرضي جملة معروفة في وصف كلام الإمام عليه السلام والثناء عليه، يقول قدس سره: "كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرِّع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا...".
وهذا ما يعرفه ويشهد به حتى أعداء الإمام عليه السلام، وقد كان معاوية بن أبي سفيان وهو ألد أعدائه معترفا بذلك، فلقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام عليه السلام وأقبل على معاوية وقال له وهو يريد أن يفرح قلبه الممتلئ بالحقد على الإمام عليه السلام جئتك من عند أعيا الناس، فقال له معاوية: "ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره".
ولذلك نجد لكلماته عليه السلام ذلك التأثير الكبير في النفوس، حيث كانت مواعظه تهز القلوب وتسبل الدموع، يقول الشريف الرضي بعد نقله الخطبة المعروفة بالغراء "وفي الخبر أنه عليه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب".
ثانياً : الشمول والاستيعاب :
لكل أمة آثار أدبية يعتبر بعضها من نماذج العبقريات، ولكننا نجد أن كل واحدة منها إنما هي في فن خاص من الأدب كالحكمة والموعظة، أو الحرب والحماسة، أو القصائد والرباعيات، أو غيرها...
ولكن ما يتميز به نهج البلاغة أن كلماته لا تنحصر بساحة واحدة، بل إنه صال وجال ببيانه في ميادين متعددة لا تجتمع في رجل واحد، يقول الشيخ محمد عبده شارح النهج ومفتي مصر السابق "وبعد: فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة)... فكان يخيل لي في كل مقام أن حروباً شبّت، وغارات شنت وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة... وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحوّل المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض الزلل إلى جواد الفضل والكمال.
وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون رماها، واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس، وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة. يعرفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير...".
بالإضافة إلى ذلك نجد الإمام عليه السلام لم يتكلم في الفخر أو الخمر أو الشعر التي هي ساحات واسعة للخيال، بل لم يقل ما قاله ليكون مقالاً جميلاً يضرب به الأمثال فالكلام عنده كان وسيلة لا هدفاً، فهو عليه السلام إنما تكلم حول المعاني الحقة والواقعية ومع ذلك بلغ ببلاغته الرائعة أوج العظمة والكمال.
جامع نهج البلاغة :
نسبه :
هو محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم... ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وقد اشتهر بذي المنقبتين، والرضي ذي الحسبين، والشريف الأجل، والشريف الرضي، وبهذا الأخير اشتهر حتى بات لا يعرف إلا به.
ولادته :
ولد الشريف الرضي سنة (٣٥٩هـ) في بغداد، ونشأ في بيت الفضيلة والزعامة الدينية، واحتضنته الأيدي الأمينة، فوالده الطاهر ذو المناقب أبو أحمد الحسين كان يتولى نقابة الطالبيين، وكان له النظر في المظالم والحج بالناس ولقب بالطاهر ذي المناقب، والطاهر الأوحد.
وأمه فاطمة بنت الناصر نقيب بغداد، ترجع بنسبها إلى الإمام علي بن الحسينعليهما السلام.
كان الشريف الرضي رضوان اللَّه عليه عالي الهمة عفيف النفس أبيّاً، ينقل ابن خلكان في وفياته عن تيمية الثعالبي في ترجمة الشريف: "ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبرع انشاء الزمان وأنجب سادة العراق يتحلى مع محتده الشريف، ومفخرة الحفيف بأدب ظاهر وفضلٍ باهر وحظٍ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن عبر، على كثرة شعرائهم المفلقين...".
حفظ الشريف الرضي رحمه اللَّه القرآن بعد أن جاوز عمر ثلاثين سنة في مدة قصيرة، وكان عالماً أديباً وشاعراً فصيحاً حفظ النظم ضخم الألفاظ ولقد كان من الشخصيات البارزة والمشهورة في القرن الرابع الهجري.
وقال ابن أبي الحديد في شرحه: "كان عفيفاً، شريف النفس، عالي الهمة، لم يقبل من أحدٍ صلة ولا جائزة، حتى أنه رد صلات أبيه" .
وقال السيد الخوانساري في روضاته: "لم يبصر بمثله الآن عين الزمان في جميع ما يطلبه إنسان العين من عين الإنسان، فسبحان الذي ورثه غير العصمة ما أراد من قبل أجداده الأمجاد، وجعله حجة على قاطبة البشر في يوم المعاد، وأمره في الثقة والجلالة أشهر من أن يذكر..."
مصنفاته :
ترك الشريف الرضي تراثاً عظيماً يدل على عمق غور الشريف ودقته ونباهته وذكائه، وأهم مصنفاته:
١- كتاب مجازات القرآن: ذكره ابن خلكان وقال: فجاء نادراً في بابه.
٢- كتاب معاني القرآن: وقال عنه ابن خلكان: يتعذر وجود مثله، دل على توسعه في علم النحو واللغة.
٣- كتاب التشابه في القرآن.
٤- كتاب نهج البلاغة.
٥- ديوان شعر من أفخر وأهم وأعظم دواوين الشعر.
وفاته :
توفي الشريف الرضي سنة (٤٠٦هـ) ودفن في مدينة الكاظمية بجوار مرقد الإمامين الكاظمين عليهما السلام ولم يقدر أخوه المرتضى أن ينظر إلى تابوته ودفنه، فمضى إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وصلى عليه الوزير فخر الملك مع جماعة كثيرة.
الدرس الثاني (التقوى)
مقدمة
إنا إذا أردنا أن نعرف نهج البلاغة، أو الإمام عليه السلام خطيباً واعظاً وناصحاً مشفقاً، أو مدرسته الإرشادية، كي نستفيد من ذلك المنبع الفياض، لا يكفينا أن نعدّد المواضيع والعناصر المطروحة في نهج البلاغة فقط، لا يكفينا أن نعلم أن الإمام عليه السلام قد تكلم في نهج البلاغة في التقوى والعبادة والحق والدنيا مثلاً... بل يجب علينا أن نتعرف على تلك المفاهيم الخاصة التي كان يفهمها الإمام عليه السلام من هذه المعاني، وأن نعرف فلسفته التربوية الخاصة في تربية الإنسان المسلم، وترغيبه في الطهارة والنجاة من أسر الأرجاس والأنجاس، والتحرر المعنوي عن ربقة الدنيا.
ولهذا يجب علينا أن نتكلم بشيء من التفصيل في مفاهيم هذه العناصر في مدرسة الإمام عليه السلام. ولنبدأ حديثنا هذا بالكلام حول التقوى.
التقوى :
إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتني به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟
يفترض الكثيرون: أن التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!
ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، حرصاً على سلامة تقواهم!
ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب، والفعل والترك. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلاّ بعد النفي، وليست كلمة التوحيد، (لا إله إلا اللَّه)، إلاّ كلمة جامعة بين النفي والإثبات، ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى اللَّه تعالى، ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان متلازمان، أي أن كل طاعة تتضمن معصية، وكل إيمان يشتمل على كفر: ".. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ.." [١] .
ولكن...
أولاً: إنّ البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها، ولا تصح إلاّ أن تكون مقدمات للإرتباط بالقرب والطاعة والإيمان. ولذلك فلا بد أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً. فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف، ليست مقدسة ولا تحمد عقباها.
وثانياً: إنَّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر فإن التقوى في نهج البلاغة: "قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب".
إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والشطط، ومن لم يحظ بهذه الحالة لا بد له إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية من أن يبعد نفسه عن أسبابها. وحيث إن البيئة الاجتماعية مليئة من أسباب المعاصي فلا بد له من أن يختار الإنزواء التام!
وعلى هذا: فلا بد إما أن نكون أتقياء وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة! أو أن نرد المجتمع فنتخلى عن التقوى! وعلى هذا: كلما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع!
أما إذا حصلت الروح الإنسانية على (ملكة التقوى) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال. إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي، أما من
كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم مما هم فيه من الألم.
"... ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلاث حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات... ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار.. ألاّ وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..." [٢].
"... إن تقوى اللَّه حمت أولياء اللَّه محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم" [٣].
وفي هذه الكلمة يصرح الإمام عليه السلام بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من اللَّه من لوازمه وآثاره.
"فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة" [٤] .
نرى أن الإمام عليه السلام قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس.
التقوى "وقاية لا قيود":
لقد أكد الإمام عليه السلام في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى: وقاية لا قيود... فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين (الوقاية) و(القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر عن القيود والخروج عن الحدود... ولا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان.
يقول الإمام عليه السلام:".. اعلموا عباد اللَّه: أن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألاّ وبالتقوى تقطع حمة الخطايا" [٥] .
وكأنه عليه السلام يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات، ويقول: اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى. ويصرح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشأها.
".. فإن تقوى اللَّه مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة..." [٦] .
واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادية، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات.
ولقد بحث الإمام عليه السلام في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها، وإنما نقصد هنا أن يتضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة، ليتبين لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة.
وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة، أثران مهمان:
أحدهما : البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة.
والآخر: القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد.
التقوى تقي الإنسان، والإنسان يحافظ عليها :
يصرّ نهج البلاغة على أن التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها، فإن التقوى وإن كانت واقية للإنسان فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها! فهو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق والسرقة، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال: ".. وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ..." [٧] .
وقال الإمام علي عليه السلام بهذا الصدد: ".. أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وادحضوا بها ذنوبكم... ألا فصونوها وتصوَّنوا بها..." [٨] .
وقال عليه السلام: ".. أوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه، فإنها حق اللَّه عليكم، والموجبة على اللَّه حقكم. وأن تستعينوا عليها باللَّه، وتستعينوا بها على اللَّه..." [٩].
----------------------------------------------------------
[١] . البقرة: ٢٥٦.
[٢] . نهج البلاغة، الخطبة ١٦.
[٣] . نفس المصدر، ١١٢.
[٤] . نهج البلاغة، الخطبة ١٨٩.
[٥] . نهج البلاغة، الخطبة ١٥٧.
[٦] . نفس المصدر، ٢٢٨.
[٧] . الأعراف: ٢٧.
[٨] . الخطبة، ١٨٩.
[٩] . نهج البلاغة، الخطبة ١٨٩.
يتبع ......