تدهورت حالة الخليفة الثاني الصحية بعد تعرضه للطعن ونصح الطبيب بكتابة الوصية ، وبرزت ازمة الخلافة من جديد فلا احد يعرف من سيكون الخليفة القادم وكيف ؟ وقيل لعمر : لو استخلفت ؟
فقال الخليفة : ومن استخلف ؟ ... لو كان أبو عبيدة (أبو عبيدة بن الجراح أحد الثلاثة بعد أبي بكر وعمر الذين دهموا اجتماع «السقيفة » وغيّروا مسار الأحداث ) لو كان حيّاً لاستخلفته لأنه أمين هذه الأمّة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته لانه شديد الحبّ لله (سالم بن عبيد بن ربيعة ، أبو عبد الله من أهل اصطخر ببلاد فارس وكان سبياً حمل إلى مكة فاشترته ثبيته بنت يعار ، زوجة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، ثم اعتقته فتبنّاه أبو حذيفة وزوّحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة) (1)
شكل الخليفة مجلساً يتألف من ستة اشخاص هم : علي بن أبي طالب ، الزبير بن العوام ، عبد الرحمن بن عوف ، سعد بن أبي وقاص ، طلحة بن عبد الله ، عثمان بن عفان .
وضع الخليفة الثاني مساراً لاعمال المجلس وحدّد امتيازات الأعضاء بشكل تسير فيه الأمور لتسقط التفاحة في احضان « عثمان ابن عفان » عثمان الذي حرّر بالأمس وثيقة العهد إلى عمر لمّا اغمي على الخليفة الأول ! هل كان اجراء الخليفة نوعاً من ردّ الجميل أو استجابة لما يموج في عواطف « قريش » التي لا تكنّ لعلي أية مشاعر بالارتياح .
استدعى الخليفة الثاني اعضاء المجلس المؤقت ، فجاءوا جميعاً ، وتصفح عمر وجوه بعضهم قائلاً :
ـ اكلكم يطمع بالخلافة بعدي ؟
واعتصم الجميع بالصمت .. وكرر عمر السؤال ثانية وثالثاً .. فانبرى الزبير وقال بحدّة :
ـ وما الذي يبعدنا عنها ؟! .. وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش .. ولا في القرابة .
لقد نجح عمر بن الخطاب في ايقاظ كل الطموحات والاطماع في نفوس بعض الصحابة .
وانبرى عمر ليردّ الصاع صاعين في صراحة مريرة قائلاً :
ـ أفلا اخبركم عن انفسكم ؟
تمتم بعضهم :
ـ أنا لو استعفيناك لم تعفنا .
التفت عمر إلى الزبير فقال :
ـ اما أنت يا زبير فوعق لقس ( كثير البرم ) مؤمن الرضا كافر الغضب يوماً انسان ، ويوماً شيطان ؛ ولعلها ( الخلافة ) لو افضت اليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدٍّ من شعير !! فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ؟!
والتفت إلى طلحة فقال :
ـ أقول أم اسكت ؟
ردّ طلحة بانزعاج :
انك لا تقول من الخير شيئاً .
ـ اما اني اعرفك منذ اصيبت اصبعك من يوم أحد واتياً ( غاضباً ) بالذي حدث لك .. ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب (قال كان طلحة قد قال : ان قبض محمد أنكح أزواجه من بعده فما جعل الله محمداً أحق ببنات اعمامنا ! .
وفي هذه المناسبة نزلت الآية الكريمة : « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا ازواجه من بعده ابدا» (2) .
وشعر سعد بن ابي وقاص بالضيق بعد أن وصله الدور ؛قال له عمر وقد اقبل عليه بوجهه :
ـ انما أنت صاحب مقنب « جماعة الخيل » تقاتل به وصاحب قنص وقوس وأسهم ، ومازهرة (قبيلة سعد ) ، والخلافة وأمور الناس . والتفت الخليفة إلى عبد الرحمن بن عوف وقال :
ـ اما انت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف ايمان المسلمين بايمانك لرجح ايمانك ... ولكن لا يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك ، ومازهرة وهذا الأمر !
وأما انت يا علي :
والتفت عمر إلى علي فلم يجد له عيباً سوى أن قال :
ـ لله أنت لولا دعابة فيك (لا يذكر التاريخ أحداً وصف علياً بالدعابة سوى عمر بن بن الخطاب وهو أمر يثير تساؤلات عديدة .) ... أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء .
وجاء دور عثمان :
والتفت عمر إلى عثمان « مرشح قريش » فقال له :
ـ هيهاً اليك كأني بك قد قلدّتك قريش هذا الأمر لحبها اياك فحملت بني امية وبني ابي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء
فسارت اليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ..
وأخذ عمر بناصية عثمان وأردف :
ـ إذا كان ذلك فاذكر قولي .
وهنا جاء دور الاجراءات المشدّدة في خلق جوّ ارهابي سوف يساعد على دعم وتعزيز موقف عثمان .
استدعى عمر أحد الانصار وقال :
ـ يا أبا طلحة أن الله أعز الاسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الانصار فالزم هؤلاء النفر ( اعضاء الشورى ) بامضاء الأمر وتعجيله ، واستدعى الخليفة « المقداد » واصدر اليه آخر اوامره التي تنضح تهديداً ووعيداً :
ـ اجمع هؤلاء الرهط ( اعضاء الشورى ) في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم ، فان اجتمع خمسة وأبى واحد فاشرخ رأسه بالسيف ، وان اتفق اربعة وابي اثنان فاضرب رأسيهما وأن اتفق ثلاثة منهم على رجل ورضي ثلاثة منهم برجل آخر فحكموا عبد الله بن عمر ؛ فإن لم يرضوا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ؛ واقتلوا الباقين !
وأدرك علي من خلال كل هذا « السيناريو » ان الهدف الأخيرهو حرمانه مرّة أخرى من حقه في الخلافة فقال لعمه العباس :
ـ يا عم لقد عدلت عنا .
قال العباس :
ـ ومن ادراك بهذا ؟!
قال علي وهو يميط اللثام عمّا وراء كل هذا « اللف والدوران » :
ـ « لقد قرن بي عثمان .. وقال : كونوا مع الأكثر ، ثم قال : كونوا مع عبد الرحمن ، وسعد لا يخالف ابن عمه ( عبد الرحمن ) وعبد الرحمن صهر لعثمان .. فاما أن يوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن ... » (3) .
يقول علي مؤرخاً لتلك اللحظات المريرة :
ـ « فصبرت على طول المدّة (فترة حكم الخليفة الثاني .) وشدّه المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم اني احدهم ، فيالله وللشورى .. متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ؟! لكنيّ اسففت إذ اسفّوا وطرتٌ إذا طاروا فصغا رجل لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهنٍ إلى أن قام ثالث القوم (الخليفة الثالث .) نافجاً حضينه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو ابيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع (4) .
وهكذا بدأت اعمال الشورى في ظروف بالغة الحساسية . وبدأت الاطماع بالظهور ؛ والمصالح والمؤامرات في موازنات يمكن القول أنه محسوبة سلفاً ؛ فالتوزيع القبلي لاعضّاء الشورى يمنح الارجحية لبني امية .
لقد توقف التاريخ ملياً في السقيفة قبل أن يغير مساره وها هو الآن يتوقف مرّة أخرى لا ليغير من اتجاهه ولكن ليزيد من سرعة ذات المسار حيث المجتمع الإسلامي يفقد مقاييسه الصائبة في اختيار الحاكم اللائق .
توفي عمر بعد ثلاثة أيام وصلّى على جثمانه صهيب الرومي في غرّة المحرّم ؛ وبدأ أول لقاء لاعضاء الشورى ؛ وارتفعت نبرة الجدل العقيم .. لقد استيقظت في نفوس البقض شهوة الحكم والزعامة وضاع صوت علي وهو يحذر اصحاب النبي من العواقب الوخيمة التي ستسفر عن التنكر لكلمة الحق :
ـ لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق ، وصلة رحم ، وعائدة كرم .. فاسمعوا قولي ، وعوا منطقي ، عسى ان تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضي فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى يكون بعضكم ائمة لأهل الضلال ، وشيعة لأهل الجهالة (5) .
ومرّ يومان ولكن دون جدوى وقد حبس المجتمع الإسلامي انفاسه ، ماترقباً نتيجة الجدل الذي تحول الى صراع .
وجاء أبو طلحة الانصاري واعلن أنه سينفذ أوامر الخليفة الراحل اذا انصرمت الأيام الثلاثة دون انتخاب خليفة :
ـ والذي ذهب بنفس عمر .. لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرت .
وهنا وجه عبد الرحمن أول ضربة عندما اعلن تنازله عن حقه في الخلافة مقابل أن يكون له الحق في انتخاب الخليفة وانبرى عثمان لتأييد خطوة بن عوف ، وتهافت الآخرون على تأييد عبد الرحمن أيضاً فيما ظل علي معتصماً بالصمت .
التفت عبد الرحمن إلى علي وقال :
ـ ما تقول يا أبا الحسن ؟
وادرك الامام ما وراء خطوة بن عوف فقال :
ـ اعطني موثقاً لتؤثرن الحق .. ولا تتبعن الهوى ولا تخصّ رحم ، ولا تألوا الامّة نصحاً .
وشعر عبد لرحمن أن مصير الخلافة قد اضحى في قبضته ، فاعطى لعلي ما يريد .. انها في كل الأحوال مجرّد كلمات .
وهنا وجه عبد الرحمن ضربته القاضية عندما زجّ شرطاً لا مبرّر له كاساس للبيعة ؛ قال لعلي وهو في ذروة ايمانه أن علياً سيرفض:
ـ ابايعك على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين ابي بكر وعمر(لم تكن سيرة الشيخين سوى شرط وهمي فلقد تقاطعت سيرتهما في نقاط بالغة الأهمية .) .
قال علي موضحاً موقفه الخالد ومعتزّاً بشخصيته الفريدة :
ـ بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي .
والتفت عبد الرحمن إلى عثمان فعرض عليه شروط البيعة فرددها عثمان على الفور وهو يكاد يطير فرحاً .
وهنا صفق عبد الرحمن على يد عثمان وهتف :
ـ السلام عليك يا أمير المؤمنين .
وخاطب علي بن أبي طالب عبد الرحمن قائلاً :
ـ احلب حلباً لك شطره ...
وأردف وهو يكشف له معرفته ما يدور فى الخفاء وراء الأبواب المغلقة :
ـ والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه (وفي هذا اشارة واضحة إلى أن اتفاقاً سابقاً كان بين ابي بكر وعمر حمل مصير الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .) .
والتفت علي إلى « قريش » التي القت بكل ثقلها من اجل عثمان فقال بمرارة :
ـ ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون .
ونهض وغادر المكان وهو يتمتم بحزن :
ـ سيبلغ الكتاب اجله .
وشعر عمّار بن ياسر بالألم يعتصر قلبه فقال لعبد الرحمن :
ـ « يا عبد الرحمن .. اما والله لقد تركته وانه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون » .
واحسّ « المقداد » كأن خنجراً يمزق قلبه فقال :
ـ تالله ما رأيت م3ثل ما أتى إلى أهل بيت بعد نبيهم !!
واعجباً لقريش !! لقد تركت رجلاً ما أقول ، ولا أعلم أن أحداً
اقضى بالعدل ولا أعلم ، ولا أتقى منه .
وأردف بغضب :
ـ أما لو أجد أعوانا ..
ولم تكن الصفات التي ذكرها المقداد سوى عيوباً لعلي في زمن يتنكّر للمجد الاخلاقي ... ولا يعرف غير الاساليب الهابطة طريقاً لتحقيق غايات تافهة سرعان ما تزول .
وهكذا بات على علي أن يطول رحلة العذاب صابراً محتسباً حتى يبلغ الكتاب أجله .
توهجات الزمن الثالث :
بدأت بخلافة عثمان حقبة زمنية جديدة ، حقبة شهدت ظهور اعداء الإسلام القدامى من امثال ابي سفيان ومروان والوليد وتولّيهم المناصب الرفيعة واصبحت مقدّرات البلاد وثروتها حكراً على بني امية . وارتفعت القصور المنيفة الى جانب الاكواخ لتشهد على مدى الحيف الذي حلّ بالشرائح المسحوقة من المجتمع الإسلامي .
وادرك أبوسفيان آن الأوان قد آن للثأر من محمد فجاء إلى الخليفة الثالث وخاطبه بكل وقاحة قائلاً :
ـ يا بني أمية تلاقفوها تلاقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنّة ولا نار .( كثيراً ما سمع عنه تمجيده لهبل ؛ كما حدث في معركتي أحد وحنين .)
جاءت الشرطة تسوق إمرأة شابة تزوجت منذ ستة أشهر وقد انجبت ... فثارت الشكوك حول عفتها قبل الزواج ؛ ورفع الزوج الأحمق الشكوى ضدها ، فاصدر خليفة المسلمين عثمان حكماً باعدامها رجماً بالحجارة ؛ وأُخذت المسكينة ألى ساحة الاعدام ، كانت تنظر إلى السماء بعينين غارقتين بالدموع فليس هناك من يطلع على السرائر سوى الله ..
قالت الفتاة الشابة التي لم تهنأ بعد بعرسها ... قالت لاختها :
ـ يا اخية لا تحزني ... فوالله ما مسّني أحد قط غيره .
وهب علي بن أبي طالب بعدما اطّلع على حيثيات القضية فقال لعثمان :
ان خاصمتك بكتاب الله خصمتك ـ ؟!!
ـ ان الله تعالى يقول : « وحمله وفصاله ثلاثون شهراً » .
ثم قال عزوجل : « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » .
فحولين مدّة الرضاعة وستة اشهر مدّة الحمل جرت العملية الحسابية في ذهن عثمان بسرعة فقال مبهوتاً :
ـ ما فطنت لهذا .
ثم اصدر أمره باطلاق سراح الفتاة والغاء عقوبة الموت بحقها ولكن رسول الخليفة وصل متأخراً ... لقد تم تنفيذ الحكم ورحلت الفتاة إلى السماء تشكو إلى بارئها ظلم الانسان (شبّ الصبي وكانت ملامحه تشبه ملامح ابيه فاعترف به .) .
بلغ استهتار الوليد بن عقبة واليّ الكوفة حدّاً لا يطاق ولكن الوليد لم يكن ليكترث لأي كان مهما بلغت منزلته ، فهو أخو الخليفة لامّه ؛ وهكذا انصرف إلى حياة الملاذ والترف ، وهام بالخمرة يكرع كؤوسها سرّاً وعلانية .
وجاء ذات صباح إلى مسجد يترنّح سكران بنشوة الخمر ، وراح يقرأ في صلاته بعد أن وقف بصعوبة في المحراب :
ـ علق القلب الربابا .. بعد ما شابت وشابا .
ويقول في سجود :
ـ اشرب واسقني .
واجتاحته رغبة عارمة بالقيء فتقيأ !
وهكذا اتمّ الوالي صلاة الفجر في اربع ركعات .. والتفت ليخاطب المسلمين بكل وقاحة :
ـ هل ازيدكم ؟!
اجاب الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ساخطاً :
ـ لا زادك الله خيراً .. ولا من بعثك الينا .
وراح الناس يقذفونه بالحصى وهو يترنح في طريقه إلى القصر ..
اثار الحادث غضب جماهير الكوفة فانطلق وفد إلى المدينة بعد أن انتزعوا خاتم الوالي السكران ..
وقابل عثمان الوفد بلهجة فيها غيظ قائلاً :
ـ وما يدريكم انه شرب الخمر ؟
أجاب اعضاء الوفد :
هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية .
وقدّم أحدهم إلى الخليفة خاتم الوليد :
ـ انتزعناه من اصبعه وقد كان ثملاً .
شعر الخليفة بالحقد فضرب أحد اعضاء الوفد في صدره ودفعه . وغادر الوفد قصر الخليفة آسفاً لموقف عثمان .. ولم يجد الوفد الكوفي حلا سوى اللجوء إلى علي بن أبي طالب فلعلّه يوقف عثمان وولاته عند حدودهم .
وانتفض علي وهرع إلى قصر الخليفة وخاطب عثمان بلهجة تتشظى غضباً مقدساً :
ـ دفعت الشهود وابطلت الحدود ؟!
وادرك عثمان أن الأمور دخلت منعطفاً خطيراً فقال بلهجة فيها مداراة :
ـ ما ترى ؟
قال علي بحزم :
ـ ارى أن تبعث إلى صاحبك ( الوليد ) فإن قامت الشهادة في وجهه ولم يدل بحجة اقمت عليه الحدّ . وصدر أمر باستدعاء والي الكوفة للتحقيق مع حول الحادث ؛ وجاء الوليد غير مكترث كعادته .. انه يعرف عثمان جيداً !
حضر الشهود وادلوا بافاداتهم ضد الوليد بأنه شرب الخمر ، وصلّى الفجر ثملاً اربع ركعات وتقيأ في المحراب :
لم ينبس الوليد ببنت شفه واكتفى بالنظر ساخراً إلى وجوه الشهود .. كانت لحظات مثيرة فقد اصبح حكمه واضحاً أن يجلد ثمانين سوطاً عقوبة شارب الخمر .. ولكن من يجرؤ على تنفيذ الحكم وهو أخو الخليفة وواليه المدلّل !
ومرّة أخرى نظر الوليد بسخرية إلى من جاءوا يشهدون عليه .
وهنا حدث من لم يخطر ببال أحد ، فقد اندفع علي وانتزع السوط ، وفّر الوليد هنا وهناك ولكن علي سرعان ما امسك به وضرب به الأرض ، وتوالت سياط على الغاضبة تلهب جسم الوالي الفاسق ؛ وصرخ عثمان :
ـ ليس لك أن تفعل هذا به !
فردّ علي بغضب سماوي :
ـ بلى وشر من هذا اذ فسق ومنع حق الله أن يؤخذ منه !
وهكذا سقط الوالي إلى الحضيض .. ولكن عثمان لم ينس « اخاه » لأمّه فاسند اليه مهمّة جديدة إذ عينه جابياً لصدقات « كلب » و« بلقين » (6) .
وانطوى علي على جراحه فليس في الأفق ما يبشر بخير .
حوادث الزمن الثالث :
استهل عثمان خلافته بتمكين بني امية من مقاليد الحكم ، وتسنم مروان بن الحكم ارفع المناصب حتى كان خاتم الخلافة في يده يحكم ما يشاء ؛ وفي عهد عثمان تصاعدت وتيرة الفتوحات وراحت الجيوش الإسلامية تسيح في الأرض شرقاً وغرباً ( وفي عهده فتحت ارمينيا وآذربيجان وافريقيا ، وبدأ غزو الروم براً وبحراً وفتحت جزيرة قبرص وفي سنة 27 انطلقت قوّة بحرية لاحتلال شواطئ الاندلس وبدأت الاستعدادات لمهاجمة القسطنطنية ، واقتحام أروبا عن طريق اسبانيا .) ؛ وكنوز الغنائم تتدفق ليكون طريقها إلى بني امية ، وبعض الصحابة الذين وجدوا في سياسة عثمان ما يشبع طموحاتهم واطماعهم في المال والثراء . وفي مقابل هذا نجد صفحات تضج بالمآسي عنما يحتج بعض الصحابة على ظاهرة الانحراف التي لم يعد السكوت عنها .
ان التأمل في ما عاناه الصحابي المظلوم ابي ذر الغفاري على أيدي الأوغاد من بني امية سوف يلمّ بصورة مصغرة عن عمق المحنة التي عصفت بالاسلام والامّة بل وحتى الأجيال القادمة ؛ كما أن التوقف عند مشهد أبي ذر حبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يضرب بقسوة ويهان في « المدينة » عاصمة الإسلام سوف يتذكر ولا ريب معاناته في مكّة يوم كانت الكعبة تضجّ بالاوثان وكان الوثنيون ينهالون على « جندب بن جنادة » وقد هتف : ان لا إله إلا الله ... محمد رسول الله ؛ وسوف يكتشف المرء أن الذين كانوا يضربونه في مكّة قد عادوا مرّة أخرى يجلدونه في يثرب بعد أن تلبسوا ثوب الاسلام كرهاً وزوراً .
الدين والدنيا ... معادلة الصراع :
ها هو أبو ذر يعود من الشام منهكاً ارهقه الجلاّدون سيراً وهو الشيخ الذي انهكته السنون والأيام من قبل .
عاد إلى المدينة ... غريباً وحيداً لم يستقبله أحد .. انها أوامر مروان الخليفة الفعلي للبلاد ..
لم يجد عثمان مع أبي ذور حلا إلا أن يقتله أو ينفيه ليموت وحيداً ...
لقد بلغ الارهاب ذروته فلم يخرج لتوديع ابي ذر إلا علي وأخوه ( عقيل ) وابناه ( الحسن والحسين ) والصحابي الجليل عمار ابن ياسر ... اما الآخرون فقد خافوا سطوة مروان .. وجاء مروان ثائراً يتهدد ويتوعد الذين تمرّدوا على ارادة الخليفة ..
كان الحسن يحدّث أباذر ، عندما صرخ مروان :
ـ أيها يا حسن ألا تعلم ان أمير المؤمنين نهى عن كلام هذا الرجل ؟ فان كنت لا تعلم فاعلم !
ولم يجد علي بن أبي طالب ردّاً مناسب سوى أن ضرب بالسوط بين أذني راحلته فولّى مذموماً مدحوراً .
وبدأت مراسم توديع صحابي آمن بالله ورسوله وطوى سنوات عمره مجاهداً الذين اشركوا والذين في قلوبهم مرض .
تقدّم علي شدّ بيده على يد صاحب رسول الله وقال :
ـ يا أبا ذر انك غضبت لله ..
ان القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه فما احوجهم إلى ما منعتهم وما اغناك عمّا منعوك وستعلم من الرابح غداً ، والأكثر حسداً ، ولو أن السموات والأرضين كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل الله له منها مخرجاً ، يا أبا ذر لا يأنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل .
وتقدم عقيل ليسجل تضامنه قائلاً :
ما عسى أن نقول يا أبا ذر ، انت تعلم أنّا نحبّك وانك تحبّنا فاتق الله فان التقوى نجاة ، واصبر فان الصبر كرم . واعلم ان استثقالك الصبر من الجزع ، واستبطائك العافية من اليأس فدع اليأس والجزع .
وقال الحسن مصبّراً :
يا عماه لو لا أنه لا ينبفي للمودّع أن يسكت وللمشيع ان ينصرف لقصر الكلام وان طال الأسف ... فضع عنك الدنيا بتذكر فراقها .. وشدّة ما اشتد منها برجاء ما بعدها واصبر حتى تلقى نبيك صلّى الله عليه وآله وهو عنك راض .
وقال الحسين كلمته التي تنضح احتقاراً للدنيا ، وتمجيداً للدين والكرامة :
ـ يا عماه ان الله قادر أن يغير ما قد ترى والله كل يوم في شأن .
وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ، فما اغناك عما منعوك واحوجهم إلى ما منعتهم ، فاسأل الله الصبر والنصر ..
وتقدم عمار يودّع صاحبه بكلمات هي مزيج من الحزن والغضب قائلاً :
ـ لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من اخافك اما والله لو أردت دنياهم لأمنوك ، ولو رضيت اعمالهم لاحبوك وما منع الناس ان يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا والجزع من الموت ومالوا إلى السلطان جماعتهم والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم . فخسروا الدنيا والجزع من الموت ومالوا إلى السلطان جماعتهم والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم . فخسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين .
وبكى أبو ذر .. فجّرت كلمات الوداع دموعه حرّكت كوامن الجراح في قلبه المترع بالحزن .. تصفح بعينيه الغارتين بالدموع وجوه مودّعيه كأنه يريد أن يرتوي منها ويتزوّد بها ذكريات تعينه على وحشة الأيام القادمة قال أبو ذر :
ـ رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة .. إذا رأيتم ذكرت بكم رسول الله ..
مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ... اني ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن أجاور اخاه وابن خاله بالمصرين (الكوفة والبصرة .) ... فسيرني إلى ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله وما أريد إلا الله تعالى وما اخشى مع الله وحشة .
وراح أبو ذر يجر خطاه المتعبة إلى منفاه في الربذة تلك البقعة الجرداء الملتهبة من دنيا الله .
المصادر :
1- الكامل في التاريخ 3 : 34 .
2- الأحزاب : 53 .
3- تاريخ الطبري 5 : 35 .
4- نهج البلاغة : الخطبة 3 .
5- نهج البلاغة .
6- تاريخ اليعقوبي 2 : 142 .