النظام، والدّقة، الإتقان والحكمة، العظمة والقوّة، هذه كلّها من صفات الخالق التي نراها بيّنةً في هذا الكون يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾(1)، كذلك الإنسان عندما خلقه الله سبحانه وتعالى، سواءً في البعد البدنيّ والجسديّ، أم فيما يتعلّق بالروح الإنسانيّة، فقد خلقهما على أساس نظامٍ دقيقٍ جدّاً يقول سبحانه وتعالى: ﴿صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(2).
لقد عرف الأطباء اليوم والعلماء الكثير من الأمور عن بدن الإنسان وأعضائه، وعن وظائفه ومشاكله وقوانينه، ولكن مازالت الروح الإنسانيّة مجهولة بدرجةٍ عاليةٍ وكبيرة جدّاً لديهم. فهذه الروح وهذا الجسد وبالتالي هذه القوى الجسديّة والنفسّية والروحيّة، كلّها خاضعة لنظام وقوانين أودعها الله سبحانه وتعالى فيها، وعندما يختلّ النظام البيولوجيّ لدى الإنسان يؤدّي ذلك إلى انتكاسات صحيّة، أو ارتباكات في أداء الأعضاء لوظائفها، وهذا الخلل قد يؤدّي بالتالي إلى المرض، أو الشلل أو الموت.
النظام التكوينيّ والنظام التشريعيّ
إنّ كلّ ما هو خارج إرادة وقدرة وفعل الإنسان يسير ضمن نظام تكوينيّ قهريّ، وهو خاضع لسنن صارمة وقوانين حاسمة وقاطعة، وضعها الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود وفي هذا الكون، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾(3).
وقد تُرك هامش لاختيار الإنسان وإرادته وعمله، فالله سبحانه وتعالى لديه أمران توّجه بهما إلى الإنسان:
1- طلب منه أن يعتمد النظام في حياته، وأن ينظّم أموره وشؤونه، وأن لا يكون عشوائيّاً، وأن يكون منظّماً مرتّباً.
2- وضع الله سبحانه وتعالى لحياة الإنسان نظاماً، وهذا النظام هو الدين أو الشريعة، ويُصطلح عليه في الأدبيّات المعاصرة بالقوانين.
وهذه القوانين وضعها الله سبحانه وتعالى للإنسان لأجل أن ينظّم كلّ حياته على أساسها. لكن يبقى هناك فارق بين ما أودعه الله في هذا الوجود والكون وفينا كأشخاص، وبين نظام الحياة الذي شرّعه لنا الله، وهو أنّ النظام الأوّل يقهرنا ويحكمنا، ونحن خاضعون لسننه وقوانينه، وهو خارج إرادتنا واختيارنا.
أمّا النظام الثاني وهو النظام التشريعيّ، فقد ترك الله سبحانه وتعالى بمشيئته وحكمته الأمر لمشيئتنا واختيارنا، بأن نُطيع أو نُخالف، أن نلتزم أو نعصي.
وهذا هو الفرق بين النّظامين التكوينيّ والتشريعيّ: فالأوّل خارج عن إرادتنا واختيارنا، ولا نقدر أن نؤثّر فيه، فحركة الشمس وحركة الأرض حول نفسها والمنظومات الشمسيّة والنجوم كلّ ذلك خاضع لقوانين لا نقدر أن نغيّر فيها شيئاً.
أمّا بالنسبة للقضايا التشريعيّة، فالله سبحانه وتعالى تركها لنا ليختبرنا، وليبتلينا من جهة، ولأنّه أراد أن نصل إلى سعادتنا أو شقائنا، إلى كمالنا أو ضياعنا بإرادتنا، ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الدنيا حلوة خضرة وإنّ الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الله"(4).
وقد هيّأ لنا كلّ الإمكانات وكلّ السبل. فقد أراد لنا في هذه الدائرة - التي هي دائرة اختياريّة - أن ننظّم أمورنا. وكلّ الأديان الإلهيّة والشرائع الإلهيّة أكّدت على لزوم ووجوب نظم الأمر والتنظيم.
الشريعة الإسلاميـّة نظام للحياة
إنّ النظام في المجتمع الإنسانيّ يأخذ أشكالاً متعدّدة، فالمدرسة منظّمة حيث إنّه فيها المدير، وفيها الناظر، وهي خاضعة لتنظيمٍ إداريّ معيّن. كذلك الوزارات، والجمّعية، والجامعة، والمستشفى، والمركز الصحيّ، والمصنع، والبنك، كلّ هذه الأمور تخضع لتنظيم، والجيش هو تنظيم ولكنّه تنظيم عسكريّ والحزب هو أحد أشكال التنظيم وهكذا. وقد أكّدت الأديان الإلهيّة والشرائع الإلهيّة وخصوصاً الإسلام منها، على أن يكون هناك تنظيم في حياة الناس، والشريعة الإسلاميّة إذا أخذناها كمثل، نجد أنّ روح التنظيم سارية في كلّ أمور الشريعة.
فالعبادة مثلاً، كالصلاة التي هي نظام كامل، وتتألّف من أجزاء وشروط وأركان وعدد ركعات وحركات محدّدة، وهي أيضاً ترتبط بالزمان، بالليل والنهار، بالفجر وطلوع الشمس وزوالها، وبمغيب الشمس ومنتصف الليل. الصوم أيضاً نظام كامل وهو يرتبط بالزمان. والحجّ نظام كامل وتنظيم كامل يرتبط بالزمان، بحيث تصبح حركة الإنسان والكون واحدة، فالإنسان معني بتتابع الليل والنهار والشمس والقمر، وبداية ونهاية الشهر لأنّه متّصل بعبادته.
نظام الحياة الاجتماعيـّة
عندما نأتي للحياة الاجتماعيّة من نظام العائلة، ونظام الأسرة ونظام الجوار، وكلّ هذا من الأمور التي نظّمها الإسلام، نظام الأحوال الشخصيّة، والبيع والشراء والتجارة والمضاربة والمزارعة، وصولاً إلى القتال وإلى القضاء، والحدود وإلى التعزيرات كلّها أنظمة وقوانين دقيقة وواضحة ومحدّدة، لذلك نجد في أيّ جانب من جوانب الإسلام - في بُعده العباديّ وفي بعده المعاملاتيّ وفي بُعده الأخلاقيّ - روحَ وحقيقةَ التنظيم حاضرة وبقوّة.
نظم الأمر
إنّ أهمّ دقائق ولحظات في حياة أي إنسان هي لحظاته الأخيرة. لأنّها تكون غالية جدّاً بالنسبة له. ففي اللحظات الأخيرة من حياة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، جمع إليه الحسن والحسين وبقيّة أولاده وأهله عليهم السلام، وقال لهم في ما قال في الوصيّة: "أُوصيكما وجميع وُلدي وأهلي ومن بلغه كتابي، أُوصيكما بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدّكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"(5)، إذاً فموضوع نظم الأمر كان أمراً مفصليّاً وجوهريّاً إلى حدّ أن تقدّم وصيّة عليّ عليه السلام للحسنين وأهل بيته وولده وجميع من بلغه كتابه، وقد بلغنا كتابه، فهو يُوصينا نحن أيضاً.
ومعنى تقوى الله اجتناب معصية الله، اجتناب الحرام، والقيام بالواجبات.
ومعنى نظم الأمر أن تكون أمورنا كلّها منظّمة مرتّبة.
أمّا صلاح ذات البين فهو أن لا نتنازع أو نتخاصم أن نتعاون وأن نتماسك، أن نكون سويّاً كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي معركة بدر كان يقف ويُنظّم الصفوف، كذلك في صلاة الجماعة. فقد ورد في بعض الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف بالمسجد في المدينة ويُنظّم الصفوف، حتّى في بعض الروايات أنّه كان يُرتب الناس حتّى يكون الكتف على الكتف.
وقبل ألف وأربعمائة وثلاثين سنة تقريباً نظّم الإسلام الناس حين وقوفهم لصلاة الجماعة، حتّى لو اجتمع مليون شخص نظّمهم بحيث يقفوا بانتظام ولا يحتاجون إلى من يُتعب نفسه بإدارتهم. كذلك في موسم الحجّ حيث الطواف حول الكعبة، وإن كان الموضوع يأخذ شكلاً دائريّاً، ولكنّهم مع تواجد مئات الآلاف نراهم لوحدهم يقفون وينتظمون ويصطفّون في منظرٍ مدهشٍ من التنظيم والهندسة والجمال، هذا كلّه من عمل الإسلام.
النظام ضرورة إنسانيـّة
لقد أكّد الإسلام أنّ أيّ شعب أو مجتمع، يعيش في مكان ما في ظروف مشتركة ومعيّنة لا بدّ له من نظام أو حكومة. وفي أدبيّات ذلك الزمان الماضي كانوا يقولون إنّه لا بدّ له من إمارة، "لا بدّ للناس من أميرٍ برٍّ أو فاجر". وبمعزل عن هذه الحكومة هل هي حكومة عادلة أو ظالمة. لا بدّ لأيّ مجتمع بشريّ في أيّ بلد كان. من حكومة وحاكم ونظام وقانون يحكم حياة هذه الجماعة البشريّة.
وتعبير الحديث: "لا بدّ للناس من أمير برٍّ أو فاجر"(6)، لا يعني إعطاء الشرعيَّة لحكومة الفاجر، إنّما يوصِّف الحاجة الطبيعيّة للجماعة البشريّة.
وعليه فإنّ بين الفوضى والنظام لا بدّ من اختيار نظام، وبين الفوضى والأمير لا بدّ من اختيار أمير برّ أو فاجر، نعم، لو اتيح لنا الخيار بين أمير برّ وبين أمير فاجر فلا بدّ من اختيار أمير برّ بلا ريب. هذا ما قصده الحديث وأكّد عليه الإسلام بقوّة، لكن أيضاً جاء الإسلام وقال إنّ النظام والقانون الذي يصلح للناس والذي يستطيع أن يُنظّم شؤونهم الخاصّة والعامّة، والذي يُمكن أن يحقّق لهم العدالة والكمال والأمن والاستقرار هو النظام الإلهيّ والقانون الإلهيّ، والدولة التي تحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى، يقول عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾(7).
المصادر :
1- الملك:3- 4
2- النمل:88
3- الفرقان:2
4- بحار الأنوار، ج72، ص353
5- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام ، ج3، ص76
6- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام ، ج1، ص91
7- آل عمران:19