على ما يروي ابن عبد ربه يقول دخلت على منصور بن جهور الازدي ـ بعد قتل الوليد ابن يزيد ـ وعنده جاريتان من جواري الوليد. فقال لي : اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان. قالتا قد حدثناك !! قال حدثاه كما حدثتماني. (١)
قالت إحداهما : كنا أعز جواريه عنده. فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة. فأخرجها ـ وهي سكرى جنبة ـ متلثمة فصلت بالناس. »
ولا ندري فيما إذا كان من المستطاع ان يبلغ الاستهتار بالدين وبالاخلاق عند « خليفة المسلمين » حدا يتعدى ما وصل إليه عند الوليد !!
ترى لماذا استهتر الامويون بالاسلام إلى هذا الحد؟
تارة بالخروج على تعاليمه ، وأخرى بقتل الداعين إلى إتباعه.
وطورا عن طريق هدم الكعبة واستباحة المدينة الخ !!!
أهو من باب التشفي من قتلاهم في عهد الرسول؟
ذلك ما نجنح إلى قبوله والتسليم بوجاهته.
روى ابو خليفة ـ الفضل بن الحباب الجمحي القاضي ـ عن محمد بن سلام الجمحي « قال : حدثني رجل من شيوخ أهل الشام عن ابيه. قال :
كنت سميرا للوليد بن يزيد فرأيت ابن عائشة القرشي عنده وقد قال له :
إني رأيت صبيحة النحــر / حورا تفين عزيمة الصبر
مثل الكـواكـب في مطالعها / عنـد العشاء أطفن بالبدر
وخرجت أبغي الاجر محتسبا / فرجعت موقورا من الوزر
فقال الوليد أحسنت والله ... أعد بحق عبد شمس. فأعاد.
فقال : أحسنت والله أعد بحق أمية فأعاد.
فجعل يتخطى من أب إلى أب ويأمره بالاعادة حتى بلغ نفسه.
فقال أعد بحياتي. فأعاد. فقام إلى ابن عائشة فأكب عليه. ولم يبق عضوا من أعضائه إلا قبله...
فجعل ابن عائشة يضم ذكره بين فخذيه. فقال الوليد ـ والله ـ لا زلت حتى أقبله. فقبل رأسه.
وقال : واطرباه !! واطرباه !!
نزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة وبقى مجرداً إلى أن اتوه بثياب غيرها.
ودعا بألف دينار فدفعت إليه. وحمله على بغلة وقال أركبها على بساطي وانصرف فقد تركتني على أحر من جمر الغضى ...
قد كان ابن عائشة غنى بهذا الشعر يزيد بن عبد الملك ـ أباه ـ فاطربه وقيل : إنه ألحد وكفر في طربه ...
وذكر محمد بن يزيد المبرد أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته من ربه .. ومن ذلك الشعر :
تلعب بالخلافـة هاشمــي / بلا وحي أتاه ولا كتاب »(2)
ومما يحكي ان الوليد استفتح فالا في المصحف فخرج : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد. فألقى المصحف ورماه بالسهام وأنشد :
تهددني بجبــار عنيـد / وهـا أنا ذاك جبار عنيد
إذا ماجئت ربك يوم حشر / فقـل يا رب مزقني الوليد
الزنى
کثير من الايات التي ورد فيها موقف الاسلام والصارم من هذا التصرف الفاسد. ولسنا في معرض التدليل على أخطار الزنى ومضاره ، القريبة والبعيدة ، المباشرة وغير المباشرة ، في الفرد وفي المجتمع الذي ينتمي إليه.
ويكفي التدليل على ذلك : أن نتذكر أن الاسلام قرن الزنى بقتل النفس التي حرم الله ، فحرمه ومنعه ووضع عقوبة صارمة على من يتعاطاه.
إستمع إلى ما جاء في سورة الانعام :
« قل تعالوا أتل عليكم ما حرم ربكم ...
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ...
« ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق .. وجاء في سورة الاعراف :
« قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والإثم والبغي بغير الحق ... » وفي سورة بني اسرائيل :
« ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا. »
وقرنه القرآن ـ في موضع آخر ـ مع الشرك « وهو أكبر الموبقات بنظرالاسلام » فقال في سورة الفرقان : « والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون.
ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا ».
وبقدر ما يتعلق الامر بشيوع موبقة الزنى عند الامويين فإن بامكان الباحث ان يعثر على تأصله ـ في هذه الاسرة العربية الكريمة ـ منذ عهد الجاهلية ، عند رؤوس الاسرة من الرجال والنساء.
فقد مر بنا وصف ما صنعه امية بن عبد شمس « وجد معاوية بن أبي سفيان » في الجاهلية عندما زوج إبنه عمرا إحدة نسائه في حياته فولدت ابا معيط.
وقد ورث أبو سفيان عن جده هذه الخصلة الجاهلية.
وحوادث زناه معروفة لدى الكثيرين ، نذكر منها ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ علاقاته الجنسية بالنابغة والدة عمرو بن العاص ، وبسمية ام زياد.
« فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب « ربيع الابرار » فقال :
كانت النابغة ـ ام عمرو ـ أمة لرجل من عنزة. فسبيت.
فأشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة. فكانت بغيا. ثم أعتقها.
فوقع عليها أبو لهب وأمية بن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة.
وأبو سفيان والعاص بن وائل السهمي .. فولدت عمروا ». فأدعاه كل منهم فحكمت أمه فيه فقالت هو من العاص. فقال أبو سفيان :
اما أني لا اشك أني وضعته في رحم أمه. فأبت الا العاص.
فقيل لها : ابو سفيان أشرف نسبا. فقالت :
إن العاص كثير النفقة عليّ ...
وفي ذالك يقول حسان بن ثابت لعمرو :
ابوك ابو سفيان لا شـك قد بـدت / لنـا فيك منـه بينات الدلائــل
ففاخـر به أما فخـرت ولا تكـن / تفاخر بالعاص الهجيـن بن وائل
وإن التي في ذاك يا عمرو حكمت / فقالت رجــاء عنـد ذاك لنائل
من العاص عمرو تخبر الناس كلما / تجمعت الاقوام عند المحافل (3)
وأما علاقات أبي سفيان بسمية فاشهر من أن تذكر.
فقد ذكر ابو مريم السلولي أنه جمع بين أبي سفيان وسمية على زنى.
« وكانت سمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحرث ابن كلدة.
وكانت تنزل في الموضع الذي ينزل فيه البغايا بالطائف ـ وخارجا عن الحضر ـ في محلة يقال لها حارة البغايا (4). » وإلى هذا المعنى يشير يزبد بن مفرع الحميري في هجائه معاوية (5) :
ومن طريف ما يروى عن ابن مفرغ هذا أنه كان مع عباد بن زياد بن سمية بسجستان فانشغل عنه بحرب الترك فاستبطاه ابن مفرغ ، وأصاب الجند الذي مع عباد ضيق في علوفات دوابهم. فقال ابن مفرغ :
ألا ليت اللحى كانت حشيشا / فنعلفـهـا دواب المسلمينـا
وكان عباد عظيم اللحية فقيل له ما أراد غيرك. فطلبه فهرب وهجاء :
إذا أودى معاوية بن حرب / فبشر شعب رحلك بالصداع
وأشهد أن أمك لم تباشــر / أبا سفيــان واضعة القناع
ولكن كان أمرا فيــه لبس / على وجــل شديد وارتياع
ألا ابلغ معاوية بن حـرب / مغلغلة مـن الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف / وترضى أن يقال ابوك زان
فأشهـد أن رحمك من زياد / كرحـم الفيل من ولد الإتان
أما أخبار الزنى عند الامويين بعد ذلك وبخاصة عند يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد فمشهورة.
ذلك ما يتعلق بالزنى عند رجال الامويين.
أما ما يتصل بالزنى عند نسائهم فيكفي أن نذكر حمامة ام ابي سفيان ـ جدة معاوية ـ التي كانت بغيا في الجاهلية وكانت صاحبة راية ، وهند ـ أم معاوية.
والزرقاء : جدة مروان بن الحكم لأبيه. فقد كانت هند ـ على ما يذكر الرواة ـ تذكر في مكة بعهر وفجور.
ذكر الزمخشري(6) أن معاوية كان مشكوكا في أبيه. فكان يعزي إلى أربعة:
الى مسافر بن أبي عمرو.
وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة.
وإلى العباس بن عبد المطلب.
والى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد بن المغيرة.
وكان الصباح عسيفا ـ أجيرا ـ لأبي سفيان ، شابا وسيما. فدعته هند إلى نفسها فغشيها.
وكان ابو سفيان دميما قصيراً.
وقيل : إن عتبة بن ابي سفيان من الصباح أيضا.
وقيل أنها كرهت ان تدعه في منزلها فخرجت إلى اجياد فوضعته هناك.
وفي هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة الرسول قبل عام الفتح :
لمن الصبي بجانب البطحـاء / فـي الترب ملقى غير ذي نهد
نجلــت بــه بيضاء آنسة / عن عبد شمس صلبة الخد. »
ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الصدد ان ابن حجر العسقلاني (7) قد ذكر « إن معاوية كان طويلا أبيض. »
وقد ذكرنا ان ابا سفيان على ما يصفه المؤرخون كان دميما قصيرا.
وان الصباح ـ مغني عمارة بن الوليد بن المغيرة كان وسيما.
فهل توجد علاقات ـ فسلجية ـ موروثة بين الصباح ومعاوية؟
وإذا كان الامر كذلك فإن العلم الحديث يلقي بعض الضوء على ما ذهب اليه المؤرخون في هذا الباب.
وهناك روايات أخرى تتصل بعهر السيدة هند نذكر منها ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى حين قال :
إن السيدة « هند كانت تحت الفاكة بن المغيرة المخزومي ، وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس ... فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكة وهند. ثم قام الفاكة وترك هند في البيت ـ لأمر عرض له. ثم عاد إلى البيت فاذا رجل خرج ...
فأقبل الفاكه إلى هند فركلها برجله وقال : من الذي كان عندك؟ فقالت :
لم يكن عندي أحد ، وإنما كنت نائمة. فقال : ألحقي بأهلك.
فقامت من فورها الى اهلها وتكلم في ذلك الناس (8).
وأما الزرقاء ـ جدة مروان بن الحكم لأبيه ـ فهي بنت وهب.
وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء (9).
وكان يقال لأولاد عبد الملك بن مروان : « أولاد الزرقاء » في معرض الذم.
الغدر
وهو : صفة ممزوجة دينياً وإجتماعياً. ويتضمن الغدر ، في كثير من الاحيان جبن الشخص الذي يستعين به للإيقاع بخصومه ومناوئيه.
وللغدر آثار خلقية سيئة ، وله إضرار مادية ومعنوية ، قريبة وبعيدة ، فردية وإجتماعية من الناحيتين المباشرة وغير المباشرة.
وقد حرم الاسلام الغدر ونهى عنه. استمع إلى الآيتين التاليتين : سورة البقرة :
« والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض اولئك هم الخاسرون. » وجاء في سورة الرعد :
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار. »
لقد برزت ظاهرة الغدر في الاسرة الاموية بين النساء والرجال على السواء ، ضد بعضهم بعضا أحيانا ، وضد غير الامويين أحيانا حسبما تستلزم الظروف السياسية القائمة.
غير ان الامويين ـ مع هذا لا يبعدون عن عصبيتهم الاموية في هذا الباب ، ومن الممكن أن تفسر خصوماتهم الداخلية بأنها ناتجة عن إختلافهم في أساليب تثبيت تلك العصبية. ومهما يكن من شيء فإن ظروف الحاكم الاموي القائم إذا استلزمت الغدر بأموي آخر ـ أو البطش به ـ فإنه يتراجع به إنتهاء مهمته تلك فيرعى ذوي الاموي المغضوب عليه.
وفي التاريخ الاموي من ذلك شيء كثير : من ذلك مثلا موقف عبد الملك بن مروان من يحى وعنبسه ـ ابني سعيد ـ بعد أن قتل أخاهما عمرو بن سعيد الاشدق.
فقد أمر عبد الملك بقتل يحى « فقام إليه أخوه عبد العزيز فقال : جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين اترك قاتلا بني أمية في يوم واحد. !! فأمر عبد الملك بيحى فحبس. ثم أتى بعنبسة بن سعيد. فأمر به أن يقتل. فقام إليه عبد العزيز فقال : أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها !! فأمر بعنبسة فحبس (10) »
فقد اعتبر عبد العزيز قتل يحى قتلا للامويين فناشد أخاه ان يصفح عنه ففعل. وتظهر تلك العصبية كذلك في موقف عبد الملك بن مروان من أولاد عمرو ابن سعيد الاشدق. فقد وفد هؤلاء عليه ـ بعد مقتل أبيهم ـ ، فرق لهم رقة شديدة ... وقال : إن اباكم خبرني بين أن يقتلني أو أقتله ، وأما انتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأرعاني لحقكم !! فأحسن جائزتهم ووصلوهم وقربهم (11)
لقد مر بنا القول بأن صفة الغدر كانت متفشية بين الامويين من النساء والرجال على السواء وبقدر ما يتعلق الامر ، بالغدر عند النساء الامويات يمكننا ان نقول :
لقد غدرت ام خالد ـ ابنة ابي هشام ـ ارملة يزيد بن معاوية بزوجها مروان بن الحكم فخنقته بالوسادة حتى قتلته. وتفصيل ذلك على ما رواه الطبري (12) :
إن معاوية بن يزيد « عندما حضرته الوفاة أبى أن يستخلف أحداً. وكان حسان بن مالك بن بجدل ـ خال يزيد بن معاوية ـ يريد أن يجعل الامر بعد معاوية بن يزيد ، لأخيه : خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وكان خالد صغيرا. فبايع لمروان بن الحكم على ان يجعل الامر من بعده لخالد. فلما بايع لمروان وبايعه اهل الشام قيل لمروان تزوج ام خالد حتى تصغر شأنه فلا يطلب الخلافة. فتزوجها. فدخل خالد يوما على مروان وعنده جماعة كثيرة.
فقال مروان لخالد تعال يا ابن الرطبة الاست ـ يقصر به ليسقطه من أعين اهل الشام ـ فرجع الخالد إلى أمه فأخبرها. فقالت له : أنا اكفيكه ...
ثم أن مروان نام عندها فغطته بالوسادة حتى قتلته. » ويحدثنا الطبري كذلك (13) عن منشأ العداوة بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد الاشدق ـ الذي سنذكره عند التحدث عن الغدر عند الامويين من الرجال ، فيغزو. إلى حقد قديم منطو على الغدر الذي اتصفت به ام مروان بن الحكم.
وتفصيل ذلك : أن عمرو ابن سعيد وأخاه ، وعبد الملك ومعاوية ابني مروان يأتون ـ وهم غلمان ـ إلى « ام مروان بن الحكم الكنانية. فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود. وكانت أم مروان ـ إذا أتوها ـ هيأت لهم طعاما ثم تأتيهم به فتضع بين يدي كل رجل صحيفة على حدة.
وكانت لا تزال تورش بين معاوية ومروان ومحمد بن سعيد ، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد فيقتتلون ويتصارمون الحبل لا يكلم بعضهم بعضا.
وكانت تقول : إن لم يكن عند هذين عقل فعند هذين.
فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم ».
أما الغدر عند رجال بني أمية فهو أبين منه عند نسائهم وذلك لطبيعة الاوضاع العامة التي تميز بين الجنسين. ويتجلى الغدر ـ بين الامويين ـ بأوضح أشكاله عند معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك.
ويلوح لي أن الغدر كان صفة ملازمة للحكام الامويين فإذا صادف أن اختفى الغدر في عهد أحدهم فإن مرد ذلك يعود إما إلى عدم تسجيل المؤرخين لذلك « الأسباب شتى مقصودة أو غير مقصودة » او إلى أن ذلك الحاكم لم ير حاجة إلى الاستعانة به لتوافر أساليب ملتوية أخرى ـ من نوعه من حيث الاساس ـ وبقدر ما يتعلق الامر بالحكام الامويين : الذين ذكرنا أسماءهم فإن قصص الغدر عند معاوية مشهورة في كتب التاريخ.
فقد غدر بالاشتر كما هو معروف ودس له من يسمه وهو في القلزم في طريقه إلى مصر واليا من قبل علي بن أبي طالب.
فلما بلغ معاوية نجاح غدره إلتفت إلى زميله عمرو بن العاص وقال مبتسما :
إن لله جنودا من عسل.
وغدره بالحسن بن علي وبعبد الرحمن بن خالد بن الوليد أشهر من أن يذكر.
وأما غدر عبد الملك بن مروان فيتجلى بأبشع أشكاله في موقفه من عمرو ابن سعيد الاشدق (14). وقد حصل ذلك في عام « ٧٠ » عندما كان عبد الملك منشغلا في المسير من دمشق نحو العراق للقاء مصعب بن الزبير.
وكان مروان بن الحكم قد وعد عمرو بن سعيد بأن يتولى الامر من بعده فكسب مساعدته وتأييده في ظروف وملابسات تاريخية معروفة نجمت عن تخلي معاوية بن يزيد عن الحكم واضطراب الامر من بعده غير ان مروان بن الحكم ـ على عادته الاموية ـ نكث عهده للأشدق وأوصى بالخلافة لإبنه عبد الملك.
ذكر الاشدق عبد الملك بذلك وطلب إليه أن يعهد له بالامر من بعده. ولكن عبد الملك أرادها لاولاده من بعده. فبيت للأشدق شرا وطلبه إليه.
فأجاب الاشدق على رغم تحذير خواصه. فقال لهم :
« والله لو كنت نائماً ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء ...
ومضى في مئة رجل من مواليه. وبعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده. فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر ان يحبس من كان معه. وأذن له فدخل فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك فإذا حوله بنوا مروان.
فلما رأى جمعهم أحس بالشر. فرحب به عبد الملك وقال : ههنا يا أبا أمية يرحمك الله. فاجلسه معه على السرير. وجعل يحدثه طويلا ثم قال : « يا غلام خذ السيف عنه ». فقال عمرو : أنا لله ـ يا أمير المؤمنين ـ فقال عبد الملك أو تطمع ان تجلس معي متقلدا سيفك !! فأخذ السيف عنه. ثم تحدثا. فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها امامه.
ثم قال يا غلام قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها.
فقال عمرو اذكرك الله ـ يا أمير المؤمنين ـ أن تخرجني فيها على رؤوس للناس.
فقال عبد الملك أمكراً يا ابن أمية عند الموت !! ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه فكسر ثنيته. فقال عمرو أغدرا يا ابا الزرقاء !! ـ .. وأذن مؤذن العصر.
فخرج عبد الملك ليصلي بالناس ، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتل عمروا .. وصلى عبد الملك .. ورجع فوجد عمرا حيا. فقال ـ لعبد العزيز ـ ما منعك من أن تقتله؟ قال : إنه ناشدني الله والرحم فرفقت به.
فقال له عبد الملك أخزى الله أمك البواله على عقبها .. ثم إن عبد الملك قال يا غلام أئتني بالحرية. فأتاه بها. فهزها. ثم طعنه بها ... وجلس على صدره فذبحه ...
انتفض عبد الملك رعدة ... فحمل عبد الملك عن صدره ووضع على سريره ...
وجاء عبد الرحمن بن أم حكيم الثقفي فرفع إليه الرأس فألقاه في الناس.
وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ الاموال في البدور فجعل يلقيها إلى الناس. فلما نظر الناس إلى الاموال ورأوا الرأس إنتهبوا الاموال وتفرقوا. »
تلك هي مأساة الاشدق. ولابد أن القارئ قد لاحظ معنا جملة امور قام بها عبد الملك بن مروان « خليفة » للمسلمين وابن « خليفتهم » ـ لا يجيزها الدين ولا العرف ، ولا الذوق الانساني الرفيع.
ترى لماذا قتل عبد الملك ابن عمه بذلك الشكل الغادر؟ لكي يحافظ على الخلافة الإسلامية التي انتهك حرمتها أبوه من قبله؟
لماذا صلى وهو متلبس بجريمة التهيؤ للقتل؟
أليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
هل تنسجم الصلاة مع قتل النفس التي حرم الله؟
ثم لماذا نثرت الدارهم على الناس مع رأس القتيل؟ للإمعان في إفساد أخلاق الناس؟
هل يجيز الاسلام ان يعمل « الخليفة » على إفساد أخلاق المسلمين؟
إن الاجابة عن هذه الاسئلة تسوقنا إلى القول بأننا أمام تصرفات خلقية جاهلية وثنية حاربها الاسلام وتعهدها الامويون بالرعاية والتنشيط.
ولعل أطرف قصص الغدر وما يرافقه من التواء في الخلق عند الامويين قصة الوليد بن عبد الملك عندما أراد خلع أخيه سليمان من ولاية العهد وتحويلها لولده عبد العزيز « بعد أن أغراه على ذلك ـ ووافقه عليه ـ جملة أشخاص من المتنفذين وفي مقدمتهم الشاعر جرير وقتيبة بن مسلم الباهلي وإلى خراسان والحجاج بن يوسف الثقفي وإلى العراق ».
ومن أطرف ما نظمه جرير في هذا الصدد ـ قوله :
إذا قيل أي الناس خيـر خليفــة / أشــارات إلى عبــد العزيز الاصابع
رأوه أحق الناس كلهـم بـهــا / وما ظلموا ـ فبايعوه وسارعوا (15)
وقال : أيضا في قصيدة أخرى يحث الوليد على جعل ولاية العهد لأبنه عبد العزيز :
فزحلقهـا بأزملهـا إليه / أمير المؤمنين إذا تشاء
فـان الناس قدموا إليه / أكفهـم وقد برح الخفاء
ولو قد بايعوه ولي عهد / لقام الوزن واعتدل البناء
غير أن إخفاق الوليد في مسعاه قد جعل الامر ينتقل بعد وفاته إلى أخيه سليمان وبذلك أصبح موقف الذين ألبوا الوليد على خلع سليمان حرجا.
ولعل محاولة « الخليفة » الجديد الإنتقام لنفسه من هؤلاء وسعى قتيبة بن مسلم الباهي إلى تدارك الموقف تبين لنا الغدر الاموي بإحدى صوره البشعة.
وإلى القارئ ملخصها : عندما علم قتيبة بتسلم سليمان مقاليد الحكم الاموي كتب إليه كتابا « يهنئه ويعزيه على الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه على مثل ما كان لهما من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان.
وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم ..
وكتب إليه كتابا ثالثا فيه خلعه. وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة.
وقال له : إدفع اليه هذا الكتاب. فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا فقرأه سليمان ثم القاه اليه فادفع اليه هذا الكتاب فإن قرأه والقاه الى يزيد فادفع اليه هذا الكتاب.
فإن قرا الاول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الاخرين ...
فلما قدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب. فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم ألقاه الى يزيد. فدفع اليه كتابا آخر. فقرأه ثم رمى به إلى يزيد. فاعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه. ثم دعا بطين فحثمه. ثم أمسكه بيده ...
ثم أمر برسول قتيبة أن ينزل فحول إلى دار الضيافة. فلما أمسى دعا به سليمان. فأعطاه صرة فيها دنانير وقال : هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر وهذا رسولي معك بعهده. فخرج الباهلي. فبعث معه سليمان رجلا من عبد القيس ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة او مصعب. فلما كانوا بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة وقتله. »(16)
المصادر :
1- العقد الفريد ٣ / ١٦١.
2- المسعودي ، مروج الذهب ٣ / ١٤٩.
3- ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ١٠٠ ـ ١٠١ الطبعة الاولى بمصر.
4- المسعودي ، « مروج الذهب ومعادن الجوهر » ، / ٢ / ٣١٠ ـ ٣١٢.
5- ابن الاثير « الكامل في التاريخ » ٣ / ٢٥٧
6- ابن ابي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ١ / ١١٠ ـ ١١٣ الطبعة الاولى.
7- الاصابة في تمميز الصحابة ٣ / ٤١٢.
8- ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » ١ / ٣١٣ الطبعة الاولى.
9- ابن الاثير ، « الكامل في التاريخ » ٢ / ٣. أما جده لأمه فهو ـ أبو عائشة ـ معاوية بن المغيرة بن أبي العاص الذي جدع أنف حمزة في أحد ومثل به. راجع المقريزي ، النزاع والتخاصم ص ٢٠.
10- الطبري : « تاريخ الامم والملوك » ٧ / ١٧٨.
11- تاريخ الامم والملوك ٧ / ١٨٠.
12- تاريخ الامم والملوك ٧ / ٨٣ ـ ٨٤.
13- المصدر نفسه : ٧ / ١٨٠.
14- راجع الطبري : « تاريخ الامم والملوك » ٧ / ١٧٦ ـ ١٧٩.
15- الطبري : تاريخ الامم والملوك ٨ / ٩٧.
16- الطبري : تاريخ الامم والملوك ٨ / ١٠٤.