عربي
Monday 11th of December 2023
0
نفر 0

عندما يصحو الضمير

عندما يصحو الضمير

واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الإمام ، وجعل يتأمّل ، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الأموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ، فصمم على الالتحاق بالإمام الحسين عليه‌ السلام وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له :
« أمقاتل هذا الرجل ، .. ».
ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد :
« أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .. ».
لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة ، فقال له الحرّ :
« أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا .. ».
واندفع ابن سعد قائلاً :
« لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك .. ».
ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الإمام عزم على الالتحاق بمعسكر الإمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له :
« والله إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، .. ».
وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً :
« إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت .. ».
وألوى بعنان فرسه نحو الإمام (١) وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الإمام ، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور على خدّيه قائلاً :
« اللهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك ، وأولاد نبيّك ، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة .. ».
ونزل عن فرسه ، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الإمام ليمنحه التوبة قائلاً :
« جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا آله إلاّ هو ، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي : لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة ، .. ».
واستبشر به الإمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له :
« نعم يتوب الله عليك ويغفر .. » (2).
وملأ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويتوب إلى الرشاد ، فأذن له الإمام في ذلك ، فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته :
« يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر أدعوتموه حتى إذا أتاكم اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ، وأحطتم به ، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة ، حتى يأمن ، ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالأسير ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هو وأهله قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّداً صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم في ذريّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا ، وتفزعوا عمّا أنتم عليه ... » (3).
وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الأرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء ، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان.
وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام ، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه ، وخاف أن يلحتق غيره بالإمام ، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام ، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه ، فأطلقه صوب الإمام ، وهو يصيح :
« اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى الحسين .. ».
واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة انه أول من رمى ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم ليكون أميره على ثقة من إخلاصه ، ووفائه للأمويين ، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين.
وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الإمام ، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم منها ، والتفت الإمام إلى أصحابه ، فأذن لهم في الحرب قائلاً :
« قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم .. ».
وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من اصحاب الإمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله ، وتذبّ عن ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق ، وأن الجيش الأموي على ضلال ، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته.
لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً من أصحاب الإمام عليه‌ السلام مع عشرات الآلاف من الجيش الأموي ، وكانت تلك القلّة المؤمنة كفوءاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الألباب.
وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الإمام عليه‌ السلام وخاضوا معهم معركة ضارية ، وقد اشترك فيها المعسكر الأموي بكامل قطعاته ، وقد انبرى إليهم أصحاب الامام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الأرض ، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر ، وقد انزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات.
وقد استشهد نصف أصحاب الإمام عليه‌ السلام في هذه الحملة (4).

المبارزة بين المعسكرين :

ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام عليه‌ السلام صرعى على أرض الشهادة والكرامة ، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة ، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة ، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها ، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً :
« يا حمقى أتدرون من تقاتلون ، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر وقوماً مستميتين ، فلا يبرز لهم منكم أحد إلاّ قتلوه ، والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم .. ».
وحكت هذه الكلمات ما اتصف به السادة أصحاب الإمام الحسين من الصفات البارزة فهم فرسان أهل المصر ، وذلك بما يملكونه من الشجاعة ، وقوة الإرادة وانّهم أهل البصائر فلم يندفعوا إلى نصرة الإمام عليه‌ السلام إلاّ على بصيرة من أمرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية ، وماجوا في الباطل والضلال ، كما انّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة.
لقد توفرت في أصحاب الإمام جميع النزعات الخيّرة ، والصفات الكريمة من الإيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس ، ويقول المؤرخّون : ان ابن سعد استصوب رأي ابن الحجاج فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم (5)
وشنّ عمرو بن الحجاج هجوماً عاماً على من تبقّى من أصحاب الإمام ، والتحموا معهم التحاماً رهيباً ، واشتدّ القتال كأشدّ ما يكون القتال عنفاً (6)
ول وقد استنجد عروة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً :
« ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ، ابعث إليهم الرجال والرماة ».
وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى ، وقال :
« سبحان الله شيخ مضر ، وأهل المصر عامة ، تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري !!. ».
ولما سمع ذلك ابن سعد منه دعى الحصين بن نمير فبعث معه المجفَّفة وخمسمائة من الرماة ، فسددوا لأصحاب الحسين عليه‌ السلام السهام فأصابوا خيولهم فعقروها ، فصاروا كأنّهم رجالة ، ولم تزدهم هذه الخسارة إلاّ استبسالاً في القتال ، واستهانة بالموت ، فثبتوا كالجبال الشامخات ، ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً ، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ ما يكون ضراوة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التأريخ ، وقد استمرّ حتى انتصف النهار (7).
المصادر :
1- تأريخ الطبري ٦ : ٢٤٤.
2- الكامل ٢ : ٢٨٨.
3- الكامل ٣ : ٢٢٩.
4- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٠٣.
5- أنساب الأشراف ٣ : ١٩٢.
6- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢١١.
7- تأريخ ابن الأثير ٣ : ٢٩١.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

اداب المائدة
مشهد السيدة زينب عليها السلام
علاقة الغلوّ بالشهادة الثالثة
حديث الثعبان والخِفُّ ومعجزة لعلي ( ع )
زيارة أم البنين عليها السلام
المهدي المنتظر في القرآن الكريم
عصمة أهل البيت (عليهم السلام) في آية اولي الامر(4)
في أصالة الوجود واعتبارية الماهية
هل السيدة الزهراء (س) ترجع الى الارض بعد ظهور ...
ما هي حقيقة الموت؟

 
user comment