عربي
Monday 22nd of July 2024
0
نفر 0

البداء

البداء



البداء

الشيخ جعفر السبحاني

إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الإمامية ، هو القول بالبداء ، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم أنّ النسخ والبداء صنوان ، غير أنّ الأول في التشريع ، والثاني في التكوين ، وقد اشتهرت بالقول به كاشتهارها بالقول بالتقية، وجواز متعة النساء .

وصار القول بهذه الأمور الثلاثة من خصائصهم، وقد أنكرت عليهم السنّة أشدّ الإنكار، خصوصاً في مسألة البداء ، ولكنهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على الله لتوقفوا عن الاستنكار ، ولأعلنوا الوفاق ، وأقول عن جد : لو أتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصب والتشنج لتجلى الحقّ بأجلى مظاهره ، ولأقرّوا بصحة مقالة الشيعة ، غير أنّ تلك أمنية لا تتحقق إلاّ في فترات خاصة ، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء، فأجبته بإجمال ما أفصله في هذا المقام ، فتعجب عن إتقان معناه ، غير أنّه زعم أنّ ما ذكرته نظرية شخصية لا صلة بها بنظرية الإمامية في البداء ، فطلب مني كتاباً لقدماء علماء الشيعة ، فدفعت إليه أوائل المقالات ، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الأمّة محمد بن النعمان المفيد ( 336 - 413 ه‍ ) فقرأهما بدقة ، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال : لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً .

ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات :

الأولى :

 اتفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلها غابرها وحاضرها ، ومستقبلها ، لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ، فلا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل ، بل الأشياء دقيقها وجليلها ، حاضرة لديه ، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمة أهل البيت - مضافا إلى البراهين الفلسفية المقررة في محلها - .

أمّا من الكتاب : فقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء )  .

وقوله تعالى : ( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) .

وقوله سبحانه : ( إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره ، ماديه ومجرده ، والأشياء كلها قائمة به قياما قيوميا كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين ، ويكفي في توضيح ذلك قوله سبحانه : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .

وقوله سبحانه : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .

وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل منها : قال الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) : ( لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء ) .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( كُلّ سرّ عندك علانية ، وكُلّ غيب عندك شهادة  ) .

قال ( عليه السلام ) : (لا يعزب عنه عدد قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذَّر في الليلة الظلماء ، يعلم مساقط الأوراق ، وخفي طرف الأحداق ) .

وقال الصادق ( عليه السلام ) في تفسير قوله : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) : ( فكلّ أمر يريده الله ، فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شئ يبدو له إلاّ وقد كان في علمه ، إنّ الله لا يبدو له من جهل ) .

وقال ( عليه السلام ) : ( من زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له من شئ لم يعلمه أمس ، فابرأوا منه ) .

إلى غير ذلك من الروايات التي تدلّ على إحاطة علمه بكلّ شئ، قبل خلقه، وحينه وبعده ، وأنّه لا يخفى عليه شئ أبداً  .

وأمّا العقل فقد دلّ على تنزهه من وصمة الحدوث والتغيير ، وأنّه تقدّست أسماؤه أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات ، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه - بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل - لاستلزامه كون ذاته محلاً للتغير والتبدّل ، المستلزم للتركيب والحدوث ، إلى غير ذلك مما يستحيل عليه سبحانه .

فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمة الشيعة ( عليهم السلام ) تشهد على علمه الذي لا يشوبه جهل ، وعلى سعته لكلّ شئ قبل الخلق وبعده ، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء ، والعلم بعد الجهل . وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشم منه خلاف ما دلت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذبا ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة ، أو التزلف إلى حكام العصر الحاقدين عليهم، أو التعصب المقيت .

وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والإثبات ، حيث يقول : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئاً ثُمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسكوا فيه بقوله : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ) ، ثُمّ قال : إنّ هذا باطل ، لأنّ علم الله من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه باطلاً  .

وما حكاه الرازي عن ( الرافضة ) كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة ، وإنّما سمعه عن بعض الكذّابين الأفاكين، الذين يفتعلون الكذب، لغايات فاسدة ، وقد قبله من دون إمعان ودقة ، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه بلدة ( ري ) التي كانت آنذاك مزدحم الشيعة ومركزهم ، وكان الشيخ محمود بن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي - علامة زمانه في الأصوليين - معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلف كتاب ( المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد ) ، ولو كان الفخر الرازي رجلاً منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة ، ولما هجم عليهم بسباب مقذع ، وربما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره .

وليس الرازي فريداً في التقول في هذا المجال ، بل سبقه البلخي ( 319 هـ ) في هذه النسبة  ، ونقله الشيخ الأشعري ( 260 - 324 هـ ) ( 2 ) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية .

الثانية :

 كما دلت الآيات والأحاديث على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والإيجاد ، والتدبير والتربية ، دلت على أنّ مصير العباد يتغير ، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم ، من الصدقة والإحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين ، والاستغفار، والتوبة ،وشكر النعمة وأداء حقها ، إلى غير ذلك من الأمور التي تغير المصير وتبدل القضاء ، وتفرج الهموم والغموم ، وتزيد في الأرزاق ، والأمطار ، والأعمار ، والآجال ، كما أنّ لمحرّم الأعمال وسيئها من قبيل البخل والتقصير ، وسوء الخلق ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، والطيش ، وعدم الإنابة ، وكفران النعمة ، وما شابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم، بعكس ذلك من إكثار الهموم ، والقلق ، ونقصان الأرزاق ، والأمطار ، والأعمار ، والآجال ، وما شاكلها .

فليس للإنسان مصير واحد ، ومقدر فارد ، يصيبه على وجه القطع والبت ،

ويناله ، شاء أو لم يشأ ، بل المصير أو المقدر يتغير ويتبدل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها ، وبالإيمان والتقوى ، والكفر والفسوق .

وهذا مما لا يمكن - لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة - إنكاره أو ادعاء جهله .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشفاعة عند الشيعة الإمامية
الموت أفضل من الحياة
صدق دعوى الأنبياء
القرآن يتجلى في تكوين المياه العذبة
لذة العبادة والمناجاة وتاثيرها في التكامل
ثبوت الصفة لله
في اعماقنا مثال لمحكمة القيامة
مصير الشمس على ضوء القرآن
لغة القرآن إعراب سورة الكوثر
ملابسات الشهادة الثالثة

 
user comment