الإسلام والإسلاموية
د. جميل قاسم
ان الثيولوجيا المعقلنة للدين، تحول أي نص ديني، بعد لحظته الإبداعية الأولى إلى حجة _ نصية، إلى مذهب عقدي، يختصر الطابع الميتولوجي، والميتافيزيقي ويحدده. وتلك هي خاصية النزعة التيولوجية في الأديان قاطبة. فالنص _الحجة يمثل نوعاً من البنية العقلية المتكونة، المتطابقة، والتطابق يقوم بين الكلمة الإلهية، والفعل، أي على الكلمة/ الممارسة، أي على عقلنة الوحي الإلهي في امتداده التطبيقي.
وقد جرى تقنين الإسلام، أسوةً بالأديان التوحيدية الأخرى، في أواسط القرن الأول الهجري في أصول قواعدية تشمل الشريعة كدين والشرع أو أصول الفقه على حد سواء. إن تقعيد الإسلام في أصول دينية وفقهية مقننة. حوّل الإسلام إلى اسلاموية، إلى عقل إسلامي مُتكون.
يتكون الإسلام تقليدياً من خمسة أصول كبرى للدين هي:
1_ شهادة أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
2_ الصلاة.
3_ الزكاة.
4_ الصوم.
5_ الحج لمن استطاع إليه سبيلاً.
وإلى جانب أصول الدين، تبرز أصول الفقه وهي الطريقة المتبعة للنظر في الأدلة الشرعية، حيث تؤخذ الأحكام والتكاليف (الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة).
يتصوّر العقل التقليدي بناء على هذه النظرة الكلية المدينة الإسلامية كتطبيق تام ومؤثل للشريعة الدينية كعقيدة دالاتية (دين. دولة. دنيا) تشتمل على الوحي/ العقل، الكلمة/ الفعل، الإيمان/ الفقه في إطارها هي ذاتها كشريعة/ شرع، تربط القضاء الإلهي بالقدر البشري في بنية كلية متعالية وشاملة.
برزت العقدية الإسلامية مع شيوع التقليد إبّان عصر التدوين. والتقليد هو الاستعادة للنموذج التأسيسي (القرآن والسنة) على قاعدة الإستصحاب؛ وهو بالتعريف جعل ما كان في الماضي مصاحباً إلى الحال على اعتبار تطابق الآنية في الماضي والحاضر.
كان علم أصول الفقه يقتصر زمن البعثة على الوحي القرآني ثم السنة المبينة له، والمقصود بالسنة الطريقة المتبعة وما يصدر عن النبي من قول وفعل وتقرير. وبعد وفاة الرسول محمد، بات الإجماع من الأدلة الشرعية باعتبار عصمة الجماعة. وأمام بروز الواقعات الجديدة غير المأثورة جرى اللجوء الى القياس وصار القياس رابع الأدلة بعد القرآن والسنة والإجماع.
غير أن التقليد الفقهي تبلور في عصر التدوين على نحو جديد مع أهل الرأي دعاة إعمال العقل في حالة المتشابه غير المنصوص عنه، وأهل الحديث المتشبثين بأهداب الحديث، المتشددين في الإحالة إلى الأسانيد مقابل أهل الرأي المؤثرين للنظر العقلي المقيد.
وأمام "إفراط" أهل الرأي في اللجوء إلى القياسات القائمة على الاستحسان العقلي، وإكثار أهل الحديث في القياسات القائمة على الاستصلاح، ظهر علم أصول الفقه على قواعد ضابطة ومقننة للمعرفة تحدد أدلة الأحكام وشرائط الاستنباط والاستدلال الفقهي كالعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والأوامر، والبيان، والخبر، وحكم العلة، والاحتجاج بخبر الواحد، والقياس، والاجتهاد، وقد أصبح هذا الفن مع الزمن نوعاً من "الأورغانون" الفقهي.
والحقيقة أن هذا الفن لاقى تطويرات عدة، وأضاف المتكلمون عليه اصطلاحاتهم الكلامية المعتمدة على الاستدلال العقلي.
كما أثار المتكلمون، من جهة أخرى، موضوع التأويل العقلي المُرسل، ورجّحوا الأدلة العقلية على الأدلة السمعية. وابتدع الغزالي قانون التأويل الذي يقوم على تزكية الشرع بالعقل، وهو القانون ذاته الذي طوره فخر الدين الرازي في صياغته للقانون الكلي الذي يشرط الدليل اللفظي بعدم المُعارض العقلي. كما اعتبر الإمام الجويني في "الإرشاد" أن الشرع ينبغي ألاّ يخالف العقل، ونادى بعض الفقهاء المتأخرين بالاجتهاد المطلق، وهي طريقة تقوم على استنباط الأحكام من أية إمارة معتبرة عقلاً ونقلاً، ونادوا بحجية الاجتهاد في كل زمان ومكان بعد الدعوة إلى إقفال باب الاجتهاد في القرن الثالث الهجري. وظهرت إتجاهات فقهية تقدم المصلحة أو الاجتهاد أو الرأي، وترفض مبدأ التقليد الإحتذائي. كما حاول الفيلسوف ابن حزم تأسيس الأمر على البرهان في منهجه الظاهري. أمّا الشيعة الإمامية فمع تبنيها للاجتهاد المطلق ورفضها لتقليد الميت أسوة بأئمة السنة المتأخرين فقد تبنت المبدأ التعليمي وهو شكلها الخاص للتقليد.
غير أن كل هذه الإتجاهات لم تتجاوز إشكالية العقل/ النقل، وظلت في إطار القواعد الكلية لعلم الأصول.
وطال التقعيد ليس فقط الفقه والكلام وحسب، وإنما اللغة والشعر والسياسة، وحتى الفلسفة.
ومع أن الفلسفة، بالتعريف، هي بحثٌ في الموجود كموجود على ضوء العقل، فقد تأثرت بدورها عند الفلاسفة المسلمين بالتقعيد اليوناني للمنطق الصوري. واهتم الفلاسفة المسلمون بدورهم بالكليات وأعطوها الأولوية سواء في الحد والموجود، واعتبروا الوجود محايثاً في الماهية، والكينونة مختلطة مع الفكرة التصورية لها. ومع أن ابن رشد، تبنى النظرة البرهانية الأرسطية المبنية على نظرية المُركّب من الإثنين، وقوامها الجمع بين المادة والصورة، المحسوس والمعقول. فقد تأثر بالنظرة اليونانية التي تقيّد العلم بالكليات وتعتبر الوجود متقوماً في الجوهر، بعكس الفلسفة الحديثة التي تعتبر أساس المنطق ليس الرابطة السببية، باعتبارها رابطة إعتبارية ذاتية، وإنما باعتبارها رابطة ضرورية قائمة بين الموجودات. هذا ناهيك عن تأثر الفلاسفة المسلمين بنظرية الفيض الأفلوطينية المبنية على دليل الوحدانية الميتافيزيقي الذي يدمج الكثرة في الوحدة، ويعتبر الواحد المتعالي مصدرَ كل وجود.
على الصعيد السياسي لا تؤكد المعطيات وجود ثيوقراطية في الإسلام، لا ريب أنه ظهرت في الحقبة الراشدية دولة _ دعوة أحلّت محل الروابط الطبيعية القائمة على العرق والنسب روابط أخرى سياسية تقوم على فكرة "الأمة" بدل القبيلة. كما تشير المعطيات إلى وجود بعض المؤسسات كالصحيفة التي مثلت الشكل الدستوري _ الشوروي الأول، وديوان الجند (الجيش) والخراج (مؤسسة الضرائب)، غير أن هذه الأشكال السياسية كانت مؤسسات دولة _ الدعوة وليست بالضرورة مؤسسات دولة مُلكٍ أو دولة ثيوقراطية. فالرسول الكريم كان يؤكد في أحاديثه على صفته كنبي ورسول وليس على صفته كملك. كما أن وراثة الفقهاء للأنبياء بحسب الحديث المأثور تحتمل نقيضة المعنى الشائع، إذ يقول الحديث "العلماء ورثة الأنبياء ما لم يدخلوا في الدنيا؛ والجواب على السؤال "وما دخولهم في الدنيا يا رسول الله؟" هو "إتباع السلطان" أي إتباع السلطة. اضافة إلى ذلك يتميز التوحيد الإسلامي بالمقارنة مع الأديان التوحيدية بطابع منفتح على الكينونة بسبب من طابعه اللاكهنوتي والتوحيدي الخاص.
إلى ما سبق برزت نزعة ثيو _ سياسية عبر عنها الماوردي صاحب "الأحكام السلطانية" ترى إلى الخلافة باعتبارها مؤسسة إلهية. فالخليفة وفق هذا المنظور ليس الشخص الذي يخلف النبي وحسب، وإنما ظل الله على الأرض، وذلك باعتبار مبدأ الحاكمية الإلهية؛ وهذا المفهوم للحاكمية لا ينطوي على ثنائية روحي/ زمني، بل هو ينظر إلى الإسلام باعتباره ديناً ودولةً ونظام حياة. ومع أن السلطة وفق هذا التصور ليست ثيوقراطية طالما أنها تقوم على أساس العقد الذي تشارك به الأمة، وباعتبار غياب حكم الكهنوت، إلاّ أنها ليست شعبية، أي ديمقراطية، فالسيادة والحاكمية في المدينة الإسلامية ليست للشعب وإنما لله وفق هذا المقتضى. وبهذا تجد النزعة الثيولوجية _ الفقهية اكتمالها مع النزعة الثيولوجية _ السياسية.
------------------------------------------------------
المصدر : مقدمة في نقد الفكر العربي المعاصر (من الماهية الى الوجود)