المجادلات الدينية في الري .
نحن نعلم ان النزاع الديني بين المذاهب الفقهية و الاعتقادية لاهل السنة كان شديداللغاية اعتبارا من الـقـرن الـرابـع حـتـى القرن السابع الهجري و كانت تحدث مصادمات كثيرة بين انصار الفريقين الـمـتـنـازعين , مضافا الى تكفير احدهما الاخر و لم تشذ الري عن هذه القاعدة ايضا لما ضمته من مذاهب فقهية و اعتقادية مختلفة .
و ذكـر الـمـقـدسـي عنها في القرن الرابع ان الغلبة كانت فيها للحنفيين , غير ان قراها كانت على المذهب الزعفراني , و توقفت في مسالة خلق القرآن و اثر عن الصاحب بن عباد قوله : ان اهل سواد الـري كـانـوا يتفقون معه في كل شي الا في مسالة خلق القرآن و كان في الري حنابلة كثيرون لهم جلبة والعوام قد تابعوا الفقها في خلق القرآن ((948)) و اضاف المقدسي ان العصبيات والمصادمات قائمة بالري حول خلق القرآن ((949)) .
و يبدو ان المذاهب الموجودة في الري كانت متواجهة على الصعيد الفقهي والاعتقادي بنحو متداخل اي : ان بعض المذاهب ذات النزعة الحنفية كانت لها ميول خاصة من الوجهة الاعتقادية و هكذا كانت الـشـافعية فرقا مختلفة من الوجهة المذكورة و في الوقت نفسه كانت اهمية المسائل الفقهية قد ادت الى بروز التقسيمات الاعتقادية تحت ذلك العنوان .
و ذكـر عـبدالجليل معلومات عن الفرق الاعتقادية التابعة للمذهب الحنفي والشافعي ,و يحتمل ا نها كـانـت شـاخـصـة فـي الـري او فـي بعض الحواضر الفارسية و اشار الى الفرق الثلاث المهمة ((الـحـنـفـية , والشيعة , و الشافعية )) و قال : (( كما يحسب النجارية , والمعتزلة ,والبادنجانية , والكرامية , والبااسحاقية و غيرهم على مذهب ابي حنيفة لا نهم يعملون بفقهه , و ينتهجون نهجه في فـروع الـمـذهـب و كـان الـمجبرة , والاشاعرة , والمشبهة ,والكلابية , والجهمية , والمجسمة , والـحـنـابـلة , والمالكية , و غيرهم يحسبون على مذهب الشافعي , و يعملون بفقهه على خلاف فيه بينهم ((950)) )).
و يتضح التداخل في هذه الفرقة من العبارة الاخيرة التي عدت الحنابلة , والمالكية من الشافعية ايضا, ذلك ان الحنابلة كانوا حنبليي الاعتقاد و عقيدة الحنابلة هي التشبيه والتجسيم .
و نلحظ في بعض المدن ان الحنفية كانوا ذوي عقائد اعتزالية , كما ان الشافعية كانواكذلك في مدن اخـرى و كـانـت عقائد الحنفية في الري اعتزالية و لعل هذا يعود الى ان المعتزلة والزيدية كانوا يعدون ابا حنيفة في زمرة اصحابهم .
و كـانت الري تعرف في نظام التقسيم الديني انها حنفية و شافعية و ورد اسم النجارية لاتباع بعض الحنفيين عقائد حسين بن محمد النجار ((951)) .
و ادى النزاع بين الحنفيين والشافعيين الى انفصالهم المحلي في الري و اتحد الحنفيين مع الشيعة في بعض المواطن ضد الشافعيين كما حدث ان الشافعيين ناواوا الحنفيون بسبب انسجامهم مع الشيعة في الـتـصـريح بمودة اهل البيت و من الثابت ان النزاع بين الحنفيين والشافعيين لم يقل عن النزاع بين السنة والشيعة و ينبغي لنا ان نتلمس احدالبواعث على تقدم الشيعة بالري في هذا النزاع المتواصل بين الفريقين المذكورين .
و كـان الـشيعة يترددون على الاوساط العلمية لمناوئيهم يقول عبدالجليل الرازي في هذا المجال : عـندما جا احد الوعاظ من خراسان , ارادوا [الشيعة ] ان يسمعوه ليعرفوامذهبه في اصول الدين هل يشبه مذهب هؤلا المجبرة او لا ؟ و ما هي عقيدته في حب امير المؤمنين و آله ؟ و اذا كان حنفيا, فهل هو كرامي او معتزلي او نجاري ((952)) ؟.
و يـذهب الى ان الشافعيين والحنفيين كانوا ياتون الى المجالس الشيعية ايضا, و يقول :في اي يوم من ايـام الاثـنـيـن ((953)) لم يحضر مجلسنا و يسمعه من منشدي المناقب والعلما و اهل السوق من الـحـنـفـيـيـن والشافعيين عشرة او عشرون او خمسون او خمسمائة منهم ايضا ((954)) .
و كان بعض الحنفيين والشافعيين في الري يقيمون مراسيم العزا في يوم عاشورا ((955)) و يمكن ان يـشـكل هذا التوجه نموذجا على محبة كلتا الطائفتين لاهل البيت , مما يمثل حلقة وصل تربطهما بالشيعة كما ان العلما والملوك من الحنفيين والشافعيين كانوا يذهبون لزيارة السيدة فاطمة بنت الامام موسى الكاظم ـ عليهماالسلام ـفي قم , و كذلك كانوا يزورون مراقد العلويين في الري ((956)) .
و كـانـت حـوادث كـثـيـرة ترافق النزاع القائم بين الحنفيين والشافعيين في الري و قد انعكست نـزاعـاتـهـم فـي الاثار التاريخية ايضا و ذكر عبدالجليل امثلة من نزاعاتهم الفكرية في المسائل الاعتقادية , تلك النزاعات التي كانت تفضي الى تدخل السلطان السلجوقي احيانا ((957)) .
و كـانـت هـذه الـخـلافات تحوم حول مسالة خلق القرآن ردحا من الزمن و يرى المقدسي ان هذه المسالة كانت المحور الاصلي للخلافات الفكرية في الري ابان القرن الرابع ((958)) و كذلك كان الاتجاه الجبري عند الشافعية , و الاتجاه العقلي عند الحنفية مثار نزاع بينهما برهة من الزمن .
و كـان لكل فرقة من الفرق الموجودة في الري مسجد جامع خاص و قال عبدالجليل :((و لم يصل الحنفيون في جامع روده قط, كما لم ياتموا بامام الاشاعرة هناك و اجمع الاشاعرة على عدم الصلاة جـمـاعـة فـي مساجد الحنفيين و افتى علما الطائفتين بعدم جواز الائتمام في صلاة كل منهما)) و ((لـمـا كان الحنفي لا ياتم بالشافعي , و كان الشافعي يحرم الاقتدا بالحنفي , فكذلك الشيعة , اذ كانوا يصلون وحدهم ((959)) )).
و هـكـذا يـنـبغي الالتفات الى ان الخلافات الناشبة بين الفرق السنية كانت عاملا محليافي تقليص نـفـوذهـا, و تـفـوق الشيعة عليها, مضافا الى ما عرضناه قبل ذلك من بواعث على التغلغل التدريجي للشيعة في الري .
و نـص الـقزويني على النزعات القائمة بين الحنفيين و الشافعيين في القرن السابع الهجري و قال : اهـل الـري شـافعية و حنفية و اصحاب الشافعي اقل عددا من اصحاب ابي حنيفة والعصبية واقعة بينهم حتى ادت الى الحروب , و كان الظفر لاصحاب الشافعي في جميعها مع قلة عددهم ((960)) .
ونـلاحـظ في هذه العبارة ان نقطتين قد غفل عنهما: احداهما التغاضي عن موقع الشيعة المتفوق في الـري و الاخرى , يبدو ان سهوا قد حصل في عرض الشافعيين على ا نهم هم المنتصرون , ذلك ان اي اثر لم يبق لهم في الري بعد مدة قليلة .
و عرض لنا ياقوت الحموي معلومات مفصلة عن الوضع الديني للري ـ و لعل القزويني نقل قسما منها ـ و قال : كان اهل المدينة ثلاث طوائف : شافعية و هم الاقل ,و حنفية و هم الاكثر, و شيعة و هم الـسـواد الاعـظم لان اهل البلد كان نصفهم شيعة , و قليل من الحنفيين , و لم يكن فيهم من الشافعية احد ((961)) .
و نقرا بعد ذلك تحليلا ذكره ياقوت لهذا الوضع , فقال : فوقعت العصبية بين السنة و الشيعة , فتظافر عليهم الحنفية و الشافعية , و طالت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف فلما افنوهم , وقـعت العصبية بين الحنفية والشافعية , و وقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها للشافعية , هذا مـع قـلة عدد الشافعية , الا ان اللّه نصرهم عليهم و كان اهل الرستاق و هم حنفية يجيئون الى البلد بـالسلاح الشاك و يساعدون اهل نحلتهم , فلم يغنهم ذلك شيئا حتى افنوهم فهذه المحال الخراب هي مـحـال الشيعة والحنفية و بقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية , و هي اصغر محال الري و لم يبق مـن الشيعة الا من يخفي مذهبه , و وجدت دورهم كلها مبنية تحت الارض , و دروبهم التي يسلك بها الى دورهم على غاية الظلمة و صعوبة المسلك فعلوا ذلك لكثرة ما يطرقهم من العساكر بالغارات و لولا ذلك لما بقي فيها احد ((962)) .
ان مـا حـدث عمليا هو بقا الشيعة في الري اقويا لم يتزعزعوا و نقرا ان الحنفية ايضاقد ثبتوا في بعض القرى الى فترة معينة اما الشافعية فلم يبق منهم اثر هناك .
و نـعلم ان كتابا بعنوان اسرارالامامة ا لفه عماد الدين حسن الطبري بالري نزولا عندرغبة اهلها سنة 698 ه , و هو باللغة الفارسية ((963)) .
و قال المستوفي (المتوفى في حدود سنة 750 ) عن الدمار الذي لحق مدينة الري :((تخاصم اهل الـمدينة على حجر, فقتل ما ينيف على مائة الف منهم , و لحق الدمار التام حاضرتهم و دمرت المدينة برمتها ايام المغول و في عهد غازان خان , شيد الملك فخرالدين رئى فيها بناية بامر يرليغ درواندك و اسكن فيها جماعة ((964)) )).
و تـحـدث عـن الـوضـع الـديـنـي للمدينة و قال : و اهل المدينة و اكثرالولايات التابعة لهاشيعة اثـناعشرية الا قرية قوهه ((965)) , و عددا من المواضع الاخرى , فان اهلها كانواحنفية و لهذا الـسبب كان اهل تلك الولاية يسمونها: قوهه خران [قوهة الحمير]و اخذت الري تسير نحو العد الـتـنـازلـي بعد غزو المغول الذي قيل عنه ((ان سبعمائة الف من اهل المدينة والولاية قد قتلوا و اسروا فيه ((966)) )).
و لـم تـسترجع المدينة حتى الفترة الاخيرة عظمتها و ابهتها التي كانت عليها في العصرالبويهي و السلجوقي .