نظرا لكثرة ما رواه أبو هريرة من أحاديث، فقد ارتأيت إلقاء بعض الضوء على شخصيته، حيث أجمع رجال الحديث على أن أبي هريرة كان أكثر الصحابة حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، على حين أنه لم يصاحب النبي (صلى الله عليه وآله) إلا عاما وتسعة أشهر - أو ثلاثة أعوام حسب بعض الروايات - وقد احتوت صحاح أهل السنة على 5374 حديثا روى منها البخاري 446 حديثا.
أما أبو هريرة نفسه فيقول : " ما من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمر، فإنه كان يكتب ولا أكتب " (1)، وكل ما رواه ابن عمر 722 حديثا، لم يخرج منها البخاري سوى سبعة أحاديث، ومسلم 20 حديثا.
وأما سبب كثرة مصاحبة أبو هريرة للرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد أجاب هو نفسه عن ذلك عندما قال: " يقولون أن أبا هريرة يكثر والله الموعد، ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه ؟ وإن أخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن أخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ملئ بطني. فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون "(2).
" إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشبع بطني حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة.
وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطمعني، وكان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى أن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها "(3).
وقد عبر أبو هريرة عن تقديره لتصدق جعفر بن أبي طالب عليه بالطعام بأنه قال فيه: " ما احتذى بالنعال ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب (4) ".
فما هو المعيار الذي اعتبره أبو هريرة بتفضيله جعفر بن أبي طالب على جميع الصحابة ؟
وقد روى مسلم في صحيحه أن عمر بن الخطاب ضرب أبا هريرة لما سمعه يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): - من قال لا إله إلا الله دخل الجنة(5)-، وروى ابن عبد البر عن أبي هريرة نفسه قال: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة(6).
وقال الفقيه المحدث رشيد رضا: " لو طال عمر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة"(7)، وقال مصطفى صادق الرافعي: "... فكان بذلك - يعني أبو هريرة - أول راوية اتهم في الإسلام "(8).
وعند حدوث معركة صفين، فقد كان تشيع أبو هريرة لمعاوية، وقد كوفي على حسن روايته للحديث ومناصرته لهم بأن أغدقوا عليه، فكان مروان بن الحكم ينيبه عنه في ولاية المدينة، فتحولت أحواله من حال إلى حال، وقد روي عن أيوب بن محمد أنه قال: "كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان؟ لقد رأيتني وإني لآخر فيما بين منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى حجرة عائشة مغشيا علي، فيجئ الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع " (9).
وما يرتبط بتشيعه لبني أمية كتمانه لبعض حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن روايته لها ستعرض حياته للموت، فعن أبي هريرة نفسه قال: "حفظت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم"(10).
وأين هذا من قول أبي هريرة نفسه: "إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو - (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)(11).
ومن خلال هذه الأدلة الدامغة تتبين حقيقة أبو هريرة وأمانته في رواية الحديث، والتي تجعل منه شبيها بوعاظ السلاطين في زماننا، ويتضح سبب إعراض الشيعة عن رواياته، وبما يصلح أن يكون ردا على مغالاة أهل السنة بقبول أحاديث أبي هريرة، وطعنهم في كل من يوجه إليه النقد.
ففي اختصار علوم الحديث، قال ابن حنبل وأبو بكر الحميدي وأبو بكر الصيرفي: "لا نقبل رواية من كذب في أحاديث رسول الله وإن تاب عن الكذب بعد ذلك"(12)، وقال السمعاني: "من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه"(13).
ونعرض فيما يلي بعضا من روايات أبي هريرة والتي أخرجها البخاري في صحيحه، نبدأ بزعم أبي هريرة بأن موسى (عليه السلام) قد فقأ عين ملك الموت! فعن أبي هريرة قال: "أرسل ملك الموت إلى موسى (عليهما السلام)، فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر"(14).
وعن أبي هريرة قال: "يقال لجهنم هل امتلأت، وتقول هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط "(15).
وعن أبي هريرة قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟"(16).
والرواية الأخيرة تتناقض مع ما يعتقده أهل السنة من استقرار الله جل وعلا على العرش، فنزوله إلى السماء الدنيا في آخر الليل - كما يزعم أبو هريرة - يعني بقائه فيها طوال الـ 24 ساعة من الليل والنهار لدوام وجود وقت آخر الليل على الأرض ولكن في بقع مختلفة نظرا لكروية الأرض!! ترى لو كان أبو هريرة يعلم بكروية الأرض، فهل كان ليروي مثل هذه الروايات؟
وعن أبي هريرة أيضا قال: "قال النبي (صلى الله عليه وآله): كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمع موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس: وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا. فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر"(17).
وعن أبي هريرة أيضا: "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء، أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى"(18).
وعن أبي هريرة أيضا قال: "قال النبي (صلى الله عليه وآله): بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا. خلقت للحراثة، قال: آمنت به وأبو بكر وعمر. وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي، فقال الذئب: من لها يوم السبع؟ يوم لا راعي لها غيري؟ قال: آمنت به أنا وأبو بكر وعمر. قال أبو سلمة: وما هما يومئذ في القوم"(19).
والحقيقة أن الأحاديث السابقة من الإسرائيليات التي أكثر أبو هريرة من روايتها، وذلك يرجع لكثرة ملازمته لكعب الأحبار اليهودي الذي تظاهر باعتناقه الإسلام.
وعن دخول الجنة، فقد روي عن أبي هريرة قوله: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفا تضئ وجوههم إضاءة القمر، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، قال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يجعلني منهم . فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سبقك عكاشة"(20).
وعن أبي هريرة أيضا قال: "بينما نحن عند النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال: بينما أنا نائم، رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبرا. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله"(21).
ونختتم روايات أبي هريرة ببعض الفتاوى، التي رويت عنه منسوبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له حذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح"(22)، وأما الفتوى الأخرى عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعا، أو ليحفهما جميعا"(23).
_________________________
1- صحيح البخاري ج 1 ص 86 كتاب العلم.
2- صحيح البخاري ج 3 ص 313 كتاب المزارعة باب ما جاء في الفرس.
3- صحيح البخاري ج 5 ص 47 كتاب فضائل الصحابة باب مناقب جعفر بن أبي طالب.
4- أخرجه الترمذي ج 13 ص 189، ط دار الكتاب العربي بيروت، والحاكم بإسناد صحيح.
5- صحيح مسلم ج 1 ص 201 باب من شهد لا إله إلا الله مستيقنا دخل الجنة.
6- فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 41 ط السادسة.
7- مجلة المنار ج 10 ص 851.
8- تاريخ آداب العرب ج 1 ص 278.
9- صحيح البخاري ج 9 ص 317 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما ذكر النبي على اتفاق أهل العلم.
10- صحيح البخاري ج 1 ص 89 كتاب العلم باب حفظ العلم.
11- صحيح البخاري ج 1 ص 88 كتاب العلم باب حفظ العلم.
12- اختصار علوم الحديث ص 111.
13- التقريب للنووي ص 14.
14- صحيح البخاري ج 2 ص 236 كتاب الجنائز.
15- صحيح البخاري ج 6 ص 353 كتاب التفسير باب قوله - وهل من مزيد -.
16- صحيح البخاري ج 2 ص 136 كتاب التهجد.
17- صحيح البخاري ج 1 ص 169 كتاب الغسل باب من اغتسل عريانا وحده في خلوة.
18- صحيح البخاري ج 1 ص 336 كتاب الأذان باب فضل التأذين.
19- صحيح البخاري ج 3 ص 297 كتاب المزارعة باب استعمال البقر للحراثة.
20- صحيح البخاري ج 7 ص 473 كتاب اللباس باب البرود والحبر والشملة.
21- صحيح البخاري ج 4 ص 306 كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنة.
22- صحيح البخاري ج 9 ص 18 كتاب الديات باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان.
23- صحيح البخاري ج 7 ص 496 كتاب اللباس باب لا يمشي في نعل واحدة.