مناظرة الشيخ المفيد « ره » مع القاضي أبي بكر بن سيّار
قال السيّد المرتضى ـ رضي الله عنه ـ في كتاب الفصول : اتّفق للشيخ أبي عبد الله المفيد ـ رحمة الله عليه ـ اتّفاق مع القاضي أبي بكر أحمد بن سيّار في دار الشريف أبي عبد الله محمد بن محمد بن طاهر الموسوي ـ رضي الله عنه ـ ، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على مائة إنسان ، وفيهم أشراف من بني علي وبني العبّاس ومن وجوه الناس والتجّار حضروا في قضاء حقّ الشريف ـ رحمه الله ـ ، فجرى من جماعة من القوم خوض في ذكر النصّ على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، وتكلّم الشيخ أبو عبد الله ـ أيّده الله ـ في ذلك بكلام يسير على ما اقتضته الحال. فقال له القاضي أبو بكر ابن سيّار : خبّرني ما النصّ في الحقيقة ؟ وما معنى هذه اللّفظة ؟ فقال الشيخ : أيّده الله ـ : النصّ هو الاظهار والابانة ، من ذلك قولهم : فلان قد نصّ قلوصه (1) : إذا أبانها بالسير ، وأبرزها من جملة الابل ، ولذلك سميّ المفرش العالي « منصّة » لانّ الجالس عليه يبيّن بالظهور من الجماعة ، فلمّا أظهره المفرش سميّ منصّة على ما ذكرناه ، ومن ذلك أيضا قولهم : قد نصّ فلان مذهبه : إذا أظهره وأبانه ، ومنه قول الشاعر :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش (2) *** إذا هي نصّتــه ولا بمعطّــل
يريد إذا هي أظهرته ، وقد قيل : نصبته ، والمعنى في هذا يرجع إلى الاظهار ، فأمّا هذه اللّفظة فإنّها قد جعلت مستعملة في الشريعة على المعنى الّذي قدّمت ، ومتى أردت حدّ المعنى منها قلت : حقيقة النصّ هو القول المنبئ عن المقول فيه على سبيل الاظهار. فقال القاضي : ما أحسن ما قلت ! ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت ، فخبّرني الان إذا كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد نصّ على إمامة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فقد أظهر فرض طاعته ، وإذا أظهره استحال أن يكون مخفيّا ، فما بالنا لا نعلمه إن كان الامر على ماذكرت في حدّ النصّ وحقيقته ؟ فقال الشيخ ـ أيّده الله ـ : أمّا الاظهار من النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقد وقع ولم يك خافيا في حال ظهوره ، وكلّ من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه ولا اشتبه عليه ، وأمّا سؤالك عن علّة فقدك العلم به الان وفي هذا الزمان فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول الشبهة عليك في طريقه ، لعدولك عن وجه النظر في الدليل المفضي بك إلى حقيقته ، ولو تأمّلت الحجّة فيه بعين الانصاف لعلمته ، ولو كنت حاضرا في وقت إظهار النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ له لمّا أخللت بعلمه ، ولكنّ العلّة في ذهابك عن اليقين فيه ما وصفناه. فقال : وهل يجوز أن يظهر النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ شيئا في زمانه فيخفى عمّن ينشأ بعد وفاته حتّى لا يعلمه إلاّ بنظر ثاقب واستدلال عليه ؟ فقال الشيخ ـ أيّده الله تعالى ـ : نعم يجوز ذلك ، بل لا بدّ منه لمن غاب عن المقام في علم ما كان منه إلى النظر والاستدلال ، وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار لانّه من جملة الغائبات ، غير أنّ الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض والظهور والصعوبة والسهولة على حسب الاسباب المعترضات في طرقه ، وربّما عرى طريق ذلك من سبب فيعلم بيسير من الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار (3) ، إلاّ أنَّ طريق النصّ حصل فيه من الشبهات للاسباب الّتي اعترضته ما يتعذّر معها العلم به إلاّ بعد نظر ثاقب وطول زمان في الاستدلال (4). فقال : فإذا كان الامر على ما وصفت فما أنكرت أن يكون النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد نصّ على نبيّ آخر معه في زمانه ، أو نبيّ يقوم من بعده مقامه ، وأظهر ذلك وشهّره على حدّ ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فذهب عنّا علم ذلك كما ذهب عنّا علم النصّ وأسبابه ؟ فقال له الشيخ ـ أيّده الله ـ : أنكرت ذلك من قبل أنّ العلم حاصل لي ولكلّ مقرّ بالشرع ومنكر له بكذب من ادّعى ذلك على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، ولو كان ذلك حقّا لما عمّ الجميع على بطلانه وكذب مدّعيه ومضيفه إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (5) ، ولو تعرّى بعض العقلاء من سامعي الاخبار عن علم ذلك لاحتجت في إفساده إلى تكلّف دليل غير ما وصفت ، لكنّ الّذي ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره فإن كان النصّ على الامامة نظيره فيجب أن يعمّ العلم ببطلانه جميع سامعي الاخبار حتّى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان ، وفي تنازع الامّة فيه واعتقاد جماعة صحّته والعلم به ، واعتقاد جماعة بطلانه دليل على فرق ما بينه وبين ما عارضت به. ثمَّ قال له الشيخ ـ أدام الله حراسته ـ : ألا أنصف القاضي من نفسه والتزم ما ألزمه خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به ؟ ففصّل بينه وبين خصومه في قوله : إنَّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قد نصّ على رجم الزاني وفعله ، وموضع قطع السارق وفعله ، وعلى صفة الطهارة والصلاة وحدود الصوم والحجّ والزكاة وفعل ذلك وبيّنه وكرّره وشهره ، ثمّ التنازع موجود في ذلك ، وإنّما يعلم الحقّ فيه وما عليه العمل من غيره بضرب من الاستدلال ، بل في قوله : إنّ انشقاق القمر لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان ظاهرا في حياته ومشهورا في عصره وزمانه ، وقد أنكر ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من أهل الملل والملحدة ، وزعموا أنّ ذلك من توليد أصحاب السير ومؤلّفي المغازي وناقلي الاثار ، وليس يمكننا أن ندَّعي على من خالفنا فيما ذكرنا علم الاضطرار وإنّما نعتمد على غلطهم في الاستدلال ، فما يؤمنه أن يكون النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد نصّ على نبيّ من بعده وإن عرى من العلم بذلك على سبيل الاضطرار ، وبم يدفع أن يكون قد حصلت شبهات حالت بينه وبين العلم بذلك كما حصل لخصومه فيما عددناه ووصفناه ، وهذا ما لا فصل فيه. فقال له : ليس يشبه النصّ على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ جميع ما ذكرت ، لانّ فرض النصّ عندك فرض عامّ ، وما وقع فيه الاختلاف فيما قدّمت فروض خاصّة ، ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف. فقال الشيخ ـ أيّده الله ـ : فقد انتقض الان جميع ما اعتمدته ، وبان فساده ، واحتجت في الاعتماد إلى غيره ، وذلك أنّك جعلت موجب العلم وسبب ارتفاع الخلاف ظهور الشيء في زمان ما واشتهاره بين الملا ، ولم تضمَّ إلى ذلك غيره ولا شرطت فيه موصوفا سواه ، فلمّا نقضناه عليك ووضح عندك دماره عدلت إلى التعلّق بعموم الفرض وخصوصه ، ولم يك هذا جاريا فيما سلف ، والزيادة في الاعتلال انقطاع ، والانتقال من اعتماد إلى اعتماد أيضا انقطاع ، على أنّه ما الّذي يؤمنك أن ينصّ على نبيّ يحفظ شرعه فيكون فرض العمل به خاصّا في العبادة كما كان الفرض فيما عددناه خاصّا ، فهل فيها من فصل يعقل ؟ فلم يأت بشيء تجب حكايته (6).
____________
(1) القلوص من الابل : الطويلة القوائم الشابة منها أو الباقية على السير.
(2) الريم : الظبى الخالص البياض.
(3) أي على وجه يشبه العلم الضروري والبديهي.
(4) وأهم الاسباب شدة إخفاء الخلفاء ومن بيدهم السلطة والقدرة ذلك ، وشدة النكير على من كان يظهره ، وخوف الناقلين منهم ، ولولا أن قيض الله سبحانه رجالاً لم تأخذهم لومة لائم لكان يجب عادة أن لا يكون من ذلك عين ولا أثر ، ويكون ذلك نسيا منسيا ، ويكون الاضطرار بخلافه.
(5) والحاصل أن العلم ببطلان ذلك ضروري من الامة ، وحصول العلم الضروري لهم في ذلك دون مسألة الامامة لعدم الدواعي على الاخفاء والكتمان فيه.
(6) بحار الانوار ج10 ص408 ح2 ( مع هوامشها ) ، الفصول المختارة ج1 ص1 ـ 4.