لا اعتقد أن ثمة اكتشافاً كبيراً في الحديث عن حب الإنسان لموطنه ومسقط رأسه، أو عشقه للأرض التي ترعرع فيها واحتضنت طفولته وكل الذكريات، أو انجذابه وحنينه للمنازل التي عاش في ربوعها وتفيأ ظلالها وسقاها من عرقه ودمه فحملت بصماته وحمل بصماتها. بل إن هذا التفاعل العاطفي مع ذلك كله هو أمر طبيعي يحاكي إنسانية الإنسان وينسجم مع تطلعاته الفطرية، ولذا كان طبيعياً جداً أن نجد هذه المشاعر النبيلة والعواطف الجياشة تجاه الأوطان لدى الأنبياء والمرسلين دون أن يخدش ذلك في إيمانهم قيد أنملة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله هاجر إلى المدينة واستوطن فيها لكنه كان يعيش الحنين إلى مكة وربوعها وأهلها (وكان إذا أتاه آتٍ من مكة يسأله صلى الله عليه وآله عن أرضها وعن أزهارها ومياهها ويتشوق إليها ويقول هي مسقط رأسي).
الحنين إلى الأوطان:
وفي ضوء ذلك لا يكون مستغرباً اعتبار حنين الإنسان وشوقه إلى موطنه علامة على اتصافه بمكارم الأخلاق، ففي الحديث المروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه وحنينه إلى أوطانه وحفظه قديم إخوانه)، وقد انتشر بين الفقهاء فضلاً عن الشعراء شعر الحنين إلى الأوطان، ومن ذلك ما نقل عن الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني إذ نظم شوقاً إلى موطنه:
طول اغترابي بفرط الشوق أضناني والبين في غمرات الوجد ألقاني
يا بارقاً من نواحي الحي عارضني إليك عني فقد هيّجت أشجاني
فما رأيتك في الآفاق معترضاً إلاّ وذكرّتني أهلي وأوطاني
ولا سمعت شجا الورقاء نائحة في الأيك إلاّ وشبّت منه نيراني
كم ليلة من ليالي البين بتّ بها أرعى النجوم بطرفي وهي ترعاني
ويا نسيماً سرى من حيّهم سَحَراً في طيّه نشر ذاك الرند والبان
الاهتمام بحب الأوطان:
إن العلاقة العاطفية بالأوطان واعتبار الشوق إليها مكرمة من مكارم الأخلاق ومعاليها تُشّكل في حقيقة الأمر دافعاً للاهتمام بها ورعايتها والعمل في سبيل إعمارها وإحيائها والحرص على جمالها ونظافتها، وهذا ما عبّرت عنه الكلمة المروية عن الإمام علي عليه السلام: (عُمّرت البلدان بحب الأوطان).
إن حب الأوطان عندما يكون حباً واعياً ودافعاً للحفاظ عليها والدفاع عنها بوجه المعتدين والطامعين ومحرِّكاً نحو عمارتها مادياً ـ بإحيائها وزراعتها وتشييدها ـ ومعنوياً ـ بالعمل على إحقاق الحق في ربوعها ونشر القيم الدينية والأخلاقية بين أهلها ـ إنّ مثل هذا الحب هو فعل إيمان وتديّن يثاب المرء عليه، كما يثاب على كل الأعمال الصالحة والعبادية. وهذا هو المعنى الصحيح للوطنية ومحبة الأوطان، أما إذا تحوّلت الوطنية إلى حالة انغلاق على الذات واستعداءٍ للغير فإنها تغدو عنصرية مقيتة ومذمومة.