عربي
Thursday 4th of July 2024
0
نفر 0

طوفان الوجد

طوفان الوجد
للقاص الدكتور عبد المجيد فرج الله


تدلّت على شفتيه بقايا حروف ، فجّرت في قلبه الملهوف أمواجاً من صخب الأشواق .. فراحت فراشات الحب تتطاير في مدى نبضاته المضطربة بانتظار شيء مجهول .
هذا القلب الذي يحمل عبء الحب مرّتين ، يتفشّى في ذراته الوجع العشقي فيتوقد ذائباً منهوم الخفقان ... وهذه السنوات الممتدة حتى أول لحظة من حياته الحقيقية ، التي ابتدأتها اول ما ابتدأتها لمسةُ حبّ ، كانت تمخر في طوفان من الوفاء والجوى ، والأُمنيات المتكسرة على وجه الصخر المالح .
الحبّ أصدق شيء يُـنبئ عنّا ؛ فهو الوحيد الذي نُدخله أعماقنا بكل قوة ، وبكل صدق وحنان ، ليتطلّع في أرجاء الوجدان ، التي ربّما نجهلها نحن - أصحابها - فيرمّمها ويبنيها وينثر في تربتها خصب الحياة ...
اختناق مجنون يضغط على أعصاب الرجل بأعمدةٍ من نار ، ألقاه خارج الدار لعله يجد متنفساً في الأزقّة المرشوشة بذكريات أحبّ الناس إليه .

كانت البيوت صامتة واجمة ، وكأنّها تتكتّم على شيء .. ومع أنّه لا يستطيع الرؤية إلاّ بقلبه ، فإنه استشفَّ حزناً غريباً بادياً على حفيف الأنسام وأصداء النبرات الكابية .
انقبض قلبه من هذا الذي يراه .
وراح يسأل مَن يسلّم عليه عمّا جرى ... لكن لم يعثر على جواب شافٍ في طيّات اللغط الممتزج بالحيرة والانكسار .

استولى رفيف القلب المحبّ على مراحل الطريق الوعرة ، وهو يشد أعصابه المنهكة بسفر طويل ، على حسرات متقطعة النشيج والأسى ...
على أن الأشواق تختزل الزمن والمسافات ، في الوقت الذي تمطّهما حتى كأنهما كوكبان ، واحد في يمين الكون والآخر في أقصى الشمال .
طالت المراحل ، واستطالت معها معاناة السفر الصحراوي ، على ظهور الجمال اليابسة ، ولولا الذكريات الجميلة لما استطاع الوصول إلى هذه البلاد البعيدة النائية ..
توقف وصاحباه على مشارف أوّل المنازل ، وسأل بشوق :
ــ يا فتى .. بالله عليك .. أتعرف مَن أنا ؟
ــ أجل يا عمّاه ، كيف لا ، وأنت الطيّب حبيب الطيبين ؟
ــ إذن .. أصدقني .. ماذا جرى لحبيبي ؟
تقطعت الحروف على دموعٍ خافتةِ التعبير ، منهمرةٍ على خد ذابل ..
فابتدره الرجل مرةً أُخرى :
ــ ويحك يا فتى ... تكلّمْ .. هل اختطفه القدر ؟
أجاب الفتى بصوتٍ مرتعشٍ جديد :
ــ كلاّ يا عم .. إن حبيبك هو الذي اختطف القدر .
* * *
كانت برودة التراب متعاكسة تماماً مع حرارة كفه المعروقة ، فيما ظلت الدموع القديمة الجديدة تنهمر باحتراق على خدّه المجعّد العجوز .
كان ينادي بصوت رقيق الحزن ، شفاف اللوعة ، باسم حبيبه الهانئ في ظلال الخلد .. ولم تكن بين ثغره اليابس النداء وبين قلب الحبيب الجريح سوى أشبار من التراب البارد .
شهق شهقة رابعة .. لكنّه هذه المرّة لم يفقد وعيه .. وتساءل بحرقة الجازعين :
ـ يا حبيبي ... نورَ قلبي ... آه .. حبيبٌ لا يجيب حبيبه ؟ وأنّى لكَ الجواب ، وقد شخبت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين رأسك وبدنك ؟..

سرعان ما التقت القلوب المتألقةُ بالحبّ على هذا الثرى الرطب ، وهي تبكي المرفرف بروحه على الأشواق الملتهبة ...
كان ابن الحبيب الذي وصل توّاً ، يمسح دموع هذا الرجل ، بدموعه الخليطة بذكريات المأساة ، وهو يهمس في أُذنه ، بعد دهرٍ طويلٍ من الغربة ، بعيداً عن الناس والأفئدة :
ـ يا عم يا جابر : ها هنا قُـتلت رجالنا ... يا عم يا جابر : هاهنا ذُبحت أطفالنا .. يا عم يا جابر : هاهنا سُبيتْ نساؤنا .
تعانقت الدموع ..
وتصافح الأسى ...
ومع أن ذكريات المأساةِ لم تهدأ يوماً في قلب هذا الرجل البصير ، إلا أنّ الحب استمر بالفورة ذاتها مع الابن الحبيب ، وهو يضع قلب الإمامة على قلبه الذي يحمل عبء الحب مرتين ...

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة
حرم الحجاج
فدونكم آل النبي فرائدا
القصيدة المقبولة
مقطع من قصيدة السيّد الحميري
وقف الزمان على ضريحك سائلا
قمر العشيرة
إلى أبي تراب
هوسات فی حق قائد معسکر کربلا قمرالعشیره ابو ...
شعر حول الغدیر

 
user comment