طوفان الوجد
للقاص الدكتور عبد المجيد فرج الله
تدلّت على شفتيه بقايا حروف ، فجّرت في قلبه الملهوف أمواجاً من صخب الأشواق .. فراحت فراشات الحب تتطاير في مدى نبضاته المضطربة بانتظار شيء مجهول .
هذا القلب الذي يحمل عبء الحب مرّتين ، يتفشّى في ذراته الوجع العشقي فيتوقد ذائباً منهوم الخفقان ... وهذه السنوات الممتدة حتى أول لحظة من حياته الحقيقية ، التي ابتدأتها اول ما ابتدأتها لمسةُ حبّ ، كانت تمخر في طوفان من الوفاء والجوى ، والأُمنيات المتكسرة على وجه الصخر المالح .
الحبّ أصدق شيء يُـنبئ عنّا ؛ فهو الوحيد الذي نُدخله أعماقنا بكل قوة ، وبكل صدق وحنان ، ليتطلّع في أرجاء الوجدان ، التي ربّما نجهلها نحن - أصحابها - فيرمّمها ويبنيها وينثر في تربتها خصب الحياة ...
اختناق مجنون يضغط على أعصاب الرجل بأعمدةٍ من نار ، ألقاه خارج الدار لعله يجد متنفساً في الأزقّة المرشوشة بذكريات أحبّ الناس إليه .
كانت البيوت صامتة واجمة ، وكأنّها تتكتّم على شيء .. ومع أنّه لا يستطيع الرؤية إلاّ بقلبه ، فإنه استشفَّ حزناً غريباً بادياً على حفيف الأنسام وأصداء النبرات الكابية .
انقبض قلبه من هذا الذي يراه .
وراح يسأل مَن يسلّم عليه عمّا جرى ... لكن لم يعثر على جواب شافٍ في طيّات اللغط الممتزج بالحيرة والانكسار .
استولى رفيف القلب المحبّ على مراحل الطريق الوعرة ، وهو يشد أعصابه المنهكة بسفر طويل ، على حسرات متقطعة النشيج والأسى ...
على أن الأشواق تختزل الزمن والمسافات ، في الوقت الذي تمطّهما حتى كأنهما كوكبان ، واحد في يمين الكون والآخر في أقصى الشمال .
طالت المراحل ، واستطالت معها معاناة السفر الصحراوي ، على ظهور الجمال اليابسة ، ولولا الذكريات الجميلة لما استطاع الوصول إلى هذه البلاد البعيدة النائية ..
توقف وصاحباه على مشارف أوّل المنازل ، وسأل بشوق :
ــ يا فتى .. بالله عليك .. أتعرف مَن أنا ؟
ــ أجل يا عمّاه ، كيف لا ، وأنت الطيّب حبيب الطيبين ؟
ــ إذن .. أصدقني .. ماذا جرى لحبيبي ؟
تقطعت الحروف على دموعٍ خافتةِ التعبير ، منهمرةٍ على خد ذابل ..
فابتدره الرجل مرةً أُخرى :
ــ ويحك يا فتى ... تكلّمْ .. هل اختطفه القدر ؟
أجاب الفتى بصوتٍ مرتعشٍ جديد :
ــ كلاّ يا عم .. إن حبيبك هو الذي اختطف القدر .
* * *
كانت برودة التراب متعاكسة تماماً مع حرارة كفه المعروقة ، فيما ظلت الدموع القديمة الجديدة تنهمر باحتراق على خدّه المجعّد العجوز .
كان ينادي بصوت رقيق الحزن ، شفاف اللوعة ، باسم حبيبه الهانئ في ظلال الخلد .. ولم تكن بين ثغره اليابس النداء وبين قلب الحبيب الجريح سوى أشبار من التراب البارد .
شهق شهقة رابعة .. لكنّه هذه المرّة لم يفقد وعيه .. وتساءل بحرقة الجازعين :
ـ يا حبيبي ... نورَ قلبي ... آه .. حبيبٌ لا يجيب حبيبه ؟ وأنّى لكَ الجواب ، وقد شخبت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين رأسك وبدنك ؟..
سرعان ما التقت القلوب المتألقةُ بالحبّ على هذا الثرى الرطب ، وهي تبكي المرفرف بروحه على الأشواق الملتهبة ...
كان ابن الحبيب الذي وصل توّاً ، يمسح دموع هذا الرجل ، بدموعه الخليطة بذكريات المأساة ، وهو يهمس في أُذنه ، بعد دهرٍ طويلٍ من الغربة ، بعيداً عن الناس والأفئدة :
ـ يا عم يا جابر : ها هنا قُـتلت رجالنا ... يا عم يا جابر : هاهنا ذُبحت أطفالنا .. يا عم يا جابر : هاهنا سُبيتْ نساؤنا .
تعانقت الدموع ..
وتصافح الأسى ...
ومع أن ذكريات المأساةِ لم تهدأ يوماً في قلب هذا الرجل البصير ، إلا أنّ الحب استمر بالفورة ذاتها مع الابن الحبيب ، وهو يضع قلب الإمامة على قلبه الذي يحمل عبء الحب مرتين ...