والتحق بركب النهار
للقاص الدكتور الشيخ عبد المجيد فرج الله
تصفّح ملامحهُ المتموّجة في طيّات الماء الأزرق ، وراحَ يمسحُ شاربيه بزهو كبير ، وهو يتذكّر رعيلاً من بطولات الأمس ، سطّرها على أحداق الأيام .
على طول قامته الممتدة بعيداً على وجه الماء ، كان يراقبُ انحناءات صورته التي سرعان ما بدت مهزوزةً مرتعشة ، وكأنّها أنفاس ضفادع آسنة في مستنقع مسموم .. وما بينَ شاربيه الطويلين ، وصدره المضطرب على صفحات المرآة الزرقاء ، كانت خيول الأمس تعبثُ بحوافرها القاسية ؛ تارةً تمرّغهما بوحل قديم ، وأُخرى تركل صدره المتكسّر ...
تنهّد بكبرياء .. ولملم رداءه بعصبيّة ..
ثمّ استدار راكباً جواده الأبيض قاصداً قلبَ الصحراء الممتدة إلى أجفان عيون الاُفق الغائم .
تلقّفتهُ الكثبانُ الرملية ، وهو غائر بفرسه بعيداً عن جنوده المبهورين بشجاعته وفروسيّته وقامته الطويلة الممتلئة وبريق عينيه السوداوين .
كانت الشمسُ الصغرى قد أشرفت على الغروب ، وفي كلّ لحظةٍ يستطيلُ ظلُّه على وجع الكثبان الرملية ...
توقّف حتى غابت ، وهو يتأمّل انكسارات ظلّه القاتمة ...
إنّه الظلام ، يتسلّلُ خلف عروق الشمس ، ليقتطع العالم عن نورها الجميل .. وغطَّ في تفكير عميق .
إنّه يواجه ظلامين ، ويفارق شمسين ، وليس إلاّ هذه الليلة .
ترى إلى أيّ مآل تصير الأُمور ؟
أحسّ بشاربيهِ يتآزران مع الظلامين القاسيين ، فيطوّقان عنقه الغليظة ، لعلَّه ينسى ضياءَ الشمس .
* * *
لم يستطع اعتقال الشمس ، فهي أسمى من أن تعتقل .. لكنّه حاصر العالم من حولها ، وهي تنطلق مشرقةً حانيةً في الأرجاء ، وبين فينةٍ وأُخرى تجودُ عليه بالتفاتةٍ نديّة ، تنبت مزيداً من العشب والعشق في روحه القائظة ..
هربت من رئتيه عشرات الزفرات ، لتأخذ لها حيّزاً بين اللُهاث المرّ ، فيما ظلّت ألسنة اللهب تستعر في ضلوعه العرجاء .
الشيء العجيبُ الذي أنهك تفكيره ، هو سرُّ خلود الشمس ..
وألفى نفسهُ منبهراً من ضحالة حلك الليل مهما ادلهمّ ، أمام الذاكرة المليئة بخيوط النهار ، مهما تثاقلت وتباطأت ساعات الظلام ..
تركّزت ألوان الصورة في روحه أكثر فأكثر ، متجسّمةً في شبح هزيل ميّت في كلّ ميلاد جديد له ، أمام نور متدفّق البهجة والحياة والعطاء على طول الزمن وعرضه .
أوجعه المشهدُ كثيراً ، وهو يرى حشرات الأرض ، تتجمّع بأعداد هائلة قبيحة ، لتحجب ضياء الشمس المنبعث من خلف نافذة الغروب ، وإلى آخر ساعة من العتمة ، ليلتحق ثانيةً بركب النهار ...
أذهلته المفاجأة وهو يرى نفسه خنفساء مقززة تدورُ حولها ألفُ ذبابةٍ ، هي مجموع فرقته البائسة .
لم تزل الشمس محتفظة بهدوئها وابتسامها الوديع ، فيما راح يتعالى لغطُ الحشرات الغبيّة في دائرة تافهة الصغر ، أمام النور العملاق .
أحسَّ باضطراب كبير يتفجّر هذه المرة من كلّ ذرة في روحه وجسمه ..
انتفض أخيراً ..
حطّم القالب الخنفسائيّ المقزز ، وانطلق إلى الخفّاش الكبير قائلاً :
ــ أمُقاتلٌ أنت هذه الشمس ؟
ــ نعم .. قتالاً أيسَـرُه أن تطيح فيه الرؤوس ، وتتقطّع فيه الأيدي .
ارتعشَ جسمه خاشعاً ، وهو يحدّق بالضوء الباسم .
اقتربت منه حشرة تافهة ، أذهلها العجب من ارتعاشه وهو البطلُ المغوار ، فسألته بتلكّؤ :
ـــ أهـو الجبن يا سيدي ؟ ..
التفت إليها باحتقار ، وقال بغضب :
ــ ويلك ، إنّي أُخيّر نفسي ما بين النور والظلمة ، ما بين الجنة النار .. ويحك كأنّني أرى الجنة ومن ينعّم بها ، وأرى النار ومن يعذّبُ بها ، والله لا أختار عن الجنة بدلاً ...
ثمّ انطلق بفرسه يريد الجانب الآخر من الحياة .
* * *
في محراب الضراعة والتوبة ، انحنى نادماً باكياً معتذراً من غفلته المهزومة ، حينما ظنّ أنّ بإمكانه أن يحاصر الشمس ...
لمسته أشعة دافئة منها .. فنهض مستأذناً ليقاتل على ضوئها هذه الحشرات الغبيّة ، التي لا تستحقُ العيش في النهار ..
استطاع أن يسحق منها أعداداً كثيرة جداً ، لكنّ أعداداً أُخرى استطاعت أن تمزّق جسده بأسنانها السّامّة .
التفت إلى نور الشمس مسلّماً .. فأرسل إليه أشعةً دافئةً حانية ومنحه جناحين ، ليطيرَ بهما في سماء الحرية ، وهو يهمسُ في قلبه :
أنتَ كما سمّتك أُمّك .. حرٌّ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة .