الخصوصية الصوفية للنظرية المهدوية
يُحمد لهذا المؤتمر اليوم حول النظرية المهدوية عدة أمور، لعل أهمّها من وجهة نظرنا ثلاثة: 1. إنّه يطرح مساحةً مشتركةً للحوار واللقاء وتبادل الرؤى في مسألة الخلاص بين المذاهب والأديان والفلسفات والحضارات؛ 2. وهو أيضاً يفتح المجال لأن يمتدّ شعاع البصر إلى المستقبل في سياق تجديدي متفائل، مشبوك بالخوارق والقوى الروحيّة، ويختلف جذريّاً عن مسارات الفكر الإصلاحي السائد منذ أكثر من قرنين؛ 3. كما أنّ المذاكرة في الإمام المهدي تستحثّ الوعي على نقد الواقع، ومحاكمة الدول، لا بالنظر إلى التقدّم والتخلّف وأسباب العمران المادي، بل بالنظر إلى ما تملأ به الواحدةُ منهم الأرضَ من ظلم وعدوان أو من حقّ وعدل.
وبناءً على هذه الفائدة الراهنيّة للموضوع أفتح دواوين محي الدين بن عربي لأصوغ نظريته في الإمام المهدي، وأجعل مداخلتي على أربعة أقسام آمل أن تحيط بالموضوع في حدود المتاح:
القسم الأول. التاريخ قبل الإمام المهدي
1. الإمامة الظاهرة والإمامة الباطنة
يستند ابن عربي إلى حديث نبوي يقول: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير مُلْكاً[1] ليفسّر نشأة دولة الباطن الصوفية في مقابل الدولة الظاهرة. في البدايات ـ وطوال الحكم الراشدي ـ كان الخليفة الحقّ أي المستخلف عن الله هو نفسه الخليفة الظاهر. ولكن، بعد الخليفة الرابع الإمام عليّ كرّم الله وجهه، انشرخ واقع الحكم والسلطة إلى واقعين: واقع ظاهر يحكمه الخليفة الظاهر الذي أخذت خلافته شكل المُلْك المتوارث، وواقع باطن على رأسه الإمام الباطن أو الخليفة الباطن أو القطب وهو الخليفة الحقّ.
وحيث أن فكر ابن عربي مستمدّ من الفضاء السنيّ، نرى أنّه لا يقول بقطيعة بين الخليفتين، بل يخبر بأن الخليفة الباطن يدعم الخليفة الظاهر ويمدّه.
يصوّر في عنقاء مغرب واقعة المبايعة وكيفيّة تداخل الظاهر والباطن فيها، يقول: واعلموا أنّ المبايعة لا تَقع إلا على الشرط المشروط [...] فقد يُبايَع شخص على الإمامة وفي غيره تكون العلامة. فتصحّ المبايعة على الصفات المعقولة [...] فيمدّ عند تلك المبايعة، للخليفة الناقص في ظاهر الجنس، الخليفةُ المطلوب يَدَه من حضرة القدس، فتقع المبايعة عليها من غير أن ينظر ببصره إليها.[2]
ويقول في بلغة الغواص ورقة 60 ـ 61: قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصير مُلْكاً. فإنّه لما ضعف الخليفة الحقّ الذي هو القطب القائم بوراثة النبوّة عن الظهور بها احتجب بالملك الذي هو الخليفة ظاهراً، وأطلق عليه اسمه لبقاء صلاح العالم به، والخليفة الذي هو القطب ناظراً إليه وقائم به وممدّ له بحسب قبوله واستعداده.
إذن، نحن أمام عالمين؛ الظاهر منهما لا يلتفت إلى الباطن، أما الباطن فيدعم الظاهر ويمدّه بحسب قبوله لهذا الإمداد ولهذا العون، لأنه إمداد لا تسيير. ولا تنحصر سلطة الإمام الباطن بإمداد الملك الظاهر بل له الإمامة الكبرى التي تجعله صاحب السلطة الفعلي في الوجود.
2. دولة الباطن
يرسم ابن عربي في الفتوحات المكية ج 2 ص 3 ـ 29 هيكلية دولة الباطن. على رأسها شخص واحد هو القطب أو الإمام الباطن أو الخليفة الباطن وغير ذلك من أسماء، وتضم دولته إمامين [وزيرين] هما إمام اليمين وإمام اليسار، كما تضم أربعة أوتاد يحفظ الله بهم الجهات، وسبعة أبدال يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، وغير ذلك كثير من رجال معدودين [عددهم محصور في الوجود] ورجال لا يحصرهم عددهم رجال المراتب [الملاميّة، العباد، الزهّاد...]. وهذه الدولة الباطنة المستمدة من العطاء الإلهي، بيدها القوّة الحقيقية، ولكن لا حكم لها في الظاهر في حياة البشر العامة.
3. دولة الإمام المهدي
مع تعاقب العصور ازداد خلفاء الظاهر ابتعاداً عن الخليفة الباطن، وامتلأت الأرض ظلماً وعدواناً، وقَتْلاً وفِتَناً.. ويذكر الحديث الشريف أحداث آخر الزمان قبيل قيام الساعة، وخروج المهدي بعد ظهور الظلم والجور في الدنيا وغلبهما على الحق، وأنّه رجل من أهل بيت النبوة من بني فاطمة عليها السلام يواطئ اسمه اسم رسول الله(ص) واسم أبيه اسم أبيه(ص)، يملك الناس ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً.[3]
ويتشارك المسلمون جميعاً الإيمان بخروج المهدي وبقيام دولته، نظراً لما ثبت من الحديث الصحيح. يقول ابن عربي: إن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً، لولم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد طوّل الله ذلك اليوم حتى يلي هذا الخليفة، من عترة رسول الله(ص) من ولد فاطمة، يواطئ اسمه اسم رسول الله(ص)، جدّه الحسن بن علي بن أبي طالب، يبايع بين الركن والمقام، يشبه رسول الله(ص) في خَلْقه ـ بفتح الخاء ـ وينزل عنه في الخُلق - بضم الخاء - لأنّه لا يكون أحد مثل رسول الله(ص) في أخلاقه، والله يقول فيه:
(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)[4]
إذن، المهدي يملك الناس ويقيم دولة بأمر من الله، لا برغبةِ إصلاحٍ يجدها في نفسه أو يدفعه إليها محيطه البشري. وفي قيام هذه الدولة مصالحة للتاريخ المنشرخ تاريخين بين الإمامة الظاهرة والإمامة الباطنة، لأنّ إمامها يردم المسافة بين الديني والسياسي بجمعه بين السلطتين الروحية والزمنية. وبالتالي يسكت النص الصوفي عن الكلام على دولة باطنة، لاتحاد الظاهر بالباطن والغيب بالشهادة.
القسم الثاني. الإمام المهدي: هويته ومنهجه
1. الهوية الروحية للمهدي المنتظر
أ. الولاية والخلافة والإمامة
إنّ المهدي ـ في رؤية ابن عربي ـ هو واحد من أهل ولاية الله سبحانه، بكل ما تستتبع الولاية من عرفان علمي وتصرّف في الكون بقدر ما ملّكه الله سبحانه من التصرّف فيه.
كما أنّ المهدي ـ في رؤية ابن عربي ـ هو واحد من أهل الخلافة الباطنة عن الله سبحانه، بكلّ ما تستتبع الخلافة من حُكْم ومُلْك.
والمهدي أيضاً ـ في رؤية ابن عربي ـ هو واحد من الأئمة في الكون، والإمامة هي المنزل الذي يكون النازل فيها متبوعاً وكلامه مسموعاً.[5]
إذن، إنّ المهدي هو ولي وخليفة وإمام معاً، ولكن هل هو مطلق ولي ومطلق خليفة ومطلق إمام أم له رتبةً مخصوصة في هذه الدوائر لا يشارك بها ؟ وللإجابة على هذا السؤال ننتقل إلى الفقرة اللاحقة.
ب. خَتْم الإمامة بالإمام الأكبر
يرى ابن عربي أنّ لكل أمر يخص الإنسان ختماً، فالرسالة والنبوّة خُتمتا بشخص رسول الله(ص)، فلا نبي بعده ولا رسول. وكذلك الولاية العامة خُتمت بشخص عيسى(ع)، والولاية المحمّديّة الخاصة خُتمت بشخصٍ نستشفّ من نصوص ابن عربي أنه يدلّ على نفسه.
وبناء عليه، فإنّ للإمامة أيضاً ختماً هو المهدي وهو الإمام الأكبر. وقولنا إنّ المهدي هم ختم الإمامة يعني أنّ الله سبحانه جمع له في إمامته كافّة وجوه الإمامة التي ظهرت متفرقة فيمن سبقه من الأئمة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية إنّه لن يأتي بعده إمام يكون هو الواحد المتبوع في الزمان.[6]
يقول ابن عربي: والإمام الأكبر المتبع الذي إليه النهاية والمرجع وتنعقد عليه أمور الأمة أجمع [...] وكلّ إمام تحت أمر هذا الإمام الأكبر، كما أنّه تحت قهر القاهر القدير، فهو الآخذ عن الحق، والمعطي بحق في حق فلا تحزبوه وانصروه.[7]
2. نهج الإمام المهدي
يستند ابن عربي إلى حديث نبوي ينصّ فيه رسول الله(ص) على أنّ الإمام المهدي معصوم في أحكامه، يقول(ص): يقفو أثري لا يخطئ.[8] ويفسّر ابن عربي سبب عصمة المهدي في أحكامه ومفارقته للخطأ بأنّه لا يحكم إلا بما يُلقي إليه الملك من عند الله، الذي بعثه إليه ليسدّده وذلك هو الشرع الحقيقي المحمّديّ الذي لو كان محمد(ص) حيّاً ورُفعت إليه تلك النازلة لم يحكم فيها إلاّ بما يحكم هذا الإمام، فيعلمه الله أنّ ذلك هو الشرع المحمدي.[9]
وينتج عن ذلك أمران:
الأمر الأول... ارتفاع المذاهب الفقهيّة من الأرض لانتفاء الحاجة إليها بوجود الإمام المعصوم في أحكامه. يقول ابن عربي عن الإمام المهدي: يقيم الدين، ينفخ الروح في الإسلام، يعز الإسلام به بعد ذله ويحيا بعد موته [...] يُظهر من الدين ما هو الدين عليه في نفسه ما لو كان رسول الله(ص) لحكم به، فيرفع المذاهب من الأرض فلا يبقى إلا الدين الخاص.[10]
الأمر الثاني... يحرّم المهدي على نفسه القياس إتّكاءً على ما يأتيه من أحكام. وهذا لا يعني أنّه غير خبير بالقياس بل العكس يعلمه ليتجنّبه. يقول ابن عربي مبيّناً عرضة القياس للغلط، وأنّه لا يصحّ أصلاً دينياً للمهدي المنصوص على عصمته في الأحكام: فالإمام يتعيّن عليه علم ما يكون بطريق التنزيل الإلهي وبين ما يكون بطريق القياس، وما يعلمه المهدي ـ أعني علم القياس ـ ليحكم به وإنّما يعلمه ليتجنّبه (...) فيحرم عليه القياس مـع وجود النصوص التي منحـه الله إياها.[11] ويقول في السياق نفسه: "فإنّ القياس ممن ليس بنبيّ حكم على الله في دين الله بما لا يعلم، فانّه طرد علّة، وما يدرك لعلّ الله لا يريد طرد تلك العلّة ولو أرادها لأبان عنها على لسان رسوله(ص) وأمر بطردها. هذا إذا كانت العلّة مما نصّ الشرع عليها في قضيّة فما ظنّك بعلّة يستخرجها الفقيه بنفسه ونظره من غير أن يذكرها الشرع بنص معيّن فيها، ثمّ بعد استنباطه إيّاها يطردها، فهذا تحكّم على تحكّم بشرع لم يأذن به الله. وهذا يمنع المهدي من القول بالقياس في دين الله. ولا سيما وهو يعلم أنّ مراد النبي(ص) التخفيف في التكليف عن هذه الأمّة، ولذلك كان يقول: اتركوني ما تركتكم، وكان يكره السؤال في الدين خوفاً من زيادة الحكم.[12]