عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

التربية النبوية:

التربية النبوية:

وقام الرسول الاعظم ( ص ) بدوره بتربية سبطه وريحانته فأفاض عليه بمكرماته ومثله وغذاه بقيمه ومكوناته ليكون صورة عنه ، ويقول الرواة:

إنه كان كثير الاهتمام والاعتناء بشأنه ، فكان يصحبه معه في أكثر أوقاته فيشمه عرفه وطيبه ، ويرسم له محاسن أفعاله ، ومكارم أخلاقه ، وقد علمه وهو في غضون الصبا سورة التوحيد ( 3 ) ، ووردت إليه من تمر الصدقة


( 1 ) النظام التربوي في الاسلام.
( 2 ) نظام الاسرة في الاسلام.
( 3 ) تاريخ اليعقوبي 2 / 319 . ( * )

[48]

فتناول منها الحسين تمرة وجعلها في فيه ، فنزعها منه الرسول ( ص ) وقال له : لا تحل لنا الصدقة ( 1 ) ، وقد عوده وهو في سنه المبكر بذلك على الاباء ، وعدم تناول ما لا يحل له ، ومن الطبيعي أن ابعاد الطفل عن تناول الاغذية المشتبه فيها أو المحرمة لها أثرها الذاتي في سلوك الطفل وتنمية مداركه حسب ما دللت عليه البحوث الطبية الحديثة ، فان تناول الطفل للاغذية المحرمة مما يوقف فعالياته السلوكية ، ويغرس في نفسه النزعات الشريرة كالقسوة ، والاعتداء والهجوم المتطرف على الغير ، وقد راعى الاسلام باهتمام بالغ هذه الجوانب فألزم بأبعاد الطفل عن تناول الغذاء المحرم ( 2 ) وكان ابعاد النبي ( ص ) لسبطه الحسين عن تناول تمر الصدقة التي لا تحل لاهل البيت ( ع ) تطبيقا لهذا المنهج التربوي الفذ . . . وسنذكر المزيد من ألوان تربيته له عند عرض ما أثر عنه ( ص ) في حقه ( ع ).

تربية الامام له:

أما الامام علي ( ع ) فهو المربى الاول الذي وضع أصول التربية ، ومناهج السلوك ، وقواعد الآداب ، وقد ربى ولده الامام الحسين ( ع ) بتربيته المشرقة فغذاه بالحكمة ، وغذاه بالعفة والنزاهة ، ورسم له مكارم الاخلاق والآداب ، وغرس في نفسه معنوياته المتدفقة فجعله يتطلع إلى الفضائل حتى جعل اتجاهه السليم نحو الخير والحق ، وقد زوده بعدة وصايا حافلة بالقيم الكريمة والمثل الانسانية ومنها هذه الوصية القيمة الحافلة بالمواعظ والآداب الاجتماعية وما يحتاج اليه الناس في سلوكهم ، وهي من أروع


( 1 ) مسند الامام أحمد 1 / 201 ( 2 ) النظام التربوي في الاسلام ( ص 92 - 93 ) . ( * )

[49]

ما جاء في الاسلام من الاسس التربوية التي تبعث على التوازن ، والاستقامة في السلوك قال عليه السلام:

" يا بني أوصيك بتقوى الله عزوجل في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الرضا ( 1 ) والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الصديق والعدو والعمل في النشاط والكسل ، والرضا عن الله تعالى في الشدة والرخاء.

يا بني ما شر بعده الجنة بشر ، ولا خير بعد النار بخير ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية . . . اعلم يا بني أن من أبصر عيب نفسه شغل عن غيره ، ومن رضى بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته ، ومن سل سيف البغي قتل به ، ومن حفر بئرا وقع فيها ، ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته ، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره ، ومن كابد الامور عطب ، ومن اقتحم البحر غرق ، ومن أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل ، ومن تكبر على الناس ذل ، ومن سفه عليهم شتم ، ومن دخل مداخل السوء اتهم ، ومن خالط الانذال حقر ، ومن جالس العلماء وقر ، ومن مزح استخف به ، ومن اعتزل سلم ، ومن ترك الشهوات كان حرا ، ومن ترك الحسد كان له المحبة من الناس.

يا بني عز المؤمن غناه عن الناس ، والقناعة مال لا ينفذ ومن اكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه ، العجب ممن خاف العقاب ورجا الثواب فلم يعمل ، الذكر نور والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسعيد من وعظ بغيره ، والادب خير ميراث ، وحسن الخلق خير قرين.

يا بني ليس من قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى ، . . . يا بني العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله ، وواحد في ترك


( 1 ) في نسخة في الرضا والغضب . ( * )

[50]

مجالسة السفهاء ، ومن تزين بمعاصي الله عزوجل في المجالس ورثه ذلا من طلب العلم علم.

يا بني رأس العلم الرفق وآفتة الخرق ، ومن كنوز الايمان الصبر على المصائب ، العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ، ومن أكثر من شئ عرف به ، ومن كثر كلامه كثر خطأوه ، ومن كثر خطأوه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار.

يا بني لا تؤيسن مذنبا فكم من عاكف على ذنبه ختم له بالخير ، ومن مقبل على عمله مفسد له في آخر عمره صار إلى النار من تحرى القصد خفت عليه الامور.

يا بني كثرة الزيارة تورث الملالة ، يا بني الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم ، اعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.

يا بني كم من نظرة جلبت حسرة ، وكم من كلمة جلبت نعمة ، لا شرف أعلى من الاسلام ولا كرم أعلى من التقوى ، ولا معقل أحرز من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت ، ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجل الراحة ، وتبوأ حفظ الدعة ، الحرص مفتاح التعب ، ومطية النصب وداع إلى التقحم في الذنوب ، والشر جامع لمساوئ العيوب ، وكفى أدبا لنفسك ما كرهته من غيرك ، لاخيك مثل الذي عليك ( 1 ) لك ، ومن تورط في الامور من غير نظر في الصواب فقد تعرض لمفاجأة النوائب ، التدبير قبل العمل يؤمنك الندم ، من استقبل وجوه العمل والآراء عرف مواقع الخطأ ، الصبر جنة من الفاقة ، في خلاف النفس رشدها ، الساعات


( 1 ) هكذا في الاصل ولعل الصواب ( عليه ) . ( * )

[51]

تنقص الاعمار ، ربك للباغين من أحكم الحاكمين ، وعالم بضمير المضمرين بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد ، في كل جرعة شرق ، وفي كل أكلة غصص ، لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى ، ما أقرب الراحة من التعب ، والبؤس من النعيم ، والموت من الحياة ، فطوبى لمن أخلص لله تعالى علمه وعمله وحبه وبغضه وأخذه وتركه ، وكلامه وصمته ، وبخ بخ لعالم علم فكف ، وعمل فجد وخاف التباب ( 1 ) فأعد واستعد ، إن سئل أفصح ، وان ترك سكت ، كلامه صواب ، وصمته من غير عي عن الجواب ، والويل كل الويل لمن بلى بحرمان وخذلان وعصيان ، واستحسن لنفسه ما يكرهه لغيره ، من لانت كلمته وجبت محبته ، من لم يكن له حياء ولا سخاء فالموت أولى به من الحياة ، لا تتم مرؤة الرجل حتى لا يبالي أي ثوبيه لبس ، ولا أي طعاميه أكل " ( 2 ).

وحفلت هذه الوصية بآداب السلوك وتهذيب الاخلاق ، والدعوة إلى تقوى الله التي هي القاعدة الاولى في وقاية النفس من الانحراف والآثام وتوجيهها الوجه الصالحة التي تتسم بالهدى والرشاد.

تربية فاطمة له:

وعنت سيدة النساء ( ع ) بتربية وليدها الحسين ، فغمرته بالحنان والعطف لتكون له بذلك شخصيته الاستقلالية ، والشعور بذاتياته ، كما


( 1 ) التباب : الهلاك والخسران ، ومنه قوله تعالى : " تبت يدا أبي لهب ".
( 2 ) الاعجاز والايجاز ( ص 33 ) . ( * )

[52]

غذته بالآداب الاسلامية ، وعودته على الاستقامة ، والاتجاه المطلق نحو الخير يقول العلائلي:

" والذي انتهى إلينا من مجموعة أخبار الحسين أن أمه عنيت ببث المثل الاسلامية الاعتقادية لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة على أتم معانيها ، وأصح أوضاعها ، ولابدع فان النبي ( ص ) أشرف على توجيهه أيضا في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال.

فالسيدة فاطمة أنمت في نفسه فكرة الخير ، والحب المطلق والواجب ومددت في جوانحه وخوالجه أفكار الفضائل العليا بأن وجهت المبادئ الادبية في طبيعته الوليدة ، من أن تكون هي نقطة دائرتها إلى الله الذي هو فكرة يشترك فيها الجميع.

وبذلك يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة حين أدار هذه المبادئ الادبية على شخص والدته ، وقصرها عليها وما تجاوز بها إلى سواها من الكوائن ، ورسمت له والدته دائرة غير متناهية حين جعلت فكرة الله نقطة الارتكاز ، ثم أدارت المبادئ الادبية والفضائل عليها فاتسعت نفسه لتشمل وتستغرق العالم بعواطفها المهذبة ، وتأخذه بالمثل الاعلى للخير والجمال . . . ( 1 ).

لقد نشأ الامام الحسين ( ع ) في جو تلك الاسرة العظيمة التي ما عرف التاريخ الانساني لها نظير في إيمانها وهديها ، وقد صار ( ع ) بحكم نشأته فيها من أفذاذ الفكر الانساني ومن أبرز أئمة المسلمين.


( 1 ) الامام الحسين ( ص 289 ) . ( * )

[53]

البيئة:

وأجمع المعنيون في البحوث التربوية والنفسية على أن البيئة من أهم العوامل التي تعتمد عليها التربية في تشكيل شخصية الطفل واكسابه الغرائز والعادات ، وهي مسؤولة عن أي انحطاط أو تأخر للقيم التربوية ، كما أن استقرارها ، وعدم اضطراب الاسرة لهما كبير في استقامة سلوك النشئ ووداعته ، وقد بحثت مؤسسة اليونسكو في هيئة الامم المتحدة عن المؤثرات الخارجة عن الطبيعة في نفس الطفل ، وبعد دراسته مستفيضة قام بها الاختصاصيون قدموا هذا التقرير:

" مما لا شك فيه أن البيئة المستقرة سيكولوجيا ، والاسرة الموحدة التي يعيش أعضاؤها في جو من العطف المتبادل هي أول أساس يرتكز عليه تكيف الطفل من الناحية العاطفية ، وعلى هذا الاساس يستند الطفل فيما بعد في تركيز علاقاته الاجتماعية بصورة مرضية ، أما اذا شوهت شخصية الطفل بسوء معاملة الوالدين فقد يعجز عن الاندماج في المجتمع . . . " ( 1 ).

ان استقرار البيئة وعدم اضطرابها من أهم الاسباب الوثيقة في تماسك شخصية الطفل وازدهار حياته ، ومناعته من القلق ، وقد ذهب علماء النفس إلى أن اضطراب البيئة وما تحويه من تعقيدات ، وما تشتمل عليه من أنواع الحرمان كل هذا يجعل الطفل يشعر بأنه يعيش في عالم متناقض ملئ بالغش والخداع والخيانة والحسد وأنه مخلوق ضعيف لا حول له ، ولا قوة تجاه


( 1 ) أثر الاسرة والمجتمع في الاحداث الذين هم دون الثالثة عشرة مؤسسة اليونسكو ( ص 35 ) . ( * )

[54]

هذا العالم العنيف ( 1 ) . . . وقد عنى الاسلام بصورة ايجابية في شؤون البيئة فأرصد لاصلاحها وتطورها جميع أجهزته وطاقاته ، وكان يهدف قبل كل شئ أن تسود فيها القيم العليا من الحق والعدل والمساواة ، وأن تتلاشى فيها عوامل الانحطاط والتأخر من الجور والظلم والغبن ، وأن تكون آمنة مستقرة خالية من الفتن والاضطراب حتى تمد الامة بخيرة الرجال وأكثرهم كفاءة ، وانطلاقا في ميادين البر والخير والاصلاح.

وقد انتخب البيئة الاسلامية العظماء والافذاذ والعباقرة المصلحين الذين هم من خيرة ما أنتجته الانسانية في جميع مراحل تاريخها كسيدنا الامام أمير المؤمنين ( ع ) وعمار بن ياسر ، وأبي ذر وأمثالهم من بناة العدل الاجتماعي في الاسلام.

لقد نشأ الامام الحسين ( ع ) في جو تلك البيئة الاسلامية الواعية التي فجرت النور وصنعت حضارة الانسان ، وقادت شعوب الارض لتحقيق قضاياها المصيرية ، وأبادت القوى التي تعمل على تأخير الانسان ، وانحطاطه تلك البيئة العظيمة التي هبت إلى ينابيع العدل تعب منها فتروي وتروي الاجيال الظامئة.

وقد شاهد الامام الحسين وهو في غضون الصبا ما حققته البيئة الاسلامية من الاتنصارات الرائعة في اقامة دولة الاسلام ، وتركيز أسسها ، وأهدافها وبث مبادئها الهادفة إلى نشر المودة والدعة والامن بين الناس.

هذه بعض المكونات التربوية التي توفرت للامام الحسين ( ع ) وقد أعدته ليكون الممثل الاعلى لجده الرسول ( ص ) في الدعوة إلى الحق ، والصلابة في العدل.


( 1 ) التكيف النفسي ( ص 22 ) . ( * )

[55]

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قبول الخلافة
تأملات وعبر من حياة يوسف (ع) - ج 2
أقوال علماء السنة في المذهب الشيعي
الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها القسم الاول
الكمالات المحمدية تصنيف مبتكر في الإعجاز الخلقي
صور التقية في كتب العامة
غزوة بدر تكسر شوكة الكفر والشرك
ما المقصود بليلة الهرير؟
يوم عاشوراء في اللغة والتاريخ والحديث
الشيعة في ألبانيا

 
user comment