1 ـ مختصر تاريخ مسألة أصالة الوجود:
لم تُطرح هذه المسألة في الفلسفة اليونانية، ولكن اشتهر بين دارسي الفلسفة أن القول بأصالة الوجود منسوب إلى المشائين والقول بأصالة الماهية منسوب إلى الإشراقيين، والحال أن القول بأصالة الوجود لم يُضَعْ بشكل نظري وبصورة تامة إلا في مدرسة الحكمة المتعالية، على يد صدر المتألهين الشيرازي، لأننا إذا راجعنا التراث الفلسفي اليوناني فلا نجد لهذه المسألة ذكراً، كذلك عندما نراجع تراث الفارابي المتوفى سنة (339هـ ) لا نجد عنواناً لهذه المسألة، كذلك لو رجعنا إلى تراث ابن سينا المتوفى سنة (428هـ ) لا نجد في تراثه عنواناً لأصالة الوجود، كذلك لا نجد عنواناً في تراث الخواجه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة (672هـ )، كما لا نجدها معنونة في تراث شيخ الإشراق السهروردي ولا في تراث غيره، وإنما أول ما طُرحت هذه المسألة بهذا العنوان عند السيد محمد باقر الميرداماد المتوفى سنة (1040هـ ) من مدرسة إصفهان الفلسفية، وهو أستاذ صدر المتألهين الشيرازي، والميرداماد كان يتبنى القول بأصالة الماهية، واقتفى أثره ابتداءً تلميذه صدر المتألهين ثم بعد ذلك رفض صدر المتألهين القول بأصالة الماهية وأشاد أركان نظرية أصالة الوجود التي أضحت محوراً أساسياً لإبداعاته الفلسفية وإبداعات مدرسته مدرسة الحكمة المتعالية.
2 ـ ما هي مصادر إلهام القول بنظرية أصالة الوجود؟
المصدر الأول:تراث المتكلمين، فالمتكلمون يهتمون بنوعين من البحوث، قسم يرتبط بالمسائل العقائدية، وهو البحث الأساسي عند المتكلمين، وقسم آخر يُمثل مقدمة لمباحثهم، ويرتبط بالمسائل الفلسفية، وقد حصل تمازج واضح بين الفلسفة والكلام عند المتكلمين المتأخرين، وخصوصاً منذ الخواجه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة (672هـ ) حتى الآن.
لقد طُرحت مسألة زيادة الوجود على الماهية أولاً لدى المتكلمين، ثم دخلت هذه المسألة الفلسفة بسبب إشكالاتهم، وهذه المسألة كانت أحد المنابع التي سببت القول بأصالة الوجود.
المصدر الثاني: تراث العرفاء، فهم يهتمون ببحث مسألة الوحدة، وحدة الوجود، أو وحدة الشهود، أو وحدة الحقيقة.
فقد طُرِحت وحدة الوجود وبُحِثت للمرة الأولى وتمت صياغة أصولها النظرية بشكل تام في تراث الشيخ (محي الدين بن عربي)، ثم أضحت هذه المسألة محوراً لأفكار (جلال الدين الرومي) في كتابه الشهير (المثنوي)، وبعد ذلك من خلال تراث العرفاء عبرت هذه المسألة إلى البحث الفلسفي عند صدر المتألهين.
3 ـ ما هي ثمرة القول بأصالة الوجود؟
يقول العلامة الطباطبائي: افتتح صدر المتألهين فلسفته مع أصالة الوجود، ثم التشكيك في الوجود، واستطاع أن يؤسس مدرسته الفلسفية على أساس هاتين المسألتين.
ويقول الشهيد المطهري في تعليقته على أصول الفلسفة لأستاذه العلامة الطباطبائي: إن القول بأصالة الوجود تترتب عليه نتائج كثيرة في الفلسفة، بل قد لا نجد مسألة فلسفية إلا ويرتبط مصيرها بذلك.
إذاً هذه المسألة محور أساسي في مدرسة الحكمة المتعالية. وبتعبير الشيخ محمدتقي مصباح اليزدي: إن مسألة أصالة الوجود، مسألة جارَّة وأساسية، ولا ينبغي إطلاقاً أي تساهل في تناولها، لأن مسائل العِلِّية وعلاقة المعلول بالعلة ونتيجة ذلك ترتبط بأصالة الوجود، وعلى أساس ذلك تُحل كثير من المسائل المهمة، كنفي الجبر والتفويض، وإثبات التوحيد الأفعالي، وغير ذلك، كما أن مسألة الحركة الجوهرية تستند إلى أصالة الوجود.
4 ـ ما هي المقصود بأصالة الوجود؟
لابدّ أن نعرف ثلاثة مصطلحات، وهي: الوجود، الماهية، الأصالة والاعتبار.
أما الوجود: فيُطلق ويراد به أحد ثلاثة معاني: إما المعنى الحرفي الرابط بالقضايا الدال عليه كلمة (است) بالفارسية، أو (is) بالانجليزية، أو الهيئة التركيبية في الجملة العربية، أي المعنى الحرفي، وهذا ليس هو المقصود.
أو أن المقصود بالوجود في أصالة الوجود، مفهوم الوجود ـ الذي هو بديهي التصور ـ وليس هذا هو المقصود.
أو أن المقصود نفس الحقيقة العينية الخارجية، التي تترتب عليها الآثار ويحكي عنها مفهوم الوجود، حكاية كل مفهوم عن مصداقه، وهذا هو المراد بالوجود في قولنا أصالة الوجود.
فالمراد بأصالة الوجود، هو أصالة الحقيقة العينية، وهي الخارجية التي تترتب عليها الآثار، وليس المراد بأصالة الوجود أصالة مفهوم الوجود، ولا المراد أصالة المعنى الحرفي للوجود.
ما معنى الماهية: فهي تأتي بمعنيين:
الأول: هو مصدر جعلي مأخوذ من (ما هو) وهو ما يناله العقل من الموجودات الممكنة عند تصورها تصوراً تاماً، أو هي قالب كلي ذهني للموجودات العينية، وهذه هي الماهية بالمعنى الأخص، وهي إنما تكون للموجودات القابلة للكنه، أما غير القابلة لذلك كالوجود فإنه لا ماهية له، والعدم أيضاً لا حدود له.
الثاني: هو المعنى الأعم للماهية أي ما به الشيء هو هو، أي ما يتحقق به الشيء، وهذا النوع من الماهية يشمل الموجود المحدود وغير المحدود.
والمقصود في هذا البحث هو المعنى الأول، أي الماهية بالمعنى الأخص.
أما معنى الأصالة والاعتبار، فإن الأصيل: هو الأمر الواقعي الحقيقي الخارجي، الذي تترتب عليه الآثار الخارجية أولاً وبالذات، وفي قبال الأصيل، الاعتباري، فالاعتبار يقابل الأصالة وهو ما لا تترتب عليه الآثار الخارجية أولاً وبالذات.
أما محل النزاع فهو: من الذي يملأ الواقع الخارجي، وتترتب عليه الآثار الخارجية، أهو الوجود أم الماهية؟
هذا منشأ النزاع في المسألة، فأما الذي يملأ الواقع الخارجي ويكون هو الحقيقة العينية فهو الوجود، عندها يكون هو الأصيل، هذا معنى أصالة الوجود، وإذا كانت هي الماهية فإن الأصالة للماهية.
ولكن ما الذي يذهب إليه العقل؟ الجواب: هناك أربعة فرضيات، وهي:
1 ـ يكون كلا الأمرين (الوجود والماهية) اعتباريين، أي لا توجد حقيقة تملأ الواقع الخارجي وتكون منشأً لترتب الآثار الخارجية.
2 ـ كلاهما أصيل، أي كلاهما يملأ الواقع وتترتب عليه الآثار، فيصبح كل شيء حقيقته مزدوجة من ماهية ووجود.
3 ـ الوجود أصيل والماهية اعتبارية.
4 ـ الماهية أصيلة والوجود اعتباري.
الفرض الأول يؤدي إلى القول بالسفسطة، وهي إنكار الواقع الخارجي، والفلسفة تبدأ حيثُ تنتهي السفسطة.
أما الفرض الثاني: وهو كون الوجود والماهية كليهما أصيلاً، أي كل منهما يملأ الواقع الخارجي وتترتب عليه الآثار الخارجية، فهو قول غير صحيح، لأنه يلزم منه المحال، على اعتبار أن كل شيء سوف يتعد، فكل شيء يصبح شيئين، كالقلم في يدك يصبح مزدوجاً، ونحن ندرك بالبداهة، أن له في الخارج حقيقة واحدة تترتب عليها الآثار.
ويبقى الفرضان الثالث والرابع، فما هو الصحيح منهما؟
الذي ذهبت إليه مدرسة الحكمة المتعالية هو القول الثالث، أي القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية، فالوجود هو الحقيقة في العالم العيني، وهو المنشأ لترتب الآثار الخارجية، أما الماهية فهي أمر اعتباري منتزع من الوجود، فلا تترتب عليها الآثار الخارجية وإنما الآثار تترتب على منشأ انتزاعها وهو الوجود.
ـ الأقوال في المسألة:
القول: بأصالة الوجود، وهو قول مدرسة الحكمة المتعالية، والقول بأصالة الماهية، وهو قول منسوب إلى مدرسة الإشراق وإلى السهروردي، وقول بالتفصيل وهو المنسوب إلى المحقق الدواني، فقد قال بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن.
ـ الأدلة على أصالة الوجود:
1 ـ البرهان الأول:
الماهية من حيثُ هي لا موجودة ولا معدومة، الماهية بحد ذاتها لا تقتضي الوجود ولا العدم، لأن الوجود والعدم خارجان عن ذاتها، فهي متساوية النسبة إليهما، فعندما نريد تحليل ماهية ما، كماهية الإنسان فلا نقول الإنسان: حيوان ناطق موجود، لأن الوجود خارج عن ذات الماهية، الماهية متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، فالجوهر مثلاً مأخوذ في ماهية الإنسان، ولهذا فلا يمكن أن نقول إن الإنسان يمكن أن يكون جوهراً ويمكن ألا يكون جهراً، لأن الجوهر مأخوذ في ماهية الإنسان لكن يمكن القول بأن الإنسان يمكن أن يكون موجوداً ويمكن ألا يكون موجوداً، لأن الوجود لم يؤخذ في ماهية الإنسان.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن للحمل صورتين:
الأولى: الحمل التحليلي أو الذاتي، وفيها نستخرج المحمول من ذات الموضوع، أي حمل الذاتي على الذات، ولذلك نقول: الإنسان جوهر جسم حيوان ناطق، فهنا نحمل الذاتي على الذات، كل هذه المحمولات ذاتيات بالنسبة للإنسان، وفي هذه الحالة نستخرج المحمول من ذات الموضوع، وهنا يستحيل حمل نقيض المحمول على الموضوع، فعندما نقول: الإنسان جوهر، لا يمكن القول: الإنسان ليس بجوهر.
الثانية: الحمل التركيبي، وهو حمل شيء من خارج ذات الموضوع على الموضوع، مثل: الإنسان أبيض، الإنسان طويل، الإنسان قصير، ففي هذه الحالة لا يستحيل حمل نقيض المحمول على الموضوع، إذ نستطيع القول الإنسان أبيض والإنسان ليس بأبيض، ففي هذا الحمل لا يكون المحمول مستخرجاً من ذات الموضوع، أي ليس من حمل الذاتي على الذات.
وهنا نسأل: أإنّ حمل الوجود والعدم على ماهية ما، كماهية الإنسان، من الحمل التحليلي أم التركيبي؟
الجواب: إن الوجود والعدم معنيان تركيبيان، أي ليسا داخلين في معنى الماهية، وإنما يحملان على الماهية من باب حمل شيء من خارج ذات الموضوع على الموضوع، ولذلك لا يستحيل حمل نقيض أحدهما على الماهية، فيمكن أن نقول: الماهية موجودة، الإنسان موجود، ونقول الماهية معدومة، الإنسان معدوم.
الحمل في الأول حمل الوجود على الماهية وفي الثانية حمل نقيضه وهو العدم، وهذا الحمل تركيبي، ولذلك فالوجود والعدم غير مأخوذين في مفهوم الماهية، وهذا معنى القول: (الماهية من حيث فهي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة) وإن كانت الماهية في الواقع ونفس الأمر إما موجودة أو معدومة، كالإنسان.
والآن نقول مَن الذي أخرج ماهية الإنسان من حالة الحياد بين الوجود والعدم وجعلها متلبسة بالوجود؟
الجواب: إن الذي أخرجها هو الوجود، وهذا معنى أصالة الوجود.
هذا ملخص الكلام في الدليل الأول، وربما يقول قائل إن الذي يخرجها غير الوجود، أو هي التي تخرج، لكن يكون ذلك منها انقلاباً، وهو محال، لأنها متساوية النسبة للوجود والعدم، فكيف تتلبس بالوجود بدون سبب؟ فهذا هو الإنقلاب المحال.
إذاً لكي تخرج الماهية من حالة الاستواء إلى حالة الوجود لابدّ من مُخرِج لها، وهذا المُخرِج لا يمكن أن يكون هو الماهية لأنها متساوية النسبة للوجود والعدم، فلابدّ أن يكون هذا المخرج هو الوجود، ومن هنا تكون الآثار الخارجية ناشئة عن الوجود، والمتحقق في الخارج هو الوجود.
وهنا قد يثار إشكال ملخصه: لماذا لا يكون خروج الماهية من حد الاستواء إلى المرحلة التي تترتب عليها الآثار بنسبة مكتسبة من الجاعل؟ أي عندما تنتسب الماهية إلى الجاعل فإنها تتحقق، تكون في عالم الأعيان، وبالتالي تصبح منشأ لترتب الآثار.
والجاعل هو العلة الموجبة لخروج الماهية من حد الاستواء إلى الخارجية والتحقق والوجود.
الجواب: إن هذا الكلام غير تام، لماذا؟ لأننا نسأل عن هذه الحيثية المكتسبة، وهي أن الماهية عندما انتسبت إلى الجاعل فقد تحققت، وعندها تترتب عليها الآثار، أي حيثية تكون متلبسة بالوجود والأصالة، اكتسبتها من الجاعل، فنقول: أهذه الحيثية المكتسبة، حقيقية متأصلة في الأعيان وخاصة، أم لا هي أمر اعتباري؟ فإذا كانت أمراً خارجياً حقيقياً عينياً أصيلاً فهذا هو ما نعنيه بأصالة الوجود. وإن كانت هذه الحيثية المكتسبة، لم تغيِّر من حال الماهية، أي الماهية قبل وبعد الانتساب للجاعل مستوية النسبة للوجود والعدم، فحينئذ يلزم من ذلك الانقلاب، وهو محال.
بمعنى أن الأمر الاعتباري ينقلب إلى أصيل، الأمر المعدوم يغدو موجوداً بلا سبب فيلزم التناقض، والتناقض محال.
2 ـ البرهان الثاني: وله مقدمات، هي:
أ ـ أن الماهيات مثار الكثرة والمغايرة، فكل ماهية مغايرة للماهيات الأخرى، وهذه المغايرة تستند لذات الماهية، ولهذا يقال الماهيات منشأ الاختلاف والكثرة.
ب ـ أن الحمل هو الاتحاد في جهة ما، والاختلاف في جهة أخرى.
ولهذا ذكروا للحمل شرطين:
الأول: وجود المغايرة بين الموضوع والمحمول، وإلا فلا فائدة في الحمل، لأنه حمل الشيء على نفسه.
الثاني: أن يكون هناك اتحاد بينهما من جهة ما، وإلا فالمتباينان من كل جهة لا يصح حمل أحدهما على الآخر، مثل: الإنسان حجر، فهذه قضية كاذبة، إذاً نحتاج مناط وحدة واتحاد بين الأمرين.
ج ـ أن تحقق وجود الحمل أمر بديهي، كقولنا: الإنسان ضاحك، والإنسان ناطق.
فالحاصل من هذه المقدمات الثلاث، من الأولى: أن الماهيات مثار الكثرة والاختلاف، ومن الثانية، أن للحمل شرطين هما الاتحاد من جهة والاختلاف من جهة أخرى، والثالثة: أنه لا يمكن إنكار أن هناك حملاً فهو أمر بديهي.
وعلى هذا الأساس نقول أن جهة التغاير في كل حمل تعود إلى الماهيات، وهنا يجب أن نبحث عن جهة الاتحاد بين الماهيات في الحمل، وليس هناك سوى الوجود، لأنه لو كانت الماهية هي مناط الاتحاد في الحمل، لما تحقق حمل أصلاً في القضايا، لأن الماهيات ـ كما قلنا ـ هي مثار الكثرة والمغايرة، فلا يمكن أن يكون منشأ الاختلاف منشأ للاتحاد، منشأ الاتحاد لابدّ أن يكون شيئاً آخر، وهو الوجود، فالاتحاد بين الموضوع والمحمول في القضية الحملية هو الوجود، فهو جهة الوحدة بين الماهيتين المختلفتين، وهذا الكلام إنما يتم على القول بأصالة الوجود، وأنه المنشأ لترتب الآثار، أما لو كان الوجود اعتبارياً، فيتحقق الركن الأول فقط في الحمل دون تحقق الركن الثاني.
3 ـ البرهان الثالث: ويتم بيانه من خلال مقدمتين وهما:
أ ـ أن إدراكنا للأشياء، إنما يتم من خلال الماهيات، أي أن الماهيات هي الرابطة بين الذهن والخارج، فالرابطة بين الذهن والكتاب الخارجي مثلاً هي رابطة ماهوية لا وجودية.
ب ـ أن ماهية المعلوم بالذات، أي صورته، في الذهن، هي عين ماهيته بالذات.
فماهية الإنسان في الذهن نفسها في الخارج، لكن الإنسان في الذهن لا تترتب عليه الآثار المترتبة على ماهيته في الخارج، وهنا نقول لو كانت الماهية أصيلة، أي أنها هي المنشأ لترتب الآثار الخارجية، والوجود أمراً اعتبارياً، وأدركنا ماهية ما، كالنار مثلاً، للزم أن تأتي آثارها، كالإحراق والحرارة للذهن.
ولكن ذلك باطل جزماً، إذ لا تترتب الآثار على صورة الماهية، فإنّ ماهية النار في الذهن ومع ذلك لا يترتب عليها آثار النار وهي الاحراق، إذاً فالمنشأ لترتب الآثار هو الأصيل، وهو الوجود.
4 ـ البرهان الرابع: وله مقدمتان، وهما:
أ ـ أن الموجودات في الواقع الخارجي مختلفة من حيثُ التقدمُ والتأخرُ، والشدةُ والضعفُ، والقوةُ والفعلُ، فالعلة متقدمة على المعلول، ووجود العلة أشد من وجود المعلول ... الخ.
ب ـ أن الماهية بالمعنى الأخص متساوية النسبة، أي لا يختلف حال الماهية بالنسبة للقديم والحديث والشديد والضعيف ... الخ، لأن الماهية لا يقع فيها التشكيك.
فالماهية متساوية الحال بالنسبة لجميع الأمور، فلا يختلف حال الماهية بالنسبة للإنسان المتقدم والمتأخر، فالجنين والكبير، والحي والميت، نسميهم جميعاً إنساناً.
ولذلك قالوا: لا تشكيك في الماهية، فلو كانت الماهية هي الأصيلة لما وقع في الخارج تقدم وتأخر، أو شدة وضعف، لأن الماهية متساوية النسبة للجميع ـ حسب المقدمة الثانية ـ وفي المقدمة الأولى أثبتنا وجود التفاوت في الموجودات من حيثُ التقدم والتأخر و ... الخ.
إذاً الماهية ليست أصيلة. وإنما تثبت الأصالة لأمر آخر هو الوجود، ويكون التفاوت ـ التشكيك ـ للوجود لا للماهية.
ـ القول بأصالة الماهية:
القول الثاني وهو أصالة الماهية، ومنسوب إلى شيخ الإشراق السهروردي، وأشهر كتاب له هو (حكمة الإشراق) وفيه عنوان: «حكومة الماهية على الوجود»، وذكر برهاناً نتيجته أن الماهية أصيلة والوجود اعتباري، ويقوم هذا البرهان على ما يلي:
عندما نقول (الكتاب موجود)، نجد المحمول ـ موجود ـ اسم مفعول، وهو مشتق من المشتقات، أي أنه يشتمل على ذات ومبدأ للاشتقاق، بمعنى ذات ثبت لها الوجود كقولنا: عالم، شيء ثبت له العلم، أي ذات ومبدأ للاشتقاق.
كذلك هنا، موجود ينحل إلى شيء ثبت له الوجود، فننقل الكلام للوجود، ونسأل أَهو موجود أم معدوم؟ فإن كان موجوداً، فهذا معناه، أنه شيء ثبت له الوجود، فننقل الكلام للوجود الثالث، وهكذا ننقل الكلام حتى يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، والتسلسل في الوجودات المحمولة محال، فلابدّ أن يكون الوجود اعتبارياً والماهية أصيلة.
وهذا الكلام يبتني على قاعدة قررها شيخ الإشراق ومفادها: (كل شيء لزم من تحققه تكرره لا إلى نهاية فهو اعتباري)، وهنا الوجود شيء ويلزم من تحققه في الخارج تكرره، فحينئذ يكون اعتبارياً، وصدر الدين الشيرازي في كتابه الأسفار قال: نقبل هذه القاعدة، ولكن لا نقبل النتيجة التي ذكرها السهروردي، أي أن تطبيق القاعدة غير صحيح.
والجواب على كلام السهروردي سهل، والمسألة تعود أساساً إلى بحث المشتق، ففي ضوء معرفة بحث المشتق تنحل هذه المسألة.
إن قولنا موجود، الموجود ليس ذات ثبت لها الوجود، وإنما الموجود هو عين الوجود وعين الواقعية، فهذا البرهان أو الإشكال ينشأ من تفسير المشتق بأنه ذات ثبت لها المبدأ، ولكن نقول أن المشتق يستعمل في موردين:
تارة نستعمله في ذات ثبت لها المبدأ، كما نقول: (الجدار أبيض)، أو (زيد عالم)، فعالم ذات ثبت لها العلم، لأن العلم شيء وزيد شيء آخر، ومرة أخرى قد نستعمل المشتق في موارد يكون المحمول عين الموضوع كما نقول: البياض أبيض، والنور مضيء، فالبياض هو عين الأبيض، وكذلك النور هو نفس الضوء.
وهكذا في الوجود موجود، فالمشتق هنا بنفس معنى مبدأ الاشتقاق، الوجود وموجود بمعنى واحد.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أن الوجود دائماً بنفس معنى مبدأ الاشتقاق، وقال بأن الفرق بينهما اعتباري، لأن الفرق بين عالم وعلم، ليس في المعنى، المعنى واحد. وبذلك يثبت أن الأصيل هو الوجود.
ـ القول بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن:
هناك قول ثالث بالتفصيل، أي أصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن، وهذا القول منسوب إلى المحقق جلال الدين الدواني، وهو يعني بأصالة الوجود في الواجب، أي ليس هناك موجود غير الواجب تعالى، أي ما يتصف بالوجود حقيقةً هو (الواجب تعالى) واتصاف غيره بالوجود بمعنى انتسابه للوجود.
فعندما نقول (الماهيات موجودة) أي منتسبة للوجود، والانتساب يعني وجود رابطة بين الشيء والمبدأ، بينما يعني الاتصاف، الاتحاد بين الشيء ـ الذات ـ والمبدأ.
فعندما نقول (زيد قائم) يعني متصف بالقيام، أي هناك اتحاد بين الذات ـ زيد ـ والمبدأ ـ القيام ـ . وعندما نقول (بغدادي، تامر) فهناك شخص منسوب إلى بغداد، أو إلى التمر وهو بائع التمر.
وهذا يعني عدم وجود اتحاد بين الذات والمبدأ، أي بين زيد وبغداد، ولا بين زيد والتمر، وإنما هناك ارتباط ونسبة بين بغداد وزيد، بين المبدأ والذات، بينما عندما نقول (عالم) فهناك اتحاد بين زيد وبين العلم، فالانتساب يعني عدم الاتحاد، والاتصاف يعني الاتحاد، والانتساب كما في انتساب شخص إلى مدينة أو إلى مهنة ما، كالتمر نقول تامر، يعني أنه يبيع التمر، ولا يوجد اتحاد بينه وبين التمر.
وعلى هذا الأساس قال الدواني: إن معنى الإنسان موجود، يعني أنه منتسب إلى الوجود ومرتبط به، أي توجد علاقة وارتباط بين الوجود وزيد ولا يوجد بينهما اتحاد، فالماهية قبل الانتساب اعتبارية ولكنها توجد وتتحقق بالانتساب إلى الجاعل.
والجواب على ذلك: إنْ حصل للماهية ثبوت وتحقق بعد الانتساب للوجود تعالى ـ للواجب ـ فهذا هو معنى القول بأصالة الوجود، وإن ظلت الماهية على حالها بعد الانتساب للجاعل الواجب كما هي، فيلزم من ذلك الانقلاب وهو محال.
ومعنى الانقلاب أن الماهية كانت قبل الانتساب أمر اعتباري، وبعد الانتساب ـ مع أنه لم يطرأ عليها أي تغير في ذاتها ـ فإنها تكون أصيلة، وهذا يعني أنها في ذاتها تكون اعتبارية وأصيلة، وهذا اجتماع للنقيضين، لأن الاعتباري مقابل الأصيل وهذا معنى الانقلاب، وهو محال.