يوجد معنيان للقديم والحادث، معنىً مستخدم عند عامة الناس، فهم عندما يقولون هذا قديم أو هذا حادث، يعنون بذلك معنى معيناً، وهذا المعنى انتقل من عامة الناس إلى الفلسفة، وأيضاً إلى علم الكلام.
أما معنى القديم والحادث عند علماء المعقول فإنّه بمعنى ثان، وإن كان هذا المعنى يعتمد على المعنى الذي كان شائعاً عند العرف.
ـ المعنى العرفي للقديم والحادث:
عندما يقول الناس: هذه سيارة قديمة، فما هو الملاك في قدمها؟ فلو كانت سيارة عمرها (20) سنة وأخرى في مقابلها عمرها (10) سنوات، فالسيارة الأولى تكون قديمة والثانية تكون حديثة أو حادثة، فالحادث في نظر العرف هو الذي مضى من زمان وجوده فترة أقل مما مضى من زمان وجود شيء آخر مقارن له.
وعلى هذا الأساس يطلقون على ذاك أنه قديم وعلى هذا أنه حديث، هذا هو النظر العرفي.
ـ معنى القديم والحادث في المعقول:
وقد استفاد الفلاسفة والمتكلمون من النظر العرفي، لأن المفاهيم الفلسفية تُقتَنص من العرف، لكن بعملية تحليل وتجريد عقلية، فمفهوم القدم ومفهوم الحدوث العرفي أخذه الفلاسفة بمعنىً آخر، فعندما يقولون: هذا الشيء قديم وهذا حادث، أصبح له معنىً آخر أوسع من المعنى المتعارف عند عامة الناس.
والمقصود بذلك أنهم لاحظوا العدم وألغوا خصوصية الزمان، أي لاحظوا الشيء المسبوق بالعدم الذي هو الحادث، والعدم أعم من أن يكون عدماً زمانياً أو غير زماني.
ـ العدم المجامع والعدم المقابل:
وعلى هذا الأساس تارة نلاحظ الممكن بنفسه، أي الماهية الممكنة نلاحظها من حيثُ تستوي نسبتها إلى الوجود والعدم، ففي ذاتها لا تقتضي الوجود، لأنها ليست واجبة الوجود، فإذا لم تتصف بالوجود، فمعنى ذلك أنها معدومة، وإذا كانت بذاتها معدومة، فلا يكون وجودها بذاتها بل بسبب آخر، والسبب هو العلة.
وهذا هو معنى الإمكان، أي استواء النسبة إلى الوجود والعدم، لأن ذاتها لا تقتضي الوجود ولا العدم. فهي ليست واجبة ولا ممتنعة.
ولهذا نقول: أن هذه الذات، كالكتاب ـ وإن كانت موجودة ـ لكن وجودها ليس بالذات، لأن هذا الكتاب لا يقتضي الوجود، إذاً هو بذاته ليس له إلاّ اقتضاء عدم الوجود، أي هناك نوع عدم يجامع وجود الكتاب، ويعبر عنه بالعدم المجامع، لأنه يجامع وجود الماهية الممكنة، بينما هناك عدم آخر لا يجامع وجود الكتاب، وهو عدم الكتاب في زمان سابق، فالسيارة الموجودة الآن كانت معدومة قبل (10) سنوات مثلاً، إذا هناك يوجد عدم سابق لوجودها، وهذا العدم لا يجامع وجودها، وإنما هو عدم يقابل الوجود. هذا هو العدم المقابل.
وعلى هذا الأساس توسع الحكماء في اطلاق معنى الحادث، فقالوا: الحادث هو المسبوق بعدم، سواء كان هذا العدم عدماً مجامعاً أو عدماً مقابلاً. والعدم المجامع يساوي الامكان الذاتي، والعدم المقابل هو عدم الشيء في زمان معين.
ـ القدم والحدوث من مباحث الحكمة الإلهية:
هذا المبحث من مباحث الفلسفة الإلهية، لأن القدم والحدوث من الأمور التي يتصف بها الموجود من حيثُ هو موجود.
ـ أنواع الحدوث:
الحدوث له صور منها:
1 ـ الحدوث الذاتي.
2 ـ الحدوث الزماني.
3 ـ الحدوث الدهري.
ـ حقيقة الزمان لدى الفلاسفة:
المقصود بالحدوث الزماني أن يكون وجود الشيء مسبوقاً بعدمه في زمان معين.
إن أي موجود في عالم الطبيعة، كالكتاب، والسيارة، والانسان ... الخ، ظرفُ وجوده هو الزمان، أو بعبارة فلسفية، الزمان هو الكمية التي يتحدد بها مقدار الحركة، لأن الزمان: كم غير قادر يتحدد به مقدار الحركة، وبالتالي فلكل موجود زمان، والزمان هو بُعْدُ وجودِ الشيء، فما دام الشيء موجوداً مادياً إذا هو متحرك، وما دام متحركاً فلابد من امتداد للحركة، وما يعين امتداد الحركة هو الزمان، ولهذا نقول: كل موجود مادي في عالم الطبية موجود في ظرف زمان.
أما الموجودات غير المادية أي المجردة، فالفلاسفة يقولون بوجود عوالم أخرى غير عالم الطبيعة، وهذا العالم يقع في طول تلك العوالم، فالموجودات في تلك العوالم غير زمانية، لأن الموجود الزماني هو الواقع في ظرف الزمان، أي إن كل موجود زماني يقع في مقطع من مقاطع الزمان، فلو فرضنا الزمان خطاً وهمياً عليه درجات، فالسيارة التي عمرها (5) سنوات، نفترض كونها على هذا الخط بمقدار (5) درجات، فتكون السيارة غير موجودة على بقية درجات الخط خارج الدرجات الخمس، فعدمها في تلك الدرجات هو عدم زماني، ووجودها في هذه الدرجات هو وجود حادث، فهي حادث زماني.
إذاً الحادث الزماني هو وجود الشيء المسبوق بعدمه في زمان معين، ولذلك نعبر عن الأشياء بالزمانيات، والشيء الزماني هو المسبوق بالعدم.
الزمان أو كل قطعة من قطع الزمان وجودها حادث زماني، لأن وجود اليوم مسبوق بوجود الأمس، ووجود الأمس مسبوق باليوم الذي قبله وهكذا.
ـ الفرق بين الحادث الزماني والقديم الزماني:
الحادث الزماني الذي يكون وجوده مسبوقاً بعدم زماني وما يقابله وهو القديم الزماني، أي الذي وجوده غير مسبوق بعدم زماني، ومثاله الزمان، أي مطلق الزمان أو الزمان المطلق، فالزمان قديم زماني، لأن وجوده غير مسبوق بعدم زماني، وإلاّ لو كان الزمان حادثاً زمانياً، فلا بد أن يكون مسبوقاً بعدم الزمان، وهذا يلزم منه التنافي، لتقدم وجوده على عدمه.
وبعبارة أخرى، تارة نلاحظ مطلق الزمان، فهو قديم زماني، وأخرى نلاحظ بعض قطعات الزمان فهي حادثة، كيوم الأحد، لأن يوم الأحد وجوده مسبوق بعدمه يوم السبت، أما مطلق الزمان فهو ليس بحادث، بمعنى الحدوث الزماني، وإنّما هو قديم زماني، لأنه لو تقدمه عدم زماني فيلزم أن يكون الزمان موجوداً قبل وجوده، فيثبت بذلك الزمان من حيثُ هو منفي، بينما في واقع الأمر ليس هناك شيء زماني متقدم على الزمان، لأن الزماني لا يوجد إلاّ في الزمان.
ـ الحدوث الذاتي:
الحدوث الذاتي هو مسبوقية وجود الشيء بإمكانه الذاتي، وليس بعدمه الذاتي. وبعبارة أخر: هو مسبوقية وجود الشيء بنوع عدم، وهو عدم الوجوب أو عدم الضرورة، أي أن ذات الشيء لا تقتضي الوجود، وإنّما هو موجود بسبب خارجي، غير ذاته.
إن كل موجود ممكن ذاته لا تقتضي الوجود، لأن كل ماهية ممكنة ليس لها بذاتها الوجود، بل وجودها بعلة خارجية، ولهذا نقول: إنّ العدم يجامع وجود هذه الماهية، لأنه ما دامت ذاتها لا تقتضي الوجود، إذاً هي بذاتها ليست موجودة، بل هي بذاتها معدومة، فالعدم يجامع وجودها، ووجودها إنما يتحقق بسبب علة خارجية، وليس من ذاتها.
فالحادث الذاتي هو الشيء الذي يسبق عدمه وجوده، أي مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته، وهذا العدم هو عدم مجامع لا عدم مقابل، بينما العدم السابق في الحادث الزماني هو العدم المقابل.
ـ إشكال:
يقال: أن الماهية إذا كانت في حد ذاتها من حيثُ هي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة، فكيف نفترض الآن أن الماهية بذاتها معدومة، لأن الماهية لا تقتضي الوجود، ومعنى ذلك أنها معدومة.
ـ جواب الإشكال:
الماهية في حد ذاتها لا تقتضي الوجود ولا العدم، ولكن عندما يراد للماهية أن توجد، حتى يكون الكتاب موجوداً، لابد من توفر علة تخرجه من العدم إلى الوجود، فتلبسه بالوجود متوقف على العلة، وتلبسه بالعدم يكفي فيه عدم العلة، فعدم العلة كاف في العدم، بينما الوجود يحتاج علّة.
وعلى هذا الأساس فإن الماهية بحد ذاتها لا موجودة ولا معدومة، أي لا الوجود ضروري لها ولا العدم ضروري لها، هذا بحسب الحمل الأولي، ولكن بحسب الحمل الشائع، أي إذا لاحظنا مصداق الماهية، فإذا لم تكن علة الماهية موجودة فالماهية معدومة. فهي في حد ذاتها أي في حقيقتها لا موجودة ولا معدومة، ولكن بحسب الواقع ونفس الأمر، إذا لم تكن علة الماهية موجودة تكون الماهية معدومة، لأن العدم يكفي فيه عدم وجود العلة.
ـ القدم الذاتي:
مقابل الحدوث الذاتي القدم الذاتي، وهو الشيء الذي يكون متصفاً بذاته بالوجود، أو هو الشيء الذي تقتضي ذاته الوجود، كواجب الوجود.
وبعبارة فلسفية: هو عدم مسبوقية الشيء بالعدم في ذاته. بينما الحادث ذاتاً، هو مسبوقية الشيء بالعدم بذاته.
فإذا كانت الذات هي عين حقيقة الوجود، حينئذ يكون هذا الشيء قديم ذاتاً.
والقديم الذاتي هو الواجب تعالى، الذي حقيقته وجوده، أما الحادث فغيره من الموجودات الممكنة.
ـ الحدوث الدهري:
إنّ الموجودات الطبيعية، الموجودة في عالم الطبيعة، كل واحد منها لابد أن يقع في الزمان، ولكي يكون زمان لابد من حركة ولكي توجد حركة لابد من مادة، لأن المادة هي التي تتحرك، فإذا كان العالم مجرداً فلا توجد مادة وبالتالي فلا حركة، وإذا لم توجد حركة فلا وجود للزمان، فالموجودات المجردة غير المادية لا تكون موجودة في زمان.
وبعبارة أخرى: يقول الحكماء هناك سلسلتان للوجود، سلسلة عرضية وسلسلة طولية، والموجودات العرضية هي عالم الطبيعة، أي هذه الموجودات المادية الموجودة في رتبة واحدة، فهذه كلها موجودات زمانية توجد وتتحقق بالزمان.
وهناك موجودات أخرى غير زمانية، أي إنها موجودة خارج دائرة الزمان، وهي الموجودات في العوالم الأخرى للوجود، التي تقع في مرتبة أعلى من عالم الطبيعة، فالموجود في زمان معين، يعني أنه موجود في عالم الطبيعة، وهذا الموجود لابد أن يكون عدمه سابقاً لهذا الزمان الموجود فيه.
بينما في العوالم الأخرى التي يقول بها الفلاسفة، كعالم المثال توجد موجودات، وهذه الموجودات مجردة، أي إنّها موجودة خارج الزمان، أو قل: إنّها موجودة في عالم الدهر، حسب تعبير الميرداماد.
إذاً الموجودات في عالمنا، كالكتاب مثلاً، غير موجودة في ذلك العالم بوجودها المادي، حتى يكون وجودها مسبوقاً بعدمها الزماني، لأنه لا يوجد زمان في ذلك العالم، وإنما وجودها يكن مسبوقاً بعدمها في ذلك العالم، فيعتبر العقل أن وجود تلك الموجودات في العوالم غير المادية، الخالية من الزمان، فيعتبر وجود الكتاب مصداقاً لعدم الكتاب في ذلك العالم، بمعنى أن وجود الكتاب مسبوق بعدمه في ذلك العالم. وهذا بمثابة وجود هذه السيارة مثلاً التي عمرها (5) سنوات والذي كان مسبوقاً بعدمها في الـ (15) سنة السابقة، التي كانت موجودة فيها السيارة التي عمرها (20) سنة، فانه يعتبر وجود السيارة التي عمرها (20) سنة، في الخمسة عشرة سنة الماضية، مصداقاً لعدم هذه السيارة التي عمرها خمس سنوات.
وهنا الشيء نفسه يقال: إذ يعتبر وجود الموجودات في العوالم المجردة، أي في عالم الملكوت وفي عالم الجبروت، يعتبر وجودها مصداقاً لعدم السيارة في تلك العوالم، أو قل: كما أن الوجودات الزمانية راسمة للعدم الزماني، كما أن الوجود الزماني للسيارة التي عمرها عشرين سنة راسم للعدم الزماني للسيارة التي عمرها خمس سنوات، كذلك الموجودات في عالم الملكوت وفي عالم الجبروت يكون وجودها راسماً لنحو آخر من العدم بالنسبة لهذه السيارة أو بالنسبة لهذا الكتاب، وهو العدم الدهري.
فما كان وجوده مسبوقاً بالعدم الدهري يكون حادثاً دهرياً، وما لم يكن وجوده مسبوقاً بالعدم الدهري يكون قديماً بالقدم الدهري، هذا هو الحدوث والقدم الدهري.
وبذلك يتبين أن الحدوث الدهري الذي يقول به الميرداماد، يعني مسبوقية وجود الشيء بعدمه الواقعي، أي بالعدم المقابل لا العدم المجامع، وهذا العدم هو عدم واقعي للشيء، أي عدم ذات الشيء، ولكن ليس عدماً في زمان معين، لأنه عدم خارج إطار الزمان، عدم في تلك العوالم، في عالم الملكوت والجبروت كما يقول.