1 ـ حتميّة الشهادة:
من ابرز سمات ثورة الاءمام الحسين(ع) الدعوة اءلي الشهادة،والاستماتة في سبيل الله، ولم يزل الحسين(ع) منذ ان غادر مكة اءليالعراق، اءلي يوم عاشوراء، يؤكّد لمَن يلقاه، ولمَن يصحبه انّ سبيله وسبيلمَن يصحبه الموت.
ومهما شكّ الاءنسان في شان من شؤون هذه الثورة الفريدة فيالتاريخ فلن يشكّ انّ الحسين كان ينعي نفسه اءلي الناس في خروجه اءليالعراق، وكان يعلن اءلي الناس انّ سبيل مَن يخرج معه الشهادة لا محالة،وانّ مَن يخرج معه لن تتخطّاه الشهادة.
روي اصحاب السيّر انّ الحسين(ع) لما اراد الخروج اءلي العراق قامخطيباً فقال:
«خُطّ الموت علي ولد ا´دم مخطّ القلادة علي جيد الفتاة، وما اولهني اءلي اسلافياشتياق يعقوب اءلي يوسف، وخيرٌ لي مصرع انا لا قيه».
والاءمام(ع) في هذه الخطبة ينعي نفسه اءلي الناس، ويفتح خطابهللناس بالتعريف علي الموت.
ثم يدعو الناس اءلي الخروج معه، ويطلب منهم مهجهم وان يوطّنواانفسهم في الخروج معه للقاء الله.
«.. من كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً علي لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فاءنّي راحلمصبحاً اءن شاء الله».
روي السيد ابن طاووس في (اللهوف) بالاءسناد عن ابي عبداللهالصادق(ع)، قال: سار محمد بن الحنفيّة اءلي الحسين(ع) في الليلة التي ارادالخروج في صبيحتها عن مكة، فقال: يا اخي، اءن اهل الكوفة مَن عرفتغدرهم بابيك واخيك، وقد خفت ان يكون حالك كحال مَن مضي، فاءنرايت ان تقيم، فاءنّك اعزّ مَن في الحرم وامنعه.
فقال (ع): «يا اخي، قد خفت ان يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فاكون الذييُستباح به حرمة هذا البيت».
فقال له ابن الحنفيّة: فاءن خفت ذلك فسر اءلي اليمن او بعض نواحيالبرّ، فاءنّك امنع الناس به ولا يقدر عليك احد، قال: انظر فيما قلت، ولمّا كانالسحر ارتحل الحسين (ع) فبلغ ذلك ابن الحنفية، فاتاه فاخذ زمام ناقتهالتي ركبها، فقال له: يا اخي، الم تعدني النظر فيما سالتك؟
قال: بلي.
قال: فما حداك علي الخروج عاجلاً؟
قال(ع): «اتاني رسول الله(ص) بعد ما فارقتك في المنام فقال: يا حسين(ع)اُخرج فاءنّ الله قد شاء ان يراك قتيلاً».
فقال ابن الحنفيّة: اءنّا لله واءنّا اءليه راجعون، فما معني حملك هؤلاءالنساء معك، وانت تخرج علي مثل هذه الحال؟
فقال له: «قد قال لي: اءنّ الله قد شاء ان يراهنّ سبايا»، وسلّم عليه ومضي.
ونصح الحسين(ع) نفر ممّن كان الحسين(ع) لا يشكّ في صدقهم فيالنصيحة، وفهمهم للحالة السياسية في العراق ان لا يذهب اءلي العراق، وانما´له في العراق وما´ل اصحابه واهل بيته القتل.
وكان الحسين(ع) يجزيهم خيراً علي صدق النصيحة، ثم لا ينثني عنعزمه، ونحن لا نشكّ في صدق هؤلاء النفر، واءنّ الحسين(ع) كان لايتّهمهم في نصيحتهم، واءنّ الامر في العراق كان كما يتوقعه هؤلاء.
ونعتقد انّ ما كان يتوقّعه هؤلاء من تخاذل الناس في العراق عننصرته، لم يكن يخفي' علي الحسين(ع)، ولكن الحسين(ع) كان يري ما لايرونه ويعرف ما لا يعرفونه.
لقد كان الحسين(ع) يري ان لا سبيل له للقضاء علي فتنة بني اُمية التيطالت هذا الدين وهذه الاُمة اءلاّ بقتله وقتل مَن معه من اهل بيته واصحابه،وكان يعرف هذه الحقيقة بوضوح، ولم يكن يشكّ في ذلك. وهذا ما كانيخفي علي اُولئك النفر الذين كانوا ينصحون الحسين(ع) الاّ يغترّ بكتباهل العراق ودعوتهم له ـ ولم يكن بوسع الحسين(ع) ان يفصح لهم عمّايراه ويعرفه.
وا´خر مرّة اعلن الحسين(ع) لاهل بيته واصحابه ان ما´لهم الشهادة،ليلة العاشر من محرّم، جمع الحسين(ع) اصحابه وخطب فيهم، واحلّهم منبيعته وقال لهم: «ذروني وهؤلاء القوم فاءنّهم لا يطلبون غيري، ولو اصابونيوقدروا علي قتلي لما طلبوكم».
فلمّا توثّق من عزمهم علي الشهادة معه قال لهم:
«اءنّكم تقتلون عذراً، كذلك، لا يفلت منكم رجل قالوا: الحمدالله الذي شرّفنابالقتل معك».
اجل، اءنّ مَن يقرا سيرة الحسين(ع) من المدينة اءلي كربلاء من دونمسبقات ذهنيّة لا يشكّ في انّ الحسين(ع) لم يكن يطمع في مسيرته هذهبالحكم والسلطان، ولم يكن يتوقع في هذه المسيرة غير القتل والسبي لهولمَن معه من انصاره ولاهل بيته وحرمه ونسائه.
ولم يكن العبادلة الاربعة: (عبدالله بن مسعود، عبدالله بن عباس،وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير) الذين نصحوا الحسين بالاءعراضعن العراق اعرف من الحسين واخبر منه بحال العراق وحال الناس فيالعراق في هذه الفترة.
وهذه السمة كما ذكرت هي ابرز معالم وسمات عاشوراء، واءلغاء هذهالسمة هو تجريد عاشوراء من قيمتها التاريخية الكبيرة.
2 ـ حتميّة الفتح:
وهذه هي الحتميّة الثانية من حتميّات وثوابت الثورة التي يقودهاالحسين(ع)، والاءمام(ع) يقرّر هنا هذه الثابتة الثانية، بنفس الدرجة منالجزم الذي يقرّر به الثابتة الاُولي، وهي مفهوم الجملة الثانية «ومَن لم يلحقبي لم يدرك الفتح».
ولهذه الجملة منطوق وهو واضح مفهوم؛ وهو اءنّ من لحق به ادركالفتح، ولا يقلّ المفهوم في الوضوح عن المنطوق.
والاءمام(ع) يقرّر هذه الحقيقة قبل ان يغادر الحجاز اءلي العراق، وقلّمايتفق انّ قائداً يجزم بالنصر قبل دخول المعركة، اءلاّ مجازفة في القول، اودعماً وتثبيتاً لنفوس المقاتلين.
والحسين(ع) ليس ممّن يطلق القول مجازفة بالتاكيد، وليس بصدددعم وتثبيت قلوب الناس لما يؤول اليه ا´خر القتال؛ لانّ الاءمام(ع) يدعوالناس في حركته هذه اءلي الموت علانيّة وصراحة، وهذه الدعوة الصريحةلا تنسجم مع التوّجه الاءعلامي والنفسي اءلي دعم وتثبيت نفوس الناس اءلينتائج الحركة في المعركة.
تري ما هو الضمان الاكيد الذي يملكه الاءمام(ع) في هذا الشان؟وتري ما هو معني الفتح في القاموس السياسي عند الاءمام(ع)؟
اءنّ الاءمام(ع) لا يريد بالفتح هنا الفتح العسكري الميداني، ولا يمكنان يريد به هذا المعني الذي يطلبه القادة العسكريون في حروبهم. ولسنانشكّ في هذه الحقيقة، ولسنا نطلق هذا الكلام جزافاً واعتباطاً. فقد كانالاءمام(ع) اخبر بالحالة السياسية في العراق من ان يتوقّع فتحاً عسكرياً اويغترّ بالناس.
اءذن الاءمام(ع) يريد بالفتح معني ا´خر، اقرب اءلي المفاهيم الحضاريّةمنه اءلي المفاهيم العسكرية. اءنّ الاءمام(ع) يجد ان بني اُمية قد عملوا علياستعادة الجاهلية اءلي الاءسلام بافكارها وقيمها، وحتّي المواقع السياسيةوالاجتماعية التي حرّرها الاءسلام من نفوذ الجاهلية، استعادها بنو اُمية اءليدائرة نفوذهم من جديد، واحتلوا مواقع السلطة والنفوذ والمال فيالمجتمع الاءسلامي الجديد، كما كان يحتل سلفهم هذه المواقع فيالمجتمع الجاهلي الصغير في مكة من قبل، دون ان يكون قد حدث تغييرجوهري في مواقفهم وافكارهم عما كانوا عليه في الجاهلية من قبل. اءلاّ انّمواقعهم يومئذ في الجاهلية كانت محدودة وضعيفة وهزيلة ومعزولة فيقلب الصحراء، واليوم اصبحت هذه المواقع بفضل الاءسلام تحكم الساحةالمعمورة من الارض، وتخضع لها اقاليم واسعة من الارض كانتتحكمها الامبراطوريتان الرومية والفارسية من قبل.
وقد تحوّلت هذه المواقع اليوم بكل نفوذها اءلي ايدي بني اُمية دونان يكون قد حصل تغيير جوهري في افكار بني اُمية ومواقفهم.
وهذه هي النفثة التي يلقيها الحسين(ع) يوم عاشوراء علي الناس قبلبدء القتال:
«سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها علي عدوّناوعدوّكم، فاصبحتم اءلباً لاعدائكم علي اوليائكم، من غير عدل افشوه فيكم، ولا املاصبح لكم فيهم».
لقد كانت الشام يومئذٍ المركز السياسي الاوّل في العالم المعمور،تبسط نفوذها علي مساحات واسعة من المعمورة، وتهابها الدنيا، وهذهالقوة والسيادة والنفوذ، استحدثها الاءسلام للعرب، ولم يكن للعرب منقبل عهد بمثل هذا النفوذ والسلطان الواسع، وقد اقام الاءسلام هذه القوةعلي وجه الارض لاءقامة التوحيد والعدل، وللقضاء علي المستكبرينواعداء البشرية، وللاسف ان تتحول هذه القوة والنفوذ اليوم اءلي اقطابالجاهلية العربية من جديد، بعد ان حرّرها الاءسلام منهم، ويستعيد بنو اُميةسلطانهم علي هذه المواقع، دون ان يحدث تغيير جوهري في افكارهمومواقفهم وترفهم وسيطرتهم وعدوانهم وقهرهم واستكبارهم عليالناس. والحسين(ع) يعبّر عن هذه القوة التي استحدثها الاءسلام وحمّلهاالعرب بـ (السيف)، فيقول بكل اسف وحسرة: اءنّ رسول الله(ص) هو الذيجعل هذه القوة في ايمانكم لتقاتلوا اعداءنا واعداءكم (ائمة الشرك)فوضع بنو اُمية ايديهم علي مواقع السلطة في المجتمع الجديد في انقلابعكس (ردّة)، فبايعهم الناس علي ذلك، تراجع معهم في هذه الردّةالعكسية، وشهروا سيوفهم في وجه ا´ل محمد: «سللتم علينا سيفاً لنا فيايمانكم»، من غير ان يتحول بنو اُمية في هذا الموقع الجديد عن مواقعهمالجاهلية الاخلاقية والسلوكية والحضارية، واخطر من كل ذلك كلّه انّهموضعوا ايديهم علي هذا المواقع الخطير من المجتمع الاءسلامي الجديد منموقع الشرعية الاءسلامية، خلافة عن رسول الله(ص).
لقد واجه الحسين(ع) كارثة بالمعني الدقيق، حلّت بهذا الدين، وبهذهالاُمة.
وكان همّ الحسين(ع) في هذه المرحلة الحسّاسة من التاريخ اءلغاءالشرعية وسلب الصفة الشرعيّة عن دولة بني اُمية، وهذا العمل كان اعظمما قام به الحسين(ع) في هذه الثورة، ونجح الحسين(ع) في ذلك نجاحاًكاملاً، وقد دام حكم بني اُمية بعد الحسين(ع) زمناً طويلاً، غير انّ بني اُميةلم يعدلهم في نظر المسلمين بعد وقعة الطف موقع الشرعية الدينية فيالحكم، بعنوان خلافة رسول الله(ص) واءمرة المؤمنين، واءن كانوا يسمّونانفسهم بهذا او ذاك، وكانوا في نظر عامّة المسلمين حكّاماً زمنيين ملكواالحكم عنوة، و«بالعنف»، ولم يكن لهم شان مثل شان الخلفاء من قبلهماءلي ولاية الاءمام الحسن(ع) بعد ابيه(ع)، ولم ياخذ الناس عنهم دينهم كماكانوا ياخذون عن الخلفاء من قبلهم. ولم تعد لموقع الخلافة القدسيّة التيكانت لها قبل وقعة عاشوراء.
والرسالة الثانية لثورة الحسين(ع) اءعادة روح الجهاد والمسؤوليةوالمقاومة اءلي الناس، لقد سلب بنو اُمية فيما سلبوا اءرادة الناس، فاصبحالناس، تبعاً لا´ل اُمية، لا راي لهم، ولا عزم لهم، ولست ادريماذا فعل بنواُمية، خلال السنوات التي حكم فيها معاوية بن ابي سفيان وابنه يزيد بنمعاوية؟ حتّي احضر عبدالله بن زياد راس الحسين(ع) ابن بنت رسول اللهفي مجلس عام في قصره، قد اذن للناس فيه فينكث شفتي ابن رسول اللهبخيزرانة كانت بيده، فلم ينكر عليه احد غير زيد بن ارقم؛ الذي كانيحضر عندئذ هذا المجلس، وعبدالله بن عفيف الذي سمع من ابن زيادكلامه في عليّ(ع) والحسين(ع) واهل بيته، فاغضبه ذلك، فسبّ ابن زيادوشتمه علي رؤوس الناس واسخطه واغضبه، واهانه؛ .
ولم يذكر المؤرّخون غيرهما مَن اعترض علي ابن زياد.
اءنّ الاءرهاب الذي مارسه بنو اُمية ايام حكم معاوية وابنه يزيد سلبالناس العزم علي اتخاذ الموقف، والقدرة علي مواجهة الظالمين، واُمةتبلغ هذا المبلغ من الضعف لا يرجي منها الخير.
وقد كانت رسالة الحسين(ع) الثانية في ثورته ان يهزّ الضميرالاءسلامي هزّة عنيفة، ويعطيها صدمة قويّة تعيدها اءلي وعيها واءرادتهاوعزمها وقوّتها، وما اراد الله تعالي لها من الاءمامة والشهادة علي وجهالارض.
اءنّ ما يطلبه الحسين(ع) في هذه الثورة وهو هذا وذاك، ولن يتمّ ايّمنهما اءلاّ بدماء غزيرة وعزيزة، وتضحية ماساوية فريدة بنفسه واهل بيتهواصحابه.
وليس ما كان يريده (ع) الفتح بالمعني العسكري الذي يقصده القادةالعسكريون... وكان ابعد ما يكون عن طلب مثل هذه الغاية، واعرفواخبر بعصره، والظروف المحيطة من الذين كانوا ينصحونه بعدمالخروج وينذرونه بانفراط الناس عنه. اءنّ الذي يتابع مسيرة الحسين(ع)من المدينة الي كربلاء، ومن الحجاز الي العراق لا يشكّ ان الحسين(ع) لميكن يطلب هذا النوع من الفتح.
والفتح الذي يشير اءليه الاءمام في كتابه اءلي محمّد بن الحنفيّة ومن قبلهمن بني هاشم هو من نوع ا´خر شرحناه ا´نفاً.
والاءمام (ع) يجزم بالفتح في حركته هذه، ويري انّ من يخرج معهينال الفتح لا محالة، ومَن يتخلّف عنه لا ينال الفتح البتة. تري ما هوالضمان الذي يستند اليه الاءمام(ع) في الجزم بالفتح؟ اءنّ الضمان هو وعدالله تعالي لمن نصره بالنصر والفتح، والله تعالي لا يخلف وعده.
يقول تعالي: (اءِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
(اءنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
(اءِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ا´مَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ اءِنَّ اللَّهَ لَقَوِّيٌ عَزِيزٌ).
والحركة التي يقدم عليها الحسين(ع) تستجمع كل الشروط التييطلبها الله تعالي من عباده ليهبهم النصر وهي: الاءيمان، والاءخلاص،والتقوي، والجهاد في سبيل الله.
ولم يشكّ الحسين(ع) لحظة واحدة انّ الله تعالي ينصره في هذهالحركة، وانّ النصر لن يُخطئه وهذه هي الحتميّة الثانية في هذه الحركة.