عربي
Wednesday 3rd of July 2024
0
نفر 0

في هكذا ظروف ومريم العفيفة الباكر خافت على سمعتها وشرفها وعفافها من هذا الشاب المرسل فبدأت تنصحه:

في هكذا ظروف ومريم العفيفة الباكر خافت على سمعتها وشرفها وعفافها من هذا الشاب المرسل فبدأت تنصحه:

(قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال (جبرئيل) إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، قال كذلك قال ربك هو عليَّ هيّن ولنجعله آيةً للناس ورحمةً منا وكان أمراً مقضياً). [سورة مريم: الآيات 18 - 21].

فحملت بالنبي عيسى (عليه السلام) بهذا الأسلوب الغيبي ومن المؤكد أن مريم عاشت القلق والضغوط النفسية والاجتماعية نتيجة لهذه الطريقة غير المألوفة ولكن إيمانها بالله سبحانه كان هو الضمانة لصبرها وكرامتها وبالفعل كانت ضغوطاً عسيرة تحيطها من جانب.

(فأجاءها المخاض إلى جذعِ النخلة قالت يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً). [سورة مريم: الآية 23].

وأول معجزة يسجلها عيسى (عليه السلام) على الأرض أنه كلّم أمه وهدّأ روعها (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا) ماءً سارياً فانفجرت الأرض ماءً بعد أن ضرب المسيح رجله على الأرض.

(وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جنياً، فكلي واشربي وقري عينا). [سورة مريم: الآيات 25 - 26].

وعلَّمها طريقة التخلص من ألسنة الناس الذين سيواجهون أمه باللوم تارةً وبالتهمة تارةً أخرى بتحويل المسألة إليه ليجيبهم بقدرة الله سبحانه فقد قال في محكم الكتاب الكريم: (فامّا تريّن من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً، فأتتْ به قومها تحمله) - وهي فرصة لهذه التطمينات والإجابات الحية والدامغة - .

(قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّا - عجيباً - يا أخت هارون ما كان أبوكِ امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا). [سورة مريم: الآيات 27 - 28].

هارون رجل الصلاح فحينما يريدون أن يصفوا إنساناً بالصلاح يقرنوه بهارون (فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبياً). انطلق الصبي الرضيع بالإجابة الوافية والرد الشافي للشبهات المرفوعة عليه وعلى أمه الطاهرة.

(قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً). [سورة مريم: الآيات 30 - 32].

فعرف الناس أنه المولود الذي ينتظرونه لكي ينقذهم من الجهل والضلال إلى نور الهداية والاستقامة والصلاح واعترف كثير من رهبان اليهود وعظمائهم بأنه المسيح المنتظر لانقاذ الأمة من الويلات.

ومرت الأيام وبدأ ينشر رسالته مستنداً على المعاجز الإلهية التي تجري على يديه فهو الذي كلّم الناس في المهد صبياً ومعجزته في القضايا المستعصية بالطب من إشفاء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى هذه المعجزة كانت مناسبة لزمانه حيث تطور الطب ووسائله ومن الطبيعي بدأ اليهود بالتشكيك والتكذيب (فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين) ولكن التأييد الإلهي المطلق للنبي عيسى وظهور المعاجز الكبرى على يديه مما أحبط مؤامرات الأعداء فقد قال سبحانه:

(إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبيّنات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين). [سورة المائدة: الآية 110].

فاستطاع النبي عيسى بهذه المعاجز الجبارة وبسموه الخلقي العالي وتقشفه بالحياة أن يؤثر في بعض الناس ويهديهم إلى الصراط المستقيم على عكس المعاندين المتضررين بالدعوة الجديدة فأصبح من الناس الحواريون الملازمون للنبي عيسى واستطاع بجهده المبارك في التبليغ والشفاء أن ينشر الدين الجديد ويروى أن المسيح (عليه السلام) شفى خمسين ألف إنسان في مختلف الأمراض المستعصية. والحواريون كان لهم الدور البارز في مساعدة النبي في نشر الدين ويُقال أن أحد الحواريين أرسله النبي (عليه السلام) إلى الروم وزوّده بمعجزة إبراء الأكمه والأبرص فذهب للتبشير وهنالك كان بإمكانه معالجة أي مريض وشفائه بإذن الله فعظم أمره فدعاه الملك وحاججه ثم أتى له بغلام منخسف الحدقة لا عين له قائلاً له إن كنت صادقاً فابرئ هذا الغلام فَوضَع الحواري بندقيتين من الطين مكان عيني الغلام ودعا ربه سبحانه فإذا به بصير يرى كل شيء فآمن الملك بالمسيح (عليه السلام) وقرّب الحواريين لمنزلةٍ رفيعةٍ. وكثيرة هذه القصص التي كانت تساعد المبشرين في مواقفهم وتساعد المسيح (عليه السلام) في اقناع الناس للدين المسيحي فكان يحيي الأموات الذين ماتوا منذ زمنٍ سحيق لغرض خلق الحالة الإيمانية في نفوس الناس.

وهكذا استطاع النبي المسيح (عليه السلام) أن يدخل قلوب المهتدين ويبدأ الحسد بدوره الخبيث في قلوب المعاندين والكافرين فكانت المواجهة والمعاناة والآلام التي لحقت أصحاب الحق كبقية الأنبياء وأتباعهم.

النبي محمد (صلى الله عليه وآله):

ولد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في مكة المكرمة في تموز عام 570 للميلاد ضمن ظروف اجتماعية خاصة يسودها الجهل والتخلف وإلى جانب ذلك كان يشكو منها الضعيف والفقير والمحروم لأن لغة الغاب كانت هي المسيطرة على السلوك العام فالقوي يستغل الضعيف والظالم يأكل المظلوم، كل ذلك دفع المجتمع بالتفكير الجدي نحو الخلاص من القلق والاضطراب والحروب والاعتداء بالاضافة إلى وجود الخلفية الفكرية لدى الناس وبالذات الخلفية الدينية المنتظرة للمنقد والمصلح وهو نبي آخر الزمن، يقول القرآن الكريم: (وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين) فكانت حالة الانتظار لهذا المولود المنقذ موجودة لدى عموم البشرية والعارفين منهم والمستضعفين أيضاً وفعلاً بزغ النور الإلهي على يد الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) ليضع حداً لحالات الاستغلال وإراقة الدم والتقهقر والسلبية ويزرع بوادر الخير والصلاح والايجابية في شتى ميادين الحياة والسلوك فولادة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت ولادة العدل والحق والحرية وهي بداية انقشاع الظلم عن الناس. فبلّغ برسالة الناس التي تعتبر بحق رسالة الحياة بكل معنى الكلمة الخاص والعام للحياة الدنيوية والأخروية وبيّن القوانين الإلهية الصغيرة والكبيرة التي تحيط الإنسان والمجتمع ضمن ضوابط قانونية محددة فدخل القانون الإسلامي إلى البيت والأسرة والشارع والعمل بكل صنوفه تجارة وصناعة وزراعة بل قنّن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وكان الرمز الأول والقدوة الحسنة للمسلمين على مر العصور.

(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). [سورة الأحزاب: الآية 21].

والنبي (صلى الله عليه وآله) هو القدوة الحسنة الذي مارس دوره في تطبيق القرآن الكريم بالخطوات الميدانية التي أصبحت مكملة وموضحة لتعاليم القرآن الكريم فصار قول النبي (صلى الله عليه وآله) وفعله وتقريره لوائح القانون الإسلامي بعد القرآن. فكان يفكر في حل أزمات الفرد والمجتمع قبل البعثة وبعدها فكان تفكيره للمصلحة العامة فيفكر ويجهد نفسه خدمة للمجتمع ويضحي خدمة للناس ويقدم للأمة كل ما يستطيع لأجل إنقاذهم وإصلاحهم فبلغت أخلاقه الذروة العليا فقد وصفه سبحانه في محكم كتابه:

(وإنك لعلى خلقٍ عظيم). [سورة القلم: الآية 4].

كان (صلى الله عليه وآله) بعيداً عن حب ذاته وحب الدنيا والشهوات لا تأخذه في الحق لومة لائم معروف بالصدق والأمانة منذ صغره فكان يلقب (بالصادق الأمين) وعُرف بين أهله وعشيرته بأنه رجل الصلاح والخير وعرف بأنه ناصر المظلوم ورافض الظلم والظالم دون خوف أو وجل. اشتهر في الأوساط الاجتماعية - قبل البعثة - بأنه رجل الاستقامة ومثال العدل والإنصاف - حتى أن أعداءه شهدوا له بهذه الصفات السامية قبل بعثته وبعدها وقصة الحجر الأسود واختلاف القبائل العربية فيمن ينال شرف الرفعة والمكانة العالية بوضع الحجر في موضعه بعد البناء، وكاد السيف أن يقع بين العرب آنذاك لولا اتفاقهم على تحكيم أول من يدخل باب البيت الحرام وكان الداخل رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) قالوا: هذا محمد، هذا الأمين قد رضينا به يعني حكماً وبالفعل عالج الأمر بحكمته فجعل الشرف يتوزع على حملة الرداء الحامل للحجر الأسود وكل القبائل ساهمت برفعه عبر مندوبيها وقضى على الفتنة في مهدها ، وكثيرة هذه المواقف قبل بعثته (صلى الله عليه وآله).

أما بعد البعثة فيكفي أن أعداءه يعترفون بسموه الخلقي ونبله وشرفه ففي مرة صعد (صلى الله عليه وآله) جبل الصفا فقال:

يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لكَ؟ فقال: (أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني). قالوا: بلى قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).

المهم أنهم يصدقونه في الخبر مهما كان نوعه لأنهم لم يعهدوه كاذباً قط.. وما أجمل ذلك اللقاء بين هرقل ملك الروم وبعض تجار قريش بعدما وصلت رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) لهرقل يدعوه للدين الجديد.. فسأل هرقل عن معارف الرسول (صلى الله عليه وآله) فأجاب أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً. قال له هرقل: هل أنتم كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فأجاب أبو سفيان بالنفي حيث جرى الحق على لسانه وسأله هرقل: هل يغدر؟ أجاب بالنفي وهنا نردد مقولة الشاعر - والفضل ما شاهدت به الأعداء - فأبو سفيان ألد أعداء النبي (صلى الله عليه وآله) لا يجرؤ باتهام النبي (صلى الله عليه وآله) بالكذب أو الغدر أو الخيانة وهذا أبو جهل ألد أعدائه أيضاً يقول عنه (إن محمد لصادق وما كذب محمد قط) فلذلك نلاحظ أن تأريخه يمتاز بسمعة جيدة ونزيهة تحيط بشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) هذا التاريخ الشامخ خدمه كثيراً في صراعه مع الجاهلية وصدق الله حيث يقول:

(الله أعلم حيث يجعل رسالته). [سورة الأنعام: الآية 124].

فهو (صلى الله عليه وآله) مهيّأ لهذا الدور الكبير في حمل الأمانة الإلهية والرسالة المباركة والنجاح في تبليغها ومن صور تأريخه الشخصي أن قلبه النقي الطاهر كان يتألم لظواهر الفساد والانحراف والجهل في الأمة فكان يعتزل الناس ليناجي ربه الكريم في غار حراء غارق في مناجاة ربه الجليل تم تبليغه بالأمر فقد اختاره الله سبحانه للنبوة وبعث إليه الأمين جبرائيل ليبلغه الرسالة فنزل عليه بقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق....).

هذا وقلنا فيما مضى إن البشرية كانت تنتظر البشير المنقذ والذي ساعد على الانتظار بشائر الكتب السماوية من التوراة والإنجيل ببعثته (صلى الله عليه وآله).

(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..). [سورة الأعراف: الآية 157].

فكانت البشرية تنتظر هذا النبي المصلح الذي سيخرجها من الظلمات إلى النور وكانت الكتب السماوية قد هيّأت الأذهان لهذا الرسول المنقذ وفي سورة الصف؛ الآية: 6 قال تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).

وكان القساوسة والرهبان قد بيّنوا علامات وأوصاف النبي الجديد حسب ما صورته أسفارهم المقدسة وبالفعل دخل منهم للإسلام من آمن بتشخيص تلك الصفات في النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ومنهم (ابن حواشي) من كبار اليهود وعلمائهم ترك الشام قاصداً الحجاز ينتظر خروج النبي المصلح وأوصى عند موته: (تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبيٍّ يُبعث هذا أوان خروجه يكون مخرجه بمكة وهذه دار هجرته وهو الضحوك القتال يجترئ بالكسرة والتميرات ويركب الحمار العاري في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة..)(20).

وهذا (بحيرا) الراهب المسيحي فقد رأى أن النبي في طفولته وشخّص علامات النبوة فيه فقال لأبي طالب: فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنَّه شراً فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم(21).

أما الراهب المسيحي الآخر (نسطور) فرأى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في شبابه فبشّر بنبوته معتمداً على العلامات التي عرفها في الكتب المقدسة فكان يقول هو نبيٌّ وهو آخر الأنبياء(22).

المهم إن حياة النبي (صلى الله عليه وآله) منذ ولادته وطفولته وصباه وشبابه مروراً بأيام تجارته وزواجه وانتهاءً بآثاره السلوكية الرفيعة حافلة بكل معاني السمو والنيل إلى أن بعثه الله نبياً هادياً.

فحادثة الحجر ودخوله في حلف الفضول لنصرة المظلوم وتجارته الأمنية وتعامله الشخصي وشهادات علماء ومفكري الديانات السابقة ونصوص الكتب المقدسة أيضاً كل ذلك كان بمثابة الأرضية الصالحة للقيام بهذه المهمة الصعبة.. فبدأ (صلى الله عليه وآله) بدعوته السرية ولمدة ثلاث سنوات استطاع (صلى الله عليه وآله) فيها أن يوجد اللبنات الأساسية الأولى للمجتمع الإسلامي وبعدها أعلن دعوته بأمر الله تعالى لكننا نلاحظ بعد اعلان رسالته بدأت تتكالب عليه المؤامرات من قبل أعدائه والمتضررين بالدعوة الجديدة حيث التقى أعداؤه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لضربه وتصفيته وإنهاء دوره ومنهجه وفعلوا كل ما أوتوا من خبث ودسيسة وقوة فاستقبلته قريش بجاهليتها وغرورها بشتى أنواع السخرية والاستهزاء والمحاربة النفسية والجسمية.

فجاءت قريش لعمه أبي طالب.. يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفّه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا ! وفرق جماعتنا فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالاً حتى يكون أغنى رجل في قريش ونملكه علينا...

وجاءت إجابة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لهؤلاء الجهلة كالسيف القاطع لأباطيلهم حيث قال (صلى الله عليه وآله): (يا عم لو ضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) بهذه المبدئية القاطعة ردّهم ليتفكروا ملياً بأهداف الرسول المقدسة هذا والنبي (صلى الله عليه وآله) مستمر في دعوته المباركة فكوّن الحلقات الإيمانية الأولى من طبقات المجتمع المختلفة باللون والعرق والجنس على أساس التقوى والإيمان ولكن قريش بل الجاهلية الرعناء صبت جام غضبها على النبي (صلى الله عليه وآله) وصحبه الكرام للانتقام منهم.

فتآمرت الجاهلية بكل صنوفها وخططت لضرب الرسول والرسالة مفرغة أحقادها واضغانها بشتى الوسائل والطرق لإطفاء نور الله سبحانه فابتدأوا بالسخرية والحرب النفسية فدفعوا الصبية للاستهزاء بالنبي ومارسوا الإيذاء الجسدي والنفسي فكانوا يرمونه بالأشواك ويضعون في طريقه القاذورات والأشواك ربما كان يعود إلى منزله ورجلاه تقطران دماً... وقذفوه بالكذب والسحر والخداع بعد أن وصفوه بالصادق الأمين قبل إعلان الدعوة المباركة! وقد مرّ معنا كيف كان يصفه أعداؤه وحينما سئل أبو جهل عن الرسول أنه كاذب ؟ قال: (إن محمداً لصادق وما كذب قط) وأما أصدقاؤه ومحبوه فأمر مفروغ عنه ويكفي أن نذكر خطبة عمّه أبي طالب عند زواج ابن أخيه محمد من خديجة قال: (فإن محمداً ممن لا يوزن به فتىً من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً فإنما المال ظل زائل وعاريه مسترجعة...).

المهم توجهوا للرسول (صلى الله عليه وآله) بالحرب الجسمية والنفسية وما اكتفوا بذلك بل عذّبوا من آمن به أشد تعذيب من أسرٍ وإهانةٍ وضرب ربما حتى الموت كما صُنع بالصحابي ياسر وزوجته الشهيدة سمية حيث طعنها أبو جهل بحربته الظالمة بعد أن ضجت ألماً على الصخرة الملتهبة الرمضاء كل ذلك حقداً على إيمانها برسالة محمد (صلى الله عليه وآله).

وطاردوا المسلمين واشاعوا الشبهات حولهم ولاحقوهم في الهجرة الأولى إلى الحبشة كي يثيروا النجاشي ضدهم ولكن الله سبحانه هو الذي يدافع عن الذين آمنوا في كل مكان فانقلب السحر على الساحر حيث ردّت رشوتهم وعادوا خاسرين بعد أن استمع النجاشي كلام مندوب المسلمين جعفر بن أبي طالب في عقيدة الإسلام بالسيد المسيح (عليه السلام).

وهكذا ضربوا على بني هاشم ومن آمن بالرسالة الطوق الاقتصادي فحوصروا في شعب أبي طالب أكثر من ثلاث سنين وعُلقت المقاطعة الاجتماعية والاقتصادية في الكعبة وبالفعل كانت تجربة قاسية ومؤلمة عاشها المسلمون الأوائل في تلك الأيام الخانقة حتى كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتألم كثيراً حينما يسمع صراخ الأطفال والنساء جوعاً وعطشاً.

ومع كل هذه الأساليب الوحشية المتعددة فقد كانت بمثابة سحابة صيف فما أفلحت هذه الأساليب لضرب كلمة الحق فقد تحول الفكر الإسلامي إلى سيلٍ متنامٍ هادر وقد بات مهدّداً لمصالح الكفر والجهل والإنحراف فقد اتصل الرسول (صلى الله عليه وآله) في أيام الحج بأهل المدينة وبالتحديد بالخزرج واستطاع أن يؤثر فيهم فدعاهم للإسلام فآمنوا به وقالوا: والله إنه للنبي الذي تواعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه. ورجعوا إلى أهلهم يبلغونهم الأمر وبالعام القادم جاء إثنا عشر رجلاً من يثرب بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله) وسميت بيعت العقبة الأولى فبعث النبي (صلى الله عليه وآله) الصحابي الجليل مصعب بن عمير معهم فأسس هذا الرجل قاعدة مؤمنة بالمدينة (يثرب) صالحة لاستقبال النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أراد الهجرة من مكة المكرمة فأسلم الكثير، ومن جملتهم زعيم الأوس (أسيد) وقبيلته كذلك.

فهذه الآفاق الجديدة هي التي كسرت الأسوار المطوقة للرسالة الإسلامية وللمسلمين آنذاك وقرّر النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبتعد عن مكة ذات الحساسية المضادة للإسلام. - على العموم - هاجر إلى المدينة المنورة حيث أصبحت المحطة الرئيسية لقيام الدولة الإسلامية ولنشر الدين الإسلامي فاستقبلته أرضية المدينة المنورة المهيئة لعمل الإسلامي وترك علياً (عليه السلام) نائماً في فراشه ليلة الهجرة فتدخلت العناية الإلهية مباشرة لتضيع معالم اختفائهم في الغار، المهم وصل النبي بموكبه المهاجر إلى المدينة المنورة واستقبلته قلوب الناس بحفاوة وإكرام وقد شرع بمجرد وصوله بمشاريعه الاجتماعية والثقافية والتغييرية فبنى المسجد النبوي وآخى بين المهاجرين والأنصار وبدأ بالإعداد العسكري (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل...) تحسباً للمعارك المستقبلية التي ستنتجها مجمل الاضغان الجاهلية والمصالح المهددة والروح الانتقامية لآلهتهم المتساقطة بالإضافة إلى التركيبة الاجتماعية والفكرية على أرض الحجاز.. هذا الخليط من الدوافع تبلور للوقوف ضد هذا الدين الجديد ومحاربة رسوله وملاحقة المؤمنين به في كل مكان وبكافة المستويات فعلى المستوى الفردي أو الجماعي كان يظهر ذلك الحقد الدفين في تعاملهم الشرير مع المسلمين وفي كافة معادلات الصراع بين الحق والباطل مثلاً تخبرنا صفية بنت حي بن أخطب - أحد كبار اليهود - بعدما جاء النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة وعرف الناس به فكان من جملة الذهبين لرؤيته حي بن أخطب والد صفية وعمها أبو ياسر بن أخطب تروي صفية وتقول: (فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس). قالت: فأتيا (أبوها وعمها) كالّيْن كسلانين ساخطين يمشيان الهوينا قالت فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم قالت: فسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو ؟ قال نعم والله.

قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟. قال: عداوته والله ما بقيت (23).

وحقاً تنطبق عليهما وعلى أمثالهما الآية الكريمة: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين). [سورة البقرة: الآية 89].

وبالفعل تمت اتفاقية سرية بين اليهود وقريش وبين كافة المعارضين والمتضررين فقريش من مكة واليهود من المدينة وهما قوتان لا يستهان بهما اتفقتا لغرض تصفية رواد الدين الجديد ! وخاض المسلمون معارك المصير بجدية واندفاع فنصرهم الله واتم كلمته العليا فتم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ودخل الناس إلى الإسلام وابتدأت مسيرة الحضارة الإسلامية بعد أن سقطة الأقنعة وتبين الاندفاع الباطل لأصنامهم وجاهليتهم فانتصر الإسلام في بدر وأُحد بعد الدرس القاسي وفي معركة الأحزاب أيضاً وانهزم اليهود وتساقطة قلاعهم الواحدة تلو الأخرة وانتشر الإسلام خارج الحجاز وامتد إلى العالم بعد أن ترسخت دعائم الشريعة في قلوب المؤمنين وكانت المعجزة الكبرى للنبي الكريم - القرآن المجيد - الصوت الرادع للمنافقين والكافرين وبلسم الشفاء للمؤمنين وبالفعل لقد طأطأ الجبابرة رؤوسهم وانحنى البلغاء والأدباء وأمام أسلوبه المتين ومنهجيته المستقيمة.

فوضع النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أُسس الحضارة الإسلامية وبيّن كيفية تطبيق الرسالة والدعوة والعمل والجهاد للإسلام وإمكانية قيام الدولة الإسلامية على أساس التشريع الديني وقد مارس في حياته المباركة كافة القوانين الإسلامية بمختلف الأصعدة على ضوء أوامر الله عز وجل.

من هذا العرض السريع لحياة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وجهاده نستنتج عدة أمور لابد أن ندرسها بشيءٍ من التوضيح..

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

كم يبلغ عدد الشيعة في العالم ؟
الإسماعيلية
في هكذا ظروف ومريم العفيفة الباكر خافت على ...
مـن هو الذكـي...؟؟
استدراك خائب
ما فائدة البحث عن إمامة عليّ في هذه الأزمان؟
شرح قول الإمام وفيك انطوى العالم الأكبر
مراتب وأقسام التوحید
ما معنى الخط و النقطة و ما معنى "أنا النقطة تحت ...
اسلوب التفسير بالرأي

 
user comment