التوحید ونبذ الشرک من أهم المسائل العقائدیة التی تصدرت المفاهیم والتعالیم السماویة على الإطلاق ، ویعد أساسا لسائر المعارف الإلهیة التی جاء بها رسل الله فی کتبهم وکلماتهم . وبما أن للتوحید مراتب بینها علماء الإسلام فی کتبهم العقائدیة نأتی بها على سبیل الإجمال ونردف کل قسم منها بآیة أو آیات قرآنیة ثم نبحث بإسهاب عن التوحید فی العبادة الذی هو آخر مراتبه . فنقول : إن للتوحید أقساما : الأول : التوحید فی الذات والمراد منه هو أنه سبحانه واحد لا نظیر له ، فرد لا
التوحید ونبذ الشرک من أهم المسائل العقائدیة التی تصدرت المفاهیم والتعالیم السماویة على الإطلاق ، ویعد أساسا لسائر المعارف الإلهیة التی جاء بها رسل الله فی کتبهم وکلماتهم .
وبما أن للتوحید مراتب بینها علماء الإسلام فی کتبهم العقائدیة نأتی بها على سبیل الإجمال ونردف کل قسم منها بآیة أو آیات قرآنیة ثم نبحث بإسهاب عن التوحید فی العبادة الذی هو آخر مراتبه . فنقول : إن للتوحید أقساما :
الأول : التوحید فی الذات والمراد منه هو أنه سبحانه واحد لا نظیر له ، فرد لا مثیل له ، بل یمتنع أن یکون له نظیر أو مثیل ، قال سبحانه : * ( لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ ) * . ( 1 )
وقال سبحانه : * ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ یَلِدْ وَلَمْ یُولَدْ * وَلَمْ یَکُن لَّهُ کُفُوًا أَحَدٌ ) * . ( 2 )
الثانی : التوحید فی الخالقیة والمراد أنه لیس فی صحیفة الوجود خالق غیر الله سبحانه ، ولا مؤثر سواه ، وأن ما فی الکون من السماوات والأرض والجبال والبحار والعناصر والمعادن والنباتات والأشجار فهو مخلوق لله سبحانه ، فوجودها وأفعالها وآثارها کلها مخلوقة لله تبارک وتعالى .
فالشمس وحرارتها ، والقمر وإنارته ، والنار وإحراقه وغیر ذلک من الفواعل والأسباب کلها مخلوقة لله تبارک وتعالى مع آثارها ومسبباتها ، قال سبحانه : * ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) * ( 3 ) .
وقال سبحانه : * ( اللَّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ وَکِیلٌ ) * ( 4 )
وقال تعالى : * ( ذَلِکُمُ اللَّهُ رَبُّکُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ کُلِّ شَیْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) * ( 5)
لکن جرت مشیئته على خلق الأشیاء عن طریق أسبابها فکون العالم کله مخلوقا لله سبحانه لیس بمعنى إنکار علاقة السببیة ،
الثالث : التوحید فی الربوبیة والمراد منه أن للکون مدبرا واحدا متصرفا کذلک لا یشارکه فی التدبیر شئ فهو سبحانه المدبر الوحید للکون على الإطلاق ، قال سبحانه : * ( إِنَّ رَبَّکُمُ اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ یُدَبِّرُ الأَمْرَ ) * (6 ) وقال سبحانه : * ( اللَّهُ الَّذِی رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ کُلٌّ یَجْرِی لأَجَلٍ مُّسَمًّى یُدَبِّرُ الأَمْرَ ) * . ( 7 )
تجد أنه سبحانه یذکر بعد خلق السماوات والأرض ، تدبیر أمر الخلقة ، وربوبیتها فیحصره فی ذاته فلا مدبر ولا رب إلا هو ، فیکون الخالق هو الموجد ، والرب والمدبر لأمر الخلقة ودوامها واستمرارها .
نعم ثمة سؤال وهو أنه إذا لم یکن مدبر سواه فما معنى قوله سبحانه : * ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) * ( 8 ) أو قوله تعالى : * ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَیُرْسِلُ عَلَیْکُم حَفَظَةً ) * ( 9) فإن الحفظة جمع " الحافظ " وهم الذین یحفظون العباد ویدبرون شؤون حیاتهم ، أفهناک تناف بین هذا الإثبات والحصر السابق ؟ !
والجواب أن من کان ملما بحقائق القرآن وعارفا بلسانه یقف على عدم وجود أی تناقض وتناف بین ذلک النفی وهذا الإثبات ، وذلک لأن الهدف من حصر التدبیر بالله سبحانه هو حصره به على وجه الاستقلال ، أی من یدبر بنفسه غیر معتمد على شئ .
وأما المثبت لتدبیر غیره ، فیراد منه أنه یدبر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعی فکل مدبر فی الکون من ملک وغیره فهو مظهر أمره ومنفذ إراداته .
ولیس هذا بعزیز فی القرآن ترى أنه سبحانه ینسب فعلا لنفسه وفی الوقت نفسه ینسبه لشخص آخر ، ولا تناقض ، لاختلاف النسبتین فی الاستقلال والتبعیة ، قال سبحانه : * ( اللَّهُ یَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِینَ مَوْتِهَا ) * ( 10 )
وقال : * ( حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) * . ( 11)
فالتوفی على وجه الاستقلال هو فعله سبحانه ، وأما التوفی بحوله وقدرته وإرادته وأمره فهو فعل الرسل .
وبعبارة أخرى : هناک فعل واحد وهو التوفی ، ینسب إلى الله بنحو وإلى رسله بنحو آخر ، دون أی تناف وتنافر بین هذین النسبتین . ونظیره قوله سبحانه : * ( وَاللَّهُ یَکْتُبُ مَا یُبَیِّتُونَ ) * ( 12 ) وفی الوقت
نفسه یعتبر الملائکة کتبة الأعمال ویقول : * ( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ ) * . ( 13 )
وبذلک تقف على معنى التوحید فی التدبیر والتأثیر ، ولیس معناه خلو کل موجود من التأثیر وأن آثار الأسباب تفاض من الله سبحانه بلا واسطة ، بل معناه أن الآثار والمسببات ، للأسباب نفسها ، فالشمس مضیئة ، والقمر منیر والنار محرقة حقیقة ، ولکن بجعل منه سبحانه ، فالجمیع من مظاهر أمره وإرادته .
ومن زعم أن معنى التوحید فی الربوبیة هو نفی الآثار عن الأسباب فقد نازع وجدانه ، کما نازع الوحی المبین حیث إنه یثبت الأثر الطبیعی لکل سبب وفی الوقت نفسه یربطهما بالله سبحانه ، قال : * ( الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّکُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) * . (14 )
تجد أن الوحی اعترف بسببیة الماء لخروج الثمرات الطیبة ولیست هذه الآیة وحیدة فی هذا الباب ، بل فی القرآن الکریم نماذج من هذا النوع ، قال سبحانه : * ( وَفِی الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِیلٌ صِنْوَانٌ وَغَیْرُ صِنْوَانٍ یُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِی الأُکُلِ إِنَّ فِی ذَلِکَ لَآیَاتٍ لِّقَوْمٍ یَعْقِلُونَ ) * . (15)
فتستدل الآیة على أن تدبیره سبحانه فوق تدبیر الفواعل الطبیعیة ، وذلک بشهادة أن الجنات تثمر أثمارا مختلفة مع وحدة الشرائط والظروف المحیطة بها من وحدة الماء والأرض ، وهذا یدل على أن وراء الأمور الطبیعیة والأسباب المادیة مدبرا فوقها ، وعلى الرغم من هذا الاعتراف إلا أنه لا ینفی تأثیر العوامل الطبیعیة من دون أن یراها کافیة فی خلق هذا التنوع . هذا هو منطق القرآن فی التوحید والتدبیر والربوبیة ، فمن أراد التفصیل فلیرجع إلى الکتب العقائدیة .
الرابع : التوحید فی التشریع والتقنین والمراد منه أن التشریع والتقنین للإنسان حق مختص بالله تبارک وتعالى فهو المشرع الوحید للمجتمع الإنسانی ولا یحق لأحد التقنین .
قال سبحانه : * ( إِنِ الْحُکْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِیَّاهُ ) * (16 ) والمراد من حصر الحاکمیة بالله هو حصر الحاکمیة التشریعیة ، فالآیة تهدف إلى أنه لا یحق لأحد أن یأمر وینهى ویحرم ویحلل سوى الله سبحانه ولأجل أن المراد من الحکم المختص بالله سبحانه ، هو التشریع أردفه بقوله : * ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِیَّاهُ ) * فالمراد من الأمر هنا هو الأمر التشریعی .
وقال سبحانه : * ( أَفَحُکْمَ الْجَاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُکْمًا لِّقَوْمٍ یُوقِنُونَ ) * ( 17 ) فالآیة تقسم القوانین إلى : إلهیة وجاهلیة ، وبما أن ما کان من صنع الفکر البشری لیس إلهیا فیکون حکما جاهلیا البتة .
الخامس : التوحید فی الطاعة والمراد أنه لا یجب طاعة سوى الله تعالى ، فهو وحده یجب أن یطاع وأن تمتثل أوامره ونواهیه ، وأما طاعة غیره فتجب بإذنه وأمره وإلا کانت محرمة موجبة للشرک فی الطاعة ، قال سبحانه : * ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ ) * ( 18 ) والدین فی الآیة بمعنى الطاعة أی مخلصین الطاعة له ولا یطیعون غیره .
نعم تجب طاعة النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " لأمره تعالى ، قال سبحانه : * ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِیُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) *( 19)
وفی آیة أخرى عدت طاعة النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " من مظاهر طاعة الله وقال : * ( مَّنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) * . (20 ) وعلى ضوء ذلک فإطاعة النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وأولی الأمر والوالدین إنما هو بإذنه وأمره سبحانه ولولاه لم تکن طاعتهم واجبة ، بل ولا الانقیاد لأوامرهم جائزة فهناک مطاع بالذات وهو الله وغیره مطاع بالعرض وبأمره .
السادس : التوحید فی الحاکمیة والمراد منه أن الحکم على الناس حق مختص بالله تبارک و تعالى ، وحکومة الغیر یجب أن تنتهی إلى الله تبارک وتعالى ، وذلک لأن الحکومة والحاکمیة فی المجتمع لا تنفک عن التصرف فی النفوس والأموال وتحدید الحریات وذلک فرع ولایة ، للحاکم على المحکوم ولولاها لعد التصرف عدوانا ومما لا شک فیه أن الولایة لله المالک الحقیقی للإنسان الخالق له ، والمدبر له ، فلا یحق لأحد الإمرة على العباد إلا بإذن منه سبحانه .
قال سبحانه : * ( إِنِ الْحُکْمُ إِلاَّ لِلَّهِ یَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَیْرُ الْفَاصِلِینَ ) * . ( 21 )
وقال سبحانه : * ( أَلاَ لَهُ الْحُکْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِینَ ) * ( 22 ) فالحکومة على الناس - سواء أکانت بصورة القضاء وفض الخصومة أو بصورة الإمرة - حق لله ، وغیره یمارسها بإذنه وإلا فیکون من قبیل حکم الطواغیت الذی شجبه القرآن فی أکثر من آیة .
السابع : التوحید فی العبادة والمراد منه حصر العبادة بالله سبحانه وهذا هو الأصل المتفق علیه بین جمیع طوائف المسلمین فلا یکون المسلم مسلما إلا بعد الاعتراف بهذا الأصل ، وشعار المسلمین الذی یرددونه کل یوم هو قوله سبحانه : * ( إِیَّاکَ نَعْبُدُ ) * فعبادة غیره إشراک للغیر مع الله فی العبادة ، موجبة لخروج المسلم عن ربقة الإسلام .
وثمة أمر آخر وهو أن الضابطة الکلیة - حصر العبادة بالله سبحانه - أمر لا غبار علیه ، لکن ثمة أمورا ربما یتصور أنها من قبیل العبادة لغیر الله ، وهذا ما سنتطرق إلیه فی الفصل الخامس ، وعلى ذلک فالنزاع لیس کبرویا بل صغروی ، أی لا نزاع لأحد فی أنه لا تجوز عبادة غیره ، وإنما الکلام فی أن هذا الأمر هل هو عبادة غیره سبحانه أو لا ؟ مثلا هل إقامة الاحتفالات فی الأعیاد والمهرجانات الدینیة عبادة لصاحب الذکرى ، أو هو تکریم وتبجیل وتعظیم له ، فلو کانت عبادة تکون محرمة وشرکا بلا شک ، ولو کان تکریما وتعظیما له یکون أمرا جائزا بل مستحبا .
وبما أن للتوحید مراتب بینها علماء الإسلام فی کتبهم العقائدیة نأتی بها على سبیل الإجمال ونردف کل قسم منها بآیة أو آیات قرآنیة ثم نبحث بإسهاب عن التوحید فی العبادة الذی هو آخر مراتبه . فنقول : إن للتوحید أقساما :
الأول : التوحید فی الذات والمراد منه هو أنه سبحانه واحد لا نظیر له ، فرد لا مثیل له ، بل یمتنع أن یکون له نظیر أو مثیل ، قال سبحانه : * ( لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ ) * . ( 1 )
وقال سبحانه : * ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ یَلِدْ وَلَمْ یُولَدْ * وَلَمْ یَکُن لَّهُ کُفُوًا أَحَدٌ ) * . ( 2 )
الثانی : التوحید فی الخالقیة والمراد أنه لیس فی صحیفة الوجود خالق غیر الله سبحانه ، ولا مؤثر سواه ، وأن ما فی الکون من السماوات والأرض والجبال والبحار والعناصر والمعادن والنباتات والأشجار فهو مخلوق لله سبحانه ، فوجودها وأفعالها وآثارها کلها مخلوقة لله تبارک وتعالى .
فالشمس وحرارتها ، والقمر وإنارته ، والنار وإحراقه وغیر ذلک من الفواعل والأسباب کلها مخلوقة لله تبارک وتعالى مع آثارها ومسبباتها ، قال سبحانه : * ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) * ( 3 ) .
وقال سبحانه : * ( اللَّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ وَکِیلٌ ) * ( 4 )
وقال تعالى : * ( ذَلِکُمُ اللَّهُ رَبُّکُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ کُلِّ شَیْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) * ( 5)
لکن جرت مشیئته على خلق الأشیاء عن طریق أسبابها فکون العالم کله مخلوقا لله سبحانه لیس بمعنى إنکار علاقة السببیة ،
الثالث : التوحید فی الربوبیة والمراد منه أن للکون مدبرا واحدا متصرفا کذلک لا یشارکه فی التدبیر شئ فهو سبحانه المدبر الوحید للکون على الإطلاق ، قال سبحانه : * ( إِنَّ رَبَّکُمُ اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ یُدَبِّرُ الأَمْرَ ) * (6 ) وقال سبحانه : * ( اللَّهُ الَّذِی رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ کُلٌّ یَجْرِی لأَجَلٍ مُّسَمًّى یُدَبِّرُ الأَمْرَ ) * . ( 7 )
تجد أنه سبحانه یذکر بعد خلق السماوات والأرض ، تدبیر أمر الخلقة ، وربوبیتها فیحصره فی ذاته فلا مدبر ولا رب إلا هو ، فیکون الخالق هو الموجد ، والرب والمدبر لأمر الخلقة ودوامها واستمرارها .
نعم ثمة سؤال وهو أنه إذا لم یکن مدبر سواه فما معنى قوله سبحانه : * ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) * ( 8 ) أو قوله تعالى : * ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَیُرْسِلُ عَلَیْکُم حَفَظَةً ) * ( 9) فإن الحفظة جمع " الحافظ " وهم الذین یحفظون العباد ویدبرون شؤون حیاتهم ، أفهناک تناف بین هذا الإثبات والحصر السابق ؟ !
والجواب أن من کان ملما بحقائق القرآن وعارفا بلسانه یقف على عدم وجود أی تناقض وتناف بین ذلک النفی وهذا الإثبات ، وذلک لأن الهدف من حصر التدبیر بالله سبحانه هو حصره به على وجه الاستقلال ، أی من یدبر بنفسه غیر معتمد على شئ .
وأما المثبت لتدبیر غیره ، فیراد منه أنه یدبر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعی فکل مدبر فی الکون من ملک وغیره فهو مظهر أمره ومنفذ إراداته .
ولیس هذا بعزیز فی القرآن ترى أنه سبحانه ینسب فعلا لنفسه وفی الوقت نفسه ینسبه لشخص آخر ، ولا تناقض ، لاختلاف النسبتین فی الاستقلال والتبعیة ، قال سبحانه : * ( اللَّهُ یَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِینَ مَوْتِهَا ) * ( 10 )
وقال : * ( حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) * . ( 11)
فالتوفی على وجه الاستقلال هو فعله سبحانه ، وأما التوفی بحوله وقدرته وإرادته وأمره فهو فعل الرسل .
وبعبارة أخرى : هناک فعل واحد وهو التوفی ، ینسب إلى الله بنحو وإلى رسله بنحو آخر ، دون أی تناف وتنافر بین هذین النسبتین . ونظیره قوله سبحانه : * ( وَاللَّهُ یَکْتُبُ مَا یُبَیِّتُونَ ) * ( 12 ) وفی الوقت
نفسه یعتبر الملائکة کتبة الأعمال ویقول : * ( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ ) * . ( 13 )
وبذلک تقف على معنى التوحید فی التدبیر والتأثیر ، ولیس معناه خلو کل موجود من التأثیر وأن آثار الأسباب تفاض من الله سبحانه بلا واسطة ، بل معناه أن الآثار والمسببات ، للأسباب نفسها ، فالشمس مضیئة ، والقمر منیر والنار محرقة حقیقة ، ولکن بجعل منه سبحانه ، فالجمیع من مظاهر أمره وإرادته .
ومن زعم أن معنى التوحید فی الربوبیة هو نفی الآثار عن الأسباب فقد نازع وجدانه ، کما نازع الوحی المبین حیث إنه یثبت الأثر الطبیعی لکل سبب وفی الوقت نفسه یربطهما بالله سبحانه ، قال : * ( الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّکُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) * . (14 )
تجد أن الوحی اعترف بسببیة الماء لخروج الثمرات الطیبة ولیست هذه الآیة وحیدة فی هذا الباب ، بل فی القرآن الکریم نماذج من هذا النوع ، قال سبحانه : * ( وَفِی الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِیلٌ صِنْوَانٌ وَغَیْرُ صِنْوَانٍ یُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِی الأُکُلِ إِنَّ فِی ذَلِکَ لَآیَاتٍ لِّقَوْمٍ یَعْقِلُونَ ) * . (15)
فتستدل الآیة على أن تدبیره سبحانه فوق تدبیر الفواعل الطبیعیة ، وذلک بشهادة أن الجنات تثمر أثمارا مختلفة مع وحدة الشرائط والظروف المحیطة بها من وحدة الماء والأرض ، وهذا یدل على أن وراء الأمور الطبیعیة والأسباب المادیة مدبرا فوقها ، وعلى الرغم من هذا الاعتراف إلا أنه لا ینفی تأثیر العوامل الطبیعیة من دون أن یراها کافیة فی خلق هذا التنوع . هذا هو منطق القرآن فی التوحید والتدبیر والربوبیة ، فمن أراد التفصیل فلیرجع إلى الکتب العقائدیة .
الرابع : التوحید فی التشریع والتقنین والمراد منه أن التشریع والتقنین للإنسان حق مختص بالله تبارک وتعالى فهو المشرع الوحید للمجتمع الإنسانی ولا یحق لأحد التقنین .
قال سبحانه : * ( إِنِ الْحُکْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِیَّاهُ ) * (16 ) والمراد من حصر الحاکمیة بالله هو حصر الحاکمیة التشریعیة ، فالآیة تهدف إلى أنه لا یحق لأحد أن یأمر وینهى ویحرم ویحلل سوى الله سبحانه ولأجل أن المراد من الحکم المختص بالله سبحانه ، هو التشریع أردفه بقوله : * ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِیَّاهُ ) * فالمراد من الأمر هنا هو الأمر التشریعی .
وقال سبحانه : * ( أَفَحُکْمَ الْجَاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُکْمًا لِّقَوْمٍ یُوقِنُونَ ) * ( 17 ) فالآیة تقسم القوانین إلى : إلهیة وجاهلیة ، وبما أن ما کان من صنع الفکر البشری لیس إلهیا فیکون حکما جاهلیا البتة .
الخامس : التوحید فی الطاعة والمراد أنه لا یجب طاعة سوى الله تعالى ، فهو وحده یجب أن یطاع وأن تمتثل أوامره ونواهیه ، وأما طاعة غیره فتجب بإذنه وأمره وإلا کانت محرمة موجبة للشرک فی الطاعة ، قال سبحانه : * ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ ) * ( 18 ) والدین فی الآیة بمعنى الطاعة أی مخلصین الطاعة له ولا یطیعون غیره .
نعم تجب طاعة النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " لأمره تعالى ، قال سبحانه : * ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِیُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) *( 19)
وفی آیة أخرى عدت طاعة النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " من مظاهر طاعة الله وقال : * ( مَّنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) * . (20 ) وعلى ضوء ذلک فإطاعة النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وأولی الأمر والوالدین إنما هو بإذنه وأمره سبحانه ولولاه لم تکن طاعتهم واجبة ، بل ولا الانقیاد لأوامرهم جائزة فهناک مطاع بالذات وهو الله وغیره مطاع بالعرض وبأمره .
السادس : التوحید فی الحاکمیة والمراد منه أن الحکم على الناس حق مختص بالله تبارک و تعالى ، وحکومة الغیر یجب أن تنتهی إلى الله تبارک وتعالى ، وذلک لأن الحکومة والحاکمیة فی المجتمع لا تنفک عن التصرف فی النفوس والأموال وتحدید الحریات وذلک فرع ولایة ، للحاکم على المحکوم ولولاها لعد التصرف عدوانا ومما لا شک فیه أن الولایة لله المالک الحقیقی للإنسان الخالق له ، والمدبر له ، فلا یحق لأحد الإمرة على العباد إلا بإذن منه سبحانه .
قال سبحانه : * ( إِنِ الْحُکْمُ إِلاَّ لِلَّهِ یَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَیْرُ الْفَاصِلِینَ ) * . ( 21 )
وقال سبحانه : * ( أَلاَ لَهُ الْحُکْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِینَ ) * ( 22 ) فالحکومة على الناس - سواء أکانت بصورة القضاء وفض الخصومة أو بصورة الإمرة - حق لله ، وغیره یمارسها بإذنه وإلا فیکون من قبیل حکم الطواغیت الذی شجبه القرآن فی أکثر من آیة .
السابع : التوحید فی العبادة والمراد منه حصر العبادة بالله سبحانه وهذا هو الأصل المتفق علیه بین جمیع طوائف المسلمین فلا یکون المسلم مسلما إلا بعد الاعتراف بهذا الأصل ، وشعار المسلمین الذی یرددونه کل یوم هو قوله سبحانه : * ( إِیَّاکَ نَعْبُدُ ) * فعبادة غیره إشراک للغیر مع الله فی العبادة ، موجبة لخروج المسلم عن ربقة الإسلام .
وثمة أمر آخر وهو أن الضابطة الکلیة - حصر العبادة بالله سبحانه - أمر لا غبار علیه ، لکن ثمة أمورا ربما یتصور أنها من قبیل العبادة لغیر الله ، وهذا ما سنتطرق إلیه فی الفصل الخامس ، وعلى ذلک فالنزاع لیس کبرویا بل صغروی ، أی لا نزاع لأحد فی أنه لا تجوز عبادة غیره ، وإنما الکلام فی أن هذا الأمر هل هو عبادة غیره سبحانه أو لا ؟ مثلا هل إقامة الاحتفالات فی الأعیاد والمهرجانات الدینیة عبادة لصاحب الذکرى ، أو هو تکریم وتبجیل وتعظیم له ، فلو کانت عبادة تکون محرمة وشرکا بلا شک ، ولو کان تکریما وتعظیما له یکون أمرا جائزا بل مستحبا .
المصادر:
1- الشورى / 11 .
2- الإخلاص / 1 - 4 .
3- الرعد / 16 .
4- الزمر / 62 .
5- الأنعام / 102 .
6- یونس / 3 .
7- الرعد / 2 .
8- النازعات / 5 .
9- الأنعام / 61 .
10- الزمر / 42 .
11- الأنعام / 61 .
12- النساء / 81 .
13- الزخرف / 80 .
14- البقرة / 22 .
15- الرعد / 4 .
16- یوسف / 40 .
17- المائدة / 50 .
18- البینة / 5 .
19- النساء / 64 .
20- النساء / 80 .
21- الأنعام / 57 .
22- الأنعام / 62
1- الشورى / 11 .
2- الإخلاص / 1 - 4 .
3- الرعد / 16 .
4- الزمر / 62 .
5- الأنعام / 102 .
6- یونس / 3 .
7- الرعد / 2 .
8- النازعات / 5 .
9- الأنعام / 61 .
10- الزمر / 42 .
11- الأنعام / 61 .
12- النساء / 81 .
13- الزخرف / 80 .
14- البقرة / 22 .
15- الرعد / 4 .
16- یوسف / 40 .
17- المائدة / 50 .
18- البینة / 5 .
19- النساء / 64 .
20- النساء / 80 .
21- الأنعام / 57 .
22- الأنعام / 62
source : rasekhoon