عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

العقل وعصمة الاَنبياء

العقل وعصمة الاَنبياء

 إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الاَنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم: (رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (43)وقال سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُوَْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ). (44) والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل، وهذا هو ما يسمى في علم الاَخلاق بـ "التريبة".

 ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه، وهذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

 وإن شئت قلت: إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي، ولو كان هناك انفكاك بينهما لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

 سوَال وجواب

 نعم يمكن أن يقال: يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

 أقول: الاِجابة عن هذا السوَال سهلة، لاَنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الاِشكالات.

 أمّا أوّلاً: فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للاِنسان، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الاِنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي، فإنّ العوامل التي تسوق الاِنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة .

 وأمّا ثانياً: فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته (الداعى لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي) في حق الداعي ومدعي النبوة، إذ كيف يمكن الاِنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم، لا يكذب أصلاً عندما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الاِصلاح بنفس هذا التفكيك، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

 وعلى الجملة: انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الاِلهية التي يقوم بأعبائها الاَنبياء والرسل، ولا يتحقق ذلك الهدف إلاّ بعد اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

 وبهذا البيان تظهر الاِجابة عن سوَال لا يقصر في الضآلة عن السوَال الماضي. وهو ما ربما يقال: إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات، وهذا القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة.

 والجواب عن هذا السوَال واضح تمام الوضوح، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به، إذ ما الذي يمنعه ـ عندئذ ـ من أن يكذب ويتستر على كذبه، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل.

 أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته، ويظهر عيبه.

 إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالاَنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلاَ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

 تقرير المرتضى لهذا البرهان

 إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

 قال ما هذا حاصله: إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك، وهذا هو معنى قولنا: إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول والمرجع فيما ينفر ومالا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه، وليس ذلك مما يستخرج بالاَدلة والمقاييس، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، وانّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.

 فإن قيل: أليس قد جوّز كثير من الناس على الاَنبياء : الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع، وهذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة.

 قلنا: هذا سوَال من لم يفهم ما أوردناه، لاَنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الاَمر جملة، وانّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه وانّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول، كما أنّا مع الاَمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

 ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه، ولا يخرجه من أن يكون مقرباً، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

 فإن قيل: فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم، ولم يبق وجه يقتضي التنفير ؟

قلنا: الطريقة في الاَمرين واحدة، لاَنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الاَحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاَحوال ولا على وجه من الوجوه، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وان وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً وموَثراً، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير (ولاَجل ذلك) وجب أن لا يكون فيه شىء من التنفير، لاَنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الاَحيان والاَوقات المتباعدة منفر أيضاً، وان فارق الاَوّل في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الاَوّل من أن يكون منفراً في نفسه.

 فإن قيل: فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الاَنبياء : في حال النبوة وقبلها؟

 قلنا: الطريقة في نفى الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفى الكبائر في الحالتين عند التأمّل، لاَنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمها، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الاَنبياء : أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو قبلها وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها. (45)

 إجابة عن سوَال آخر : ربما يقال: إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً، ومن المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة، وفي نهاية الكمال، ولاَجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الاَنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم.

 هذا هو السوَال، وأمّا الجواب: فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة، لاَجل وجهين:

 إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين، وإمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية وكلا الاَمرين لا يناسب ساحته سبحانه، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين، وتحقيق أهدافه على الوجه الاَكمل.

 يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لاَحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الاَهداف، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير، وهذا لا يليق بساحته تعالى.

ولاَجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرح بعصمة الاَنبياء تارة، ويشير إليها أحياناً حيث يصفهم بأنّهم مهديون لا يضلون أبداً، وإليك هذه الآيات التي تعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الاَنبياء.

 الآية الاَُولى

 قال سبحانه: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرّيَّـتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلّ مِنَ الصّالِحينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاً فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ). (46) ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمينَ). (47) والآية الاَخيرة تصف الاَنبياء بأنّهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.

 

المصادر :

(1) يوسف الآية 24.

(2) المائدة الآية 11

(3) آل عمران 122.

(4) الأنفال الآية 16.

(5) التكاثر 5 - 6.

(6) يوسف الآية 30.

(8) يوسف الآية 51.

(9) يوسف الآية 32.

(10) يوسف 24.

(11) يوسف 52.

(12) يوسف 32.

(13) يوسف 33 - 34.

(14) يوسف 51.

(15) يوسف 54.

(16) يوسف 53.

(17) حصحص الحق: بأن بعد كتمانه.

(18) يوسف الآية 51 - 53.

 (19)القصص: 32.

 (20)النساء: 174.

 (21) النمل: 64.

 (22) راجع ص 21 ـ 25 من هذا الكتاب .

 (23) الاِسراء: 74.

 (24 ) النساء: 113.

 (25) يوسف: 23 ـ 24.

 (26) تفسير المنار: 12|286.

 (27) التوبة: 13.

 (28) التوبة: 74.

(29) القصص: 32.

 (30) الميزان: 11|142.

(31) النجم: 11.

 (32) . فاطر: 8.

 (33) الاَعراف: 149.

(34) قصص الأنبياء ص 120 و 138 - 144.

(35) يوسف الآية 15.

(36) ويشقان: بمعنى يثقلان.

(37) الفرقان الآية 15.

(38) الفرقان 24.

(39) يوسف الآية 100.

(40) يوسف الآية 100.

(41) نزع الشيطان بينهم: أغرى بعضهم على بعض.

(42) يوسف الآية 55.

 (43) . البقرة: 129.

 (44) . آل عمران: 164.

 (45) . تنزيه الاَنبياء: 4 ـ 6.

 (46) . الاَنعام: 84 ـ 87.

 (47) . الاَنعام: 90.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الجبر والاختيار
سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 3
صفات الخالق وخصائصه
آراء الحكماء في المعاد الجسماني
المناظرة الحادية عشر/سماحة الشيخ مصطفى الطائي
أسباب النزول بين العموم والخصوص
الصفات الذاتية الثبوتية
المراد من الاثني عشر عند أهل السنة
التسليم
رجاء الله وخشيته

 
user comment